إذا اجتمع نظام سياسي مستبد مع غياب الوعي والثقافة عن الامة او المجتمع، فالنتيجة ستكون مأساوية وسينعدم أي امل بالتغيير او الإصلاح لدى الانسان امام دكتاتورية النظام وادواته القمعية وسياسته المنحرفة التي \"تجعل الناس في وادٍ لا يعيرون أهمية لما يجري في بلادهم. كما أن...
منذ سنوات والاحتجاجات الشعبية تعصف بالوضع الهش للعراق الذي بالكاد خرج منتصراً، (على المستوى العسكري)، من حرب مدمرة مع التنظيمات الإرهابية، في ظل عدم استقرار اقتصادي وأمني وسياسي، حيث طالب المحتجون ومنذ عام 2015 وما تلاها، بتحسين واقع الخدمات والبنى التحتية للبلد وتوفير فرص العمل للشباب والعاطلين، ومحاسبة كبار الفاسدين وإيقاف هدر المال العام، وانهاء نفوذ الأحزاب وشخصياتها المسيطرة على اغلب مفاصل الدولة، من دون ان يلمس المواطنون أي استجابة او تغيير او سعي لإصلاح حقيقي من جانب الحكومات التي تعاقبت على الحكم، او الأحزاب المتحكمة بالمشهد السياسي العراقي، وهو ما أدى بالنتيجة الى عزوف ملايين الناخبين المشاركة في الدورة الانتخابية الأخيرة بعد ان فقدوا الامل في تحقيق مطالبهم.
وقد شهدت المظاهرات الأخيرة (أكتوبر/2019) اختلافا جوهريا ميزها عن مظاهرات واحتجاجات الأعوام السابقة من حيث:
1. جيل الشباب هم الفئة الغالبة على المحتجين (15-25 عاما)، وهو جيل كان شاهداً على أداء النظام السياسي الجديد في العراق، ولم يشهد اغلبهم النظام السياسي السابق.
2. ارتفاع سقف المطالب من توفير الخدمات والعمل ومكافحة الفساد الى تغيير طبيعة النظام ومحاكمة وتعديل الدستور واسقاط الحكومة وغيرها من المطالب.
3. العنف المفرط من قبل الحكومة او أطراف أخرى مجهولة (لم تسمها الحكومة او تحددها) في التعامل مع المتظاهرين، الامر الذي أدى الى سقوط الالاف بين شهيد وجريح.
مشاكل مركبة
المشكلة في العراق ليست فردية، بل هي مجموعة من المشاكل المعقدة ذات الطبيعة المركبة، اي التي ترتبط احداهما بالأخرى، وهي مشاكل ذات بعد تاريخي يعود لعقود من زمن الاستعمار والحروب والحصار والاستبداد والفساد، في مقابل سبات عميق لوعي الامة في محاربة كل أنواع الظلم والاستبداد والفساد والتطلع نحو الحرية والتحرر من قيود الأنظمة المستبدة وفسادها، وقد لخصها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي بعبارة: "المشكلة في بلادنا تكمن في أمرين: مشكلة الحكام وحكوماتهم الظالمة، ومشكلة غياب الوعي والثقافة عن الأمة".
وبطبيعة الحال، إذا اجتمع نظام سياسي مستبد مع غياب الوعي والثقافة عن الامة او المجتمع، فالنتيجة ستكون مأساوية وسينعدم أي امل بالتغيير او الإصلاح لدى الانسان امام دكتاتورية النظام وادواته القمعية وسياسته المنحرفة التي "تجعل الناس في وادٍ لا يعيرون أهمية لما يجري في بلادهم. كما أن السياسة المنحرفة تعرقل كل خطوةٍ إلى الأمام"، وقد يصل الحد بأن "تجبر السياسة الناس على تغيير عقائدهم، ومحاكم التفتيش في العصور السابقة، ومحاكم التفتيش في العصور الإسلامية الان وإن لم يسموها بمحاكم التفتيش أدل دليل على ذلك"، كما أشار اليها سماحة المرجع الراحل (رحمه الله).
ان المشاكل المركبة التي يعاني منها المجتمع العراقي تجعل من أي حركة إصلاحية تدور في دائرة مغلقة لا يمكن الوصول معها الى حل، فالمشكلة الاقتصادية التي يعاني منها العراق (على سبيل المثال) تحتاج الى جهد يشمل جميع مؤسسات الدولة وخبرائها لتغيير الواقع الريعي (اقتصاد احادي الجانب يعتمد على النفط كمصدر يشكل أكثر من 90% من ميزانية الدولة) الى اقتصاد منتج تتعدد فيه جوانب الأرباح وفرص الاستثمار مع تنشيط القطاع الخاص وتقليل احكام قبضة الدولة المركزية على الاقتصاد.
ولكي يتحقق هذا الامر لابد من قرار حكومي من اعلى المستويات لتحويل هذا الجهد او الخطط الى واقع ملموس، ومع وجود اكثر من حزب وجهة سياسية داخل الحكومة سيتم عرقلة أي مشروع يمكن ان يتعارض مع مصلحة هذه الجهات، إضافة الى بيروقراطية القوانين والترهل الإداري الذي تعاني منه اغلب قطاعات الدولة والتي ستكون عائق اخر امام تيسير ونجاح تطبيق هذا الامر.
الأحزاب الحاكمة
بحسب ما صرح به المتظاهرون، وحلله الكثير من المراقبين، بل وما أكدته شخصيات مرموقة داخل الأحزاب الكبيرة الحاكمة في العراق منذ عام (2003) ولغاية اليوم، فان هذه الأحزاب هي من تتحمل كامل الإخفاق السياسي والتردي الاقتصادي والاجتماعي والانحدار الثقافي والمعرفي الذي وصل اليه العراق اليوم، وتتحمل مسؤولية فشل كل من تسلم مهام قيادية في الحكومات المتعاقبة على إدارة البلد سواء في السلطة التنفيذية او التشريعية او القضائية.
وإذا وقعت نسبة من الفشل على الأحزاب غير الإسلامية المتصدية للحكم في العراق، فان النسبة ستتضاعف على الأحزاب التي تدعي انتمائها الى مبادئ ونظريات وأفكار الإسلام في الحكم، كونها ستكون المرآة العاكسة في داخل العراق وخارجه على مدى نجاح او فشل الإسلام كدين سماوي في تطبيق نظرياته على الواقع، وبالتالي ستكون عليها مسؤولية الفشل ومسؤولية الإساءة الى الإسلام.
وقد شخص المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في عدد من عباراته، مكامن الخلل التي تعاني منها الأحزاب (بنسختها الإسلامية وغير الإسلامية) وفشلها في تطبيق ما تنظر اليه لأسباب مختلفة نستعرض بعضها:
1. عدم الالتزام بأخلاقيات العمل والسلام: حيث يقول المرجع الراحل: "لقد فشل كثير من الحركات والأحزاب الإسلامية في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي بسبب عدم التزامها بأخلاقيات العمل والسلام".
2. اتباع الصنمية وليس الحق: يقول (رحمه الله) "غالباً ما يصبح التنظيم الحزبي أو المؤسسي صنماً ويكون هو المحور لا الحق، وهذا أخطر ما يقع فيه التنظيم الإسلامي، فمتى ما صار التنظيم صنماً لا يكون إسلامياً، لأن الحق أحق أن يتبع، والتنظيم يجب أن يكون آلة وأداة لتطبيق الحق لا أن يكون معياراً فيبتعد عن الحق".
3. الغرور ونظرة الاحتقار الى الاخرين: يقول المرجع الراحل: "كثير من التنظيمات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية يأخذها الغرور والعجب بنفسها، فتنظر إلى الناس نظرة احتقار، وترى نفسها هي العاملة والآخرين كلهم خاملين، ولذلك سوف يحتقر الناس تلك التنظيمات وهو ما سيؤدي بالجميع تدريجياً الى الانهيار".
4. عدم فهم السياسي: يقول (رحمه الله): "كثير من المثقفين في العالم الإسلامي سواء أكانوا دينيين أم غيرهم لا يعرفون السياسة إلا ظاهراً منها لأنهم لم يدرسوها ولم يبحثوا فيها ولذا نرى المسلمين يصب عليهم البلاء، ويعجزون عن الخروج من المآزق والأزمات"، وقال ايضاً "إذا لم يعرف الإنسان مجريات السياسة وخصوصيتها، فإنه لا يتمكن من التدخل في شؤونها وتوجيهها والسير بها إلى الصراط المستقيم، بل يزيد في الطين بلة، وفي البلاد محنة".
5. الدكتاتورية: حيث يقول المرجع الراحل: "لا دكتاتورية في الإسلام، لا في الحكم ولا في المرجعية الدينية، ولا في الأحزاب والحركات والتنظيمات، فالإسلام دين الحريات والعدالة الاجتماعية".
مبادئ اساسية
من اهم المبادئ التي ينبغي ان يسير عليها الفرد والأمة والحكومات هو مبدأ (الشورى) ومبدأ (اللاعنف) وتطبيقه في مختلف نواحي الحياة، لانهما الأساس في توفير حياة كريمة خالية من الذل والعبودية، كما انها من تضمن الحريات العامة والخاصة داخل الاسرة والمجتمع، وهي من تحقق العدل والمساواة والسلام، وتوفر الحقوق وتضمن الواجبات بعيداً عن أي مظهر من مظاهر العنف.
وقد أشار سماحة المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي الى أهمية الشورى كنظام او قانون غاية في الأهمية بالقول: "ينبغي على العاملين في سبيل الله اعتماد الشورى في كل صغيرة وكبيرة ترتبط بالبلاد والعباد، وتحكيم علقة الأخوة بين أفراد المجتمع، والمساواة أمام القانون، وتوفير الحريات بين الناس، وجعل ميزان التفاضل هو التقوى والفضيلة، وتعميم العطف والرحمة، والتعاون والخدمة، واحترام العقل والعقلاء والفكر والمنطق"، كما انه اعتبر ان "من أسباب ظهور الديكتاتوريات الموجودة (اليوم) في بلدان المسلمين عدم تطبيق قانون الشورى في الحياة اليومية، الفردية والعائلية"، وهو ما يدلل على أهميته من جهة وعلى شموليته من جهة أخرى، فيما أكد على أهمية سياسة اللاعنف باعتبار ان "الثمار الإيجابية التي يجنيها الإنسان من سياسة اللاعنف في حياته هي محبة المجتمع لذلك الإنسان، وتقديره له، والتفاف الناس حوله".
نصائح ذهبية
لقد تناول المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابته ومحاضراته مختلف نواحي الهم العراقي على المستوى الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغيرها، وكان يهتم كثيراً بما يجري من احداث على بلده العراق وعلى اهله ويقدم لهم، في الكثير من المناسبات، النصائح والأفكار والارشادات كلما دعت الضرورة الى ذلك...
وقد جمعت بعضاً من كلمات المرجع الراحل (رحمه الله) التي سطرها في كتبه والتي اعتقد انها تصلح كـ(نصائح ذهبية) يمكن ان يستفيد منها المتظاهرون والساعون الى الإصلاح او التغيير:
1. النصيحة الأولى: "ينبغي عليكم ألا تدخروا وسعاً لتقويم كل اعوجاج، وللوقوف في وجه كل من يعمل ضد حرية الناس وضد حقوق المسلمين وغير المسلمين، وأن تتحملوا في ذلك مسؤوليتكم الكاملة أمام الله (عز وجل) وأمام الأمة وأمام الأجيال القادمة".
2. النصيحة الثانية: إذا كان دعاة الإصلاح قد فشلوا في الاتفاق على منهج بناء مقبول لدى الجميع، فهو لأنهم افتقدوا الى قاعدة مشتركة تلتقي بها وجهات نظرهم المتباينة.
3. النصيحة الثالثة: "على الذين يريدون التغيير أن يعقلنوا حركتهم وبحسب متطلبات الظروف لا بحسب رد الفعل، حيث إن الإنسان إذا كانت حركته في دائرة رد الفعل سيكون في أزمةٍ يخلقها عدوه له، حيث إن ردّ الفعل يسحب الإنسان حيث أراد صاحب الفعل، لا حيث هو يريد".
4. النصيحة الرابعة: "يلزم أن يتم انتخاب الحاكم الإسلامي أو شورى المرجعية للمجتمع الإسلامي عبر انتخابات حرة يحق للجميع المشاركة فيها، الصغار والكبار، الرجال والنساء".
5. النصيحة الخامسة: "من المهم جداً تحييد السلاح كي لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، وغالباً يمكن تحييد السلاح بابتعاد الشعب عن استخدام السلاح في إضراباته ومظاهراته، بأن تكون حركته سلمية، تتجنب العنف والشدة".
6. النصيحة السادسة: "يلزم دعم الشعوب التي تنشد الخلاص والحرية من خلال حث المجاميع الدولية على تكثيف الضغط السياسي والعسكري على كل حكومةٍ تريد ظلم شعبها، فالإنسان من حيث هو إنسان لا يرى فرقاً بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الآخرين له حيث لا يجوز -في حكم العقل والشرع- أن يترك الظالمون يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم مصادرة للأموال وتشريداً وقتلاً بحجة أنها شؤون داخلية".
7. النصيحة السابعة: "إذا اهتم الناس في بلد يحكمه ديكتاتوري لإسقاط الدكتاتور، دون أن يكون لهم منهج بديل للحكم القائم أو لهم منهج لكنه لم يكن واضحاً في بنوده وخصوصياته، فإنهم سيقعون مرة ثانية وثالثة ورابعة فريسة لدكتاتور جديد".
اضف تعليق