ولعل أهم ميزة يمكنني التوقف عندها قليلاً هي ميزة (المنهجية الوسطية)، حيث يتميّز سماحته بالعقلانية في التعامل مع الأحداث فلا ينساق لأي تيار من التيارات ولا يرضخ لأي حزب من الأحزاب، بل يبقى ذلك المرجع الذي ينظر إلى الأفق بعين كلها أمل وتفاؤل بالتغيير السلمي...
التمنّي كلمة نستعملها في حياتنا اليومية بشكل كبير وواضح، ومعناها في اللغة: "تمنّى الشيءَ قدّرَهُ وأحبَّ أن يصيرَ إليهِ"،[1] ومن منّا من لا يحبّ أن يحصل على الكثير من الأشياء المادية كالمسكن والأثاث والملبس والسيارة ومستلزمات المعيشة كالأجهزة والتليفون والجوّال وغيرها، والأشياء الإنسانية كالزوجة والأولاد والبنات والأحفاد، ومَنْ منَّا من لا يحبّ أن تتحقق بعض الأمور في حياته كالوظيفة المناسبة، والراتب المناسب، والمركز الاجتماعي، والوجاهة بين الناس، والأمن، والاستقرار الأسري، وغيرها من الشؤون المعنوية في حياته كفرد وأسرة ومجتمع.
ومن الأمور التي قد يتمنّاها الإنسان في حياته الشخصية على مستوى العلم والتعلّم هناك الكثير من المنعطفات التي يعيشها ويتمنى أن تكون على منوال آخر ليست كما كانت في السابق، فهناك من درس تخصصاً ما ولكنه بعد أن تخرّج ودخل السلك العملي تمنّى أن يكون قد دخل تخصصاً آخر لأنه لم يجد في سوق العمل بُغيته بهذا التخصص الذي هو عليه الآن، وهكذا، ولكن الإنسان على أي حال ينصدم بما تطرق إليه ذلك الشاعر عندما قال:
وما نيل المطالبِ بالتمنّي
ولكن تؤخذُ الدُّنيا غِلابا[2]
فجميع الأشياء التي ذكرتها لا تتحقق إلا بتحقيق مقدمات يتم الاعداد لها حسب شروط موضوعية، فإذا تحققت تلك المقدمات تتحقق تلك الأمنيات، كل حسب ظروفه ومدى قابلياته واستعداداته ورغباته، فالبعض يحقق تلك الأمور بسهولة، والبعض يحققها بصعوبة، ولكن في كلا الحالتين لا تتحقق إلا بجهود معينة يجب القيام بها، وذلك يعود إلى قانون الأسباب والمسببات، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة، وقد تحدث عنها سماحة الإمام المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي "رضوان الله تعالى عليه" في إحدى محاضراته عندما بدأها بالآية القرآنية (ثم أتبع سببا)،[3] وقد علّق على هذه الآية في كتابه (تبيين القرآن) بقوله: "طريقاً يوصله إلى المشرق"[4].. أي ذو القرنين.. والإمام الشيرازي استخدم كلمة (طريقاً) في مقابل إيراد أحد معاني جملة (أتبع سببا) وهي طريقة تفسيرية مختصرة.. فالسبب قد يكون طريقاً وقد يكون أسلوباً وقد يكون خطّة ما أو وسيلة ما وهكذا..
وهناك من الأشياء التي نتمناها ولا نستطيع تحقيقها على الأطلاق، تماماً كما يتمنى الشيخ أن يعود إليه شبابه، لأنه بعد افتقاد مرحلة الشباب يحنُّ إليها بعد أن عانى الأمرين من بداية الدخول في مرحلة العجز وضعف بعض الأعضاء وما إلى ذلك، ونتحسّر من جرّاء ذلك على ذهاب الشباب، فنتمثل بقول أبي العتاهية:
بكيْتُ على الشّبابِ بدمعِ عيني ----- فلم يُغنِ البُكاءُ ولا النّحيبُ[5]
فَيا أسَفاً أسِفْتُ على شَبابٍ، ----- نَعاهُ الشّيبُ والرّأسُ الخَضِيبُ
عريتُ منَ الشّبابِ وكنتُ غضاً ----- كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيبُ
فيَا لَيتَ الشّبابَ يَعُودُ يَوْماً، ----- فأُخبرَهُ بمَا فَعَلَ المَشيبُ
هذا ما قاله أبو العتاهية، أما ما قاله –العبد الذليل- عقيلُ المِسكْ:
قالتْ: - وهذا القولُ أجَّجَ حرقتي----- أين الشباب وقوّةُ العضلاتِ
قلتُ: الشبابُ وديعةٌ مردودةٌ----- رُدَّتْ إلى الخلاَّقِ مِنْ سنواتِ
كذلك تمني رجوع الزمن لتصحيح المسار الدراسي، من المستحيلات ولا يمكن تحقيقها على الإطلاق، وإنّي من خلال هذا المقال أحبّ أن أشارك القارئ بخاطرة وجدانية، وهواجس ذاتية – وهي قطعة من سيرتي الذاتية – حيث سأتحدّث عن أمنية قديمة لم أستطع تحقيقها، ويا ليتها تحققت، وهي أن أكون تلميذاً لآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، فكنت أحدّث نفسي، وربما بحت بهذه الأمنية لبعض الأصدقاء فأقول: ليتني كنت طالباً في حوزة الإمام الشيرازي بقم المقدسة، لكان وضعي الآن مختلفاً تماماً.
وعلى الرغم من أنني درست مقدمات العلوم الدينية لمدة ثلاث سنوات متواصلة في مدينة مشهد المقدسة، بحوزة الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث درست (شرح متن الأجرومية) لابن آجروم، و(قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام، وجزءاً من (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)، كما درست (المسائل الإسلامية) للإمام السيد محمد الشيرازي، و(فقه الإمام جعفر الصادق "ع") للشيخ محمد جواد مغنية، والجزء الأول من (اللمعة الدمشقية)، و(مبادئ الأصول) للعلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي، و(علم أصول الفقه) للشيخ محمد جواد مغنية، و(خلاصة المنطق) للعلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي، و(المنطق الإسلامي) لآية الله السيد محمد تقي المدرسي، و(ألف باء الإسلام) في العقائد لآية الله السيد محمد هادي المدرسي، ثم (الفكر الإسلامي)، ثم (العرفان الإسلامي) لآية الله المدرسي، ومنهج في علم الأخلاق، ومنهج في الثقافة الإسلامية، ومنهج في نهج البلاغة، ومنهج التدبر الموضعي والتدبر الموضوعي، ومنهج في الخطابة المنبرية والخطابة الجماهيرية، ومنهج في الإنشاء والتعبير، إضافة إلى برنامج قراءة منتظمة بشكل متواصل، مع الاستماع إلى محاضرات كثيرة في الثقافة الإسلامية والأخلاق والآداب والتربية وتاريخ آل البيت عليهم السلام.
إلا أنني ما اكتفيت من هذه الدراسة، وأشعر بتعطشي الحقيقي لإتمام ما بدأته في تلك السنوات من بداية العام 1405هـ حتى نهاية عام 1407هـ، إلا أن هذه الثلاث سنوات كان لها الأثر الكبير على شخصيتي، ولو لم أستفد أي شيء إلا من الجانب التربوي وتحسين سلوكي وارتباطي بالله عزّ وجل وتمسكي بعقيدتي فإنني بذلك أكون قد حققت إنجازاً كبيراً على مستوى النهوض بالذات.. حتى إنني كنت أقول لبعض الأصدقاء (لولا الثلاث سنوات لهلك عقيل)، فيبتسم ويقول كأنك تذكرني بمقولة أبو حنيفة زعيم المذهب الحنفي عندما درس عند الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في المدينة المنورة لمدة سنتين، حتى اشتهر عنه أنه قال: (لولا السنتان لهلك النعمان)[6].. وإني أحمد الله على هذه نعمة هذه الدراسة الدينية التي غيّرت من مسار حياتي، إلى ما أنا عليه الآن.
إنجازات متواضعة على مستوى الذات:
وأنا الآن – ولله الحمد والمِنة – وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على دراستي لمقدمات العلوم الدينية، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، أحاسب نفسي فأجدني أحد السائرين في طريق الأدباء والشعراء في هذه المعمورة ولا أقول أنني متميّز عنهم إلا بما أُوفّق فيه من كتاباتي ويكون مقبولاً عند الله عزّ وجل، قبل أن يكون مقبولاً عند القرّاء، فلا أزكّي نفسي أبداً، (وفوق كلّ ذي علم عليم)،[7] وقد نشرت بعون الله تعالى كُتباً متعددة وصلت حتى الآن إلى نيّف وعشرين كتاباً من شعر، ونصوص سردية قصيرة، ومقالة، ونقد أدبي، وسيرة ذاتية، وتأملات وخواطر، ولدي من المخطوطات تحت الصياغة النهائية وبعضها تحت المراجعة ما يزيد على ثلاثين كتاباً وكُتيّباً في مختلف علوم اللغة العربية من نحو وصرف وعروض وقوافي وبيان وبديع ومعاني، وقصص قصيرة، ونقد أبي، ومختارات شعرية، ومختارات قصصية، ومقالات ثقافية واجتماعية وفكرية وحوارات صحفية، وتعليقات وتهميشات على بعض الكتب.
كما إنني توفقت ولله الحمد من الحصول على درجة البكالوريوس من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن عن طريق الانتساب وتخرجت منها عام 2004م، وكان بحث التخرج لمادة البحث بعنوان (الفقيه الشاعر الشيخ علي أبو المكارم "ره")، وحصلت على درجة الماجستير في الفلسفة/أدب عربي، عام 2010م وكانت أطروحتي عن الشاعر أحمد الصافي النجفي، ذلك الشاعر الذي تغرّب عن وطنه أكثر من أربعين عاماً، وعنوان أطروحتي (النزعة الإنسانية في شعر أحمد الصافي النجفي، صور الفقر والحرمان أنموذجاً)، رغم أنني أمارس ذلك وأنا من فئة الموظفين أيضاً لما يقارب من ربع قرن مضى من الزمان، ولم أتقاعد مبكراً إلا في نهاية عام 2017م، وعندما أنظر لهذه التجربة أقول في نفسي: لقد حاولت الجمع بين طلب العلم والأدب من جهة، وبين طلب الرزق والمال من جهة ثانية، ولي شرف المحاولة – على أي حال-، ورغم أن الاختيار كان مني إلا أنه لا اعتراض على الله في تقسيم الأرزاق والحظوظ أيضاً، ولكنها حالة من المحاسبة الذاتية، وكما جاء في الحديث عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا عداً، وزِن نفسك قبلَ أنْ توزَن، وتجهّز للغرض الأكبر يوم تُعرض لا يَخفى على الله خافية".[8]
ومما قاله أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
"ما أحقّ الإنسانَ أن تكون له ساعةٌ لا يشغله شاغل، يُحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها".[9]
وهذا على مستوى اليوم والليلة، وهو وقت قصير في عمر الإنسان بحيث يستطيع استدراك ما فاته في اليوم التالي، وهكذا كل يوم، وهناك من الروايات من تطرقت إلى أهمية محاسبة الإنسان نفسه عما فعله طوال سنيّ حياته الماضية، حتى يستدرك ما بقي من عمره لتصحيح مساره، لأن الله سبحانه وتعالى سيحاسب الإنسان عن هذا العمر وما أُلقِي على عاتقه من مسؤوليات وأعظم هذه المسؤوليات هي مسؤولية المعتقد وولاية آل البيت (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت".[10]
فإذا كان الإنسان سَيُحاسب يوم القيامة عن عمره وعن شبابه فيما أبلاه، فكيف لا أحاسب نفسي وأراجع ملف حياتي منذ سن التكليف حتى يومي هذا.. وإني أسأل الله عزّ وجل أن يغفر لي أي تقصير أو تضييع أو تجاوز، وأن يوفقني فيما تبقى من عمري لإصلاحها والفوز برضوانه في الدنيا والآخرة.
رحلة مع المرض:
لماذا أذكر هذه الأمنية الآن؟.. وما الغرض من ذكرها هنا في هذا المقال وأنا أنطلق مُسرعاً للانتهاء من العقد السادس من عمري؟.. وقد أنهكني مرض السُّكّر، وتسبب لي بأعراض جانبية لها تأثير على المستوى الفسيولوجي والسيكولوجي في الآن ذاته، وأصبحت بمثابة حقل تجارب للأطباء في عدة مستوصفات وما من فائدة تُذكر، إلا اللهم أهمية التزامي بالدواء وممارسة المشي ونوع من الحمية المتبعة، لأن الأعراض تأتي وتذهب، وهكذا... وعلى ما يبدو أنني لم أوفق أن أجعل من هذا المرض صديقاً لي لكي أُداريه أو أتجمّل معه، وهل أمثال هذه الأمراض وغيرها يمكن أن تثني طالب العلم عن مواصلة مسيرته التحصيلية حتى لو بطريقة التعلّم الذاتي؟
وفي هذا المضمار أتذكر ما كتبه صديقنا الدكتور سلطان بن سعد القحطاني، أستاذ معهد اللغة العربية بجامعة الملك سعود بالرياض، سابقاً، وهو الذي أشرف على رسالتي لمرحلة الماجستير – عد بُعد – في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن.. حيث كتب ذات يوم مقالاً بعنوان (الألم والإبداع)، وتطرق فيه إلى بعض النماذج من الأدباء الذين كانوا يبدعون رغم معاناتهم مع المرض، وفي تاريخنا الكثير من الأمثلة حيث كانوا يمارسون نشاطهم الكتابي بكل حرية وانطلاق رغم أمراضهم التي يعانون منها.. و هذا أمر مفروغ منه، فالكتابة بالنسبي لي من خلال تجربتي الشخصية كالتنفس تماماً، وهل يستطيع أي أحد أن يتوقف عن التنفس بمحض إرادته؟!..
رحلة مع طلب الرزق:
رحلتي في مجال العمل وكسب الرزق بدأ بعد عودتي من مدينة مشهد المقدسة، حيث عملت مع والدي في منجرته المتواضعة بضع سنوات ثم تدرجت في أعمال وظيفية ببعض المؤسسات ثم الشركات حتى استقر بي الحال في شركة أركاس –الشركة العربية للجيوفيزيقا والمساحة- لمدة ستة عشر عاماً، ومجموع سنوات عملي حوالي 25 عاماً، والسؤال الذي يلحّ عليّ دائماً طوال هذه السنوات الطويلة، هل أستطيع التوفيق بين عملي الوظيفي والعطاء الإبداعي من كتابة ثقافية وفكرية ونقدية وشعرية؟.. وهل أستطيع القيام بذلك أيضاً وأنا أمارس عملي الحر في إدارة مؤسسة صغيرة لتقديم الخدمات المساندة لأعمال المقاولات العامة بالتعاون مع بعض الشركات الأهلية الكبرى في المنطقة؟.. جنباً إلى جنب عملي الوظيفي طوال تلك السنوات، أي أنني أعمل يومياً أكثر من أثني عشر ساعة تقريباً، ما عدا أيام الإجازات الأسبوعية والسنوية، فكيف أستطيع الجمع بين طلب العلم وطلب الدنيا؟.. وسبق أن قرأنا أن الإنسان لا يشبع من هذا، ولا من تلك، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "منهومان لا يشبعان: طالبُ علمٍ وطالبُ دنيا"،[11] ولكن إن لم أعمل كيف أعيش؟.. وكيف أعيّش معي عائلتي وأمارس معهم حياة طبيعية لا يشوبها أي عوزٍ أو فاقة؟
وأسئلة كثيرة جداً تمرّ على صفحات ذهني، وتدغدغ مشاعري وتلهب تفكيري، فأنا من جهة أريد أن أكمل تعليمي الحوزوي لأصبح شيخاً في العلوم الدينية بالمعنى الذي كنت أطمح إليه قبل أكثر من 35 عاماً، ومن جهة أخرى أريد أن أواصل عملي لتحصيل الرزق والكدّ على عيالي، أو بالأحرى لتحصيل لقمة العيش وسداد الديون التي لابدّ منها -في مثل ظروفنا الاقتصادية الصعبة-، وفي الآنِ ذاته لا زلت أمارس القراءة الذاتية والكتابة المتواصلة بشكل يومي، حتى كادت الكتب والموسوعات والمجلدات والكُتيبات تطردني من مكتبتي لأنها فاضت بأكثر من سبعة آلاف كتاب حتى الآن، ولأنني أعتكف عليها أكثر من أي شيء آخر، إلا الواجبات الشرعية، والبرامج الضرورية الأخرى، وهذا ديدن المهووسون بعالم الفكر والثقافة والأدب والنقد، وما يتبع هذا العالم من كتب وإصدارات وحضور المنتديات والمؤتمرات ومعارض الكتب في مختلف العواصم.
الإمام الشيرازي لا يزال يُشجعني:
لاحظ أيها القارئ العزيز هذه الألم النفسي التي مررتُ به، فهو من نتاج ما قرأته في كتب الإمام الشيرازي من: (مغريات علمية) و(فتوحات معرفية) و(وعي سياسي) و(ثقافات هادفة) و(رُشدٌ قرآني) و(بصيرة إيمانية) و(فراسة فطرية)، و(ثقافة اكتسابية) و(تربية ذاتية) و(طموحات مُقوِّمة ومُقوَّمة)، و(فضاءات إرشادية متجددة) وكلها عوالم رائعة مليئة بالكواكب والنجوم والأجرام الجميلة جداً والتي أطلقتها على مُجمل أفكاره والمفاهيم الرائعة التي يدعو إلى تبنّيها والتبشير بها في مجتمعاتنا بل في أمتنا جمعاء، ولعل أهم ميزة يمكنني التوقف عندها قليلاً هي ميزة (المنهجية الوسطية)، حيث يتميّز سماحته بالعقلانية في التعامل مع الأحداث من حوله، فلا ينساق لأي تيار من التيارات ولا يرضخ لأي حزب من الأحزاب، بل يبقى ذلك المرجع الأعلى الذي ينظر إلى الأفق بعين كلها أمل وتفاؤل بالتغيير السلمي، وهذا ما طرحه في أغلب أطروحاته لتغيير الواقع بمنهج اللاعنف، فلم ألاحظ أو أقرأ أي شيء على الإطلاق يدل على أن الإمام الشيرازي كان يدعو إلى التخريب أو الإرهاب في سبيل الدعوة إلى الله، فـ "لا يطاع الله من حيث يعصى".
لذلك كله تمنّيت أن أكون أحد طلبته في حوزته العلمية بقم المقدّسة، لا في الكويت، لأنني كنت طفلاً صغيراً أثناء مرحلة وجوده في الكويت لمدة 8 أعوام وسبعة أشهر حتى اليوم الثامن ومن شهر مايو 1979م وكان عمري في هذا الوقت بالتحديد 13 عاماً.. وهذا يعني أنني لو التحقت بحوزة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكويت لابدّ أن أكون قد دخلتها وعمري 10 سنوات لأكمل على أقل تقدير مقدمات المقدمات، ولا أعلم هل كانوا يدرسون مناهج البدايات الأولى للأطفال في هذه الحوزة أم لا، ولو كان ذلك موجوداً لديهم لتمنيت أيضاً أن أكون قد التحقت بهذه الحوزة العلمية، قسم الأطفال لكان ذلك لي أفضل في عملية التهيئة المفترضة والمطلوبة لعالم الدين منذ طراوة عوده، ونعومة أظافره.
ولكنني تمنيت أن أكون قد التحقت بإحدى حوزاته العلمية في قم المقدسة بُعيد مرحلة الكفاءة المتوسطة، أي ابتداء من عام 1983م فأكون قد أتقنت القراءة والكتابة وتهيأت تعليمياً بشكل نظامي بضع سنوات، ومن ثم أكملت تعليمي الحوزوي للمقدمات وما بعدها من مراحل، وتصوّرت لو أنني التحقت بحوزته الشريفة ابتداء من عام 1983م حتى عام 2001م، أي ما يقارب التسعة عشر عاماً فأكون قد أنهيت المقدمات والسطوح، ودراسة مرحلة السطوح كما جاء في مقررات الحوزات العلمية في النجف وفي كربلاء وفي قم ومشهد المقدسة، وحوزات أخرى أيضاً يُراد بها:
"دراسة مُتون الكتب في الفقه الاستدلالي، وأصول الفقه، والكتب التي تُدَرّس في هذه المرحلة كتب خاصة بها، وأهمها: معالم الأصول، وقوانين الأصول، ورسائل الشيخ الأنصاري، وكفاية الأصول، هذا في أصول الفقه، أما في الفقه الاستدلالي فأشهرها شرائع الإسلام، وشرح اللُّمعة الدمشقية، والمكاسب للشيخ الأنصاري، ودراسة الفقه الاستدلالي، وأصول الفقه إلزامية في هذه المرحلة، ولكن يرى بعض الطلاب، دراسة علم الكلام، والحديث، والفلسفة، والتفسير ذلك أيضاً، على أنّه إذا لم تكن دراسة التفسير إلزامية، فلأنّ معظم الآيات ستمر خلال الدراسة، ولابد في هذه الحالة من تفسيرها وشرحها، وكذلك القول في الحديث، فهو والتفسير يرافقان الطالب في مراحل دراسته كلها، فيدرك أنواع الحديث وأقسامه، واصطلاحاته، والجرح والتعديل، وما إلى ذلك، فمرحلتي المقدمات والسطوح هما اللتان تُكوِّنان الطالب وتُعِدّانه ليكون: (مجتهداً)، وقد يستغرق اجتياز الطالب لهما العشر سنين، أو أكثر من ذلك، وهما أشقّ مراحل دراسته، وطالما تساقط الطلاب فيهما فتوقّفوا، ومضى البارعون المُجِدّون منهم، وهكذا لا يصل إلى مرحلة (الخارج) في الأغلب إلا القلة المتفوّقة الصابرة ".[12]
بينما لم أقطع من هاتين المرحلتين إلا المرحلة الأولى فقط وهي المقدمات.. وهذا ما أحزنني كثيراً، وكم كنت أتمنى الدخول في مرحلة السطوح بشكل جاد حتى أتهيأ شيئاً فشيئاً لمرحلة بحث الخارج –في الفقه وفي الأصول- ضمن الفضلاء الذين يحضرون في مجلس مرجعنا العظيم آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي "أعلى الله درجاته".
وربما - وقتئذٍ – أصبح أحد المجتهدين المتجزئين وكنت أتمنى ذلك ولازلت، بل أحمل من الطموح أن أكون مجتهداً مطلقاً أي في جميع أبواب الفقه،.. وأعود للاستقرار في بلدي وأخدمها بكل ما يسعني القيام به وأمارس تبليغي لرسالة الإسلام على أكمل وجه لقومي لعلهم يحذرون، ولا أكون مثقفاً ناقصاً لم أكمل دراستي الحوزوية، فبإكمالها أكون بالفعل أحد مصاديق قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).[13]
ولكن هيهات أن أحظى بذلك وقد كتب القدر ما كتب، وكما يقول الشيخ محمد رضا المظفر – رضوان الله تعالى عليه -: "تحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جدّ واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها".[14]
ولعلّ من أهم العقبات التي منعتني من إتمام دراستي الحوزوية، هي ما حديث لي عندما عدت إلى بلادي في بداية 1408هـ، حيث أصبحت كالطائر الذي قطّعوا أجنحته لمدة سبع سنوات كاملة، فلم أستطع الطيران أبداً طوال تلك السنوات السبع، وهذا الظرف الصعب هو الذي اضطرني للعمل وكسب الرزق، والذي زاد من مسؤولياتي هو زواجي في 16 جمادى الثانية 1408هـ، أي بعد ستة أشهر من عودتي من مدينة مشهد المقدسة.
وفي تلك السنة ألفت كتابي المخطوط الأول (رشفات من ينبوع الحكمة.. مقالات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنني كنت أمارس القراءات الذاتية، والتحصيل العلمي الشخصي، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وهذا الكتاب يُعتبر الكتاب الثاني المخطوط بعد أن كتبت في مدينة مشهد كتابي الأول الذي فُقد للأسف الشديد وعنوانه (تأملات وخواطر في سورة الحجرات)، وهو من نتاج دراستي لمادة التدبر في القرآن الكريم بنوعيه الموضعي والموضوعي.
أخي القارئ الكريم.. لقد عشت معي بضع دقائق في ما قرأته أعلاه من هذا المقال، ورأيت أن ذلك من الأحلام المشروعة، والتمنيّات المنطقية في حساباتها، والتخطيط بالأثر الرجعي لعقود مضت، ولكن هيهات، لقد سارت سفينة السفر، وبدأت الأمواج توحي لركاب هذه السفينة بأنّ الرّياح قادمة، وبدأت القلوب تهرع خائفة من المصير، هل نصل إلى شاطئ الأمان بسلام آمنين، أم تغرق بنا السفينة في هذا البحر اللُّجِّي، ونسأل الله اللطف بنا بحق محمد وآل محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم وسيلتنا للنجاة في الدنيا والآخرة، وهذا مما لا شكّ فيه.
كما أقف وقفة إجلال واحترام وتقدير لآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي وهو من نسل الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن كتب عنه عدة كتب وحاضر عنه وعن ثورته المباركة عدة محاضرات، وأحد الذين واصلوا مسيرة آل بيت محمد في هذه المعمورة، وأحد القائمين بنهضة علمية رائدة في القرن العشرين والواحد والعشرين من زماننا هذا، وأحد الذين بنوا العديد من الصروح المُشرّفة والتي تمارس عدة أنشطة ثقافية وفكرية واجتماعية كالحوزات العلمية، ومراكز البحث والدراسات، والفضائيات، والمجلات، والكتب الدورية، ودور النشر، والحسينيات، والمساجد، والمبرات الخيرية، وغيرها من المشاريع الرائدة، وأعلنها بملء فمي بأنني أحبّ هذا الرجل بكل ذرّة في قلبي، وكنت من مقلّديه، ولا زلت على خطّه ونهجه، وأسأل الله الثبات على هذا المنهج حتى آخر لحظة في حياتي، وأسأل الله أن يحشرني معه يوم القيامة فيدخل السرور قلبي وتنفرج أساريري وأستبشر بما وعد الله سبحانه وتعالى من النعيم المقيم والجنة والرضوان، كما أدعو بطول العمر للمرجع الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي "دامت بركاته".
اضف تعليق