فليعرف العالِم إن النجاح يستطيع أن يصعد أدراجه بمساعدة العائلة والأقرباء وليس الصعود على أكتافهم، حيث يفدي الانسان عائلته وأقربائه وفي بعض الأحيان دينه وشرفه قرباناً للحصول على وسام العظمة، وعندما يكون العالِم مهتماً بمصدر العطاء والشرف أهل البيت عليهم السلام وينهل من علومهم...
كلما أثمرت الشجرة انحنت نحو الأرض، وكلما ازداد علم المرء تواضع وسلك طريق المعرفة وأضاء سبيل الآخرين، لذلك يعد العلم ضرورة في الحياة كي يميز الانسان الخير من الشر ويعرف طريق الحق من الباطل، ويسلك الطريق الذي يقوده نحو الجنة، لذلك تتوقف حياة المرء على العلم في الدنيا وفي سلوكه الطريق السليم إلى الآخرة.
هناك مقولة جاء فيها: لا تقل من أنت أو ماذا تفعل دع أفعالك تتحدث عنك.
لذلك عندما ننظر إلى الأفعال نستطيع أن ندرك شيئا قليلاً عن الآخرين وندرك من هم وصدق كلامهم، وعندما ندقق في حياة الناس نميز بين المتكلم المخادع والعامل الذي يضيف بصمته جمالاً إلى روعة أفعاله، فندرك من خلال ذلك الصدر الواسع والعقل المضيء بالعلم.
يعد العلم والعمل مفتاح العلو والسمو وكلما كان الفرد علَماً متواضعاً، ازداد في العطاء، فهناك نماذج عملاقة استطاعت أن تسجل أهدافا عالية وغيرت المجتمع بأبهى صورة، وأحد هذه النماذج سلطان المؤلفين المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله)، فقد أبهر العقول الجبارة بمؤلفاته ودقة نظره للأمور، لا أتكلم عن مؤلفاته أو عن علمه، فهو أكبر من أن نتحدث عنه، فقد تلألأ في سماء العظمة ولا يحتاج الى كلام في هذا المضمار.
ولكن أريد أن أسلط الضوء على تلك الشخصية العظيمة وذلك الرجل الذي رغم عظمته وانشغالاته، كان يهتم بأدق الأمور ولا يترك أي جانب من جوانب حياته، فكثيراً ما نرى العظماء يكونون عظماء في جانب ما وهم فاشلين في جوانب أخرى من حياتهم، ومن النادر جداً أن يحظى المرء بهذا الوسام ويهتم بجميع جوانب الحياة ولا يترك أي جانب آخر منها.
العطف والرحمة
تقول إحدى القريبات من السيد المرجع (زوجة أحد أولاده)، عندما كان زوجي في السجن بسبب بعض التشديد على بيت المرجع، كانت ابنتي الصغيرة تبكي على الدوام لأنها تعودت أن تأكل مع والدها، فغياب الأب أثر عليها ولم ترضى أن تأكل مع الآخرين، فكنت أعاني فراق الزوج وراعي البيت من جانب وبكاء الطفلة من جانب آخر، وقد رأى السيد المرجع بكاء الطفلة وسألني لماذا تبكي، فشرحت له السبب، كان باستطاعته أن يقول هذه الطفلة سوف تسكت مع والدتها وهناك أمور أهم يجب أن أهتم بها، ولكن بقي معي وأخذ يصبرني وأخذ الطفلة إلى الحديقة وبدأ يلاعبها ويطعمها بيديه، لازلت أتذكر حنانه وعطفه وكيف كان يهتم بجميع الأمور رغم انشغاله بالكثير من الأهداف والمشاريع الفكرية والدينية والثقافية وسواها.
سرعة العمل
يقول أحد المقربين من السيد المرجع رحمه الله (الشيخ مكي حفظه الله): أتذكر يوما اتصل سماحته بي وقال: هناك فكرة حول موضوع المرور في الاسلام ولم يناقش الموضوع من الناحية الفقهية، لذا احتاج مصادر حول هذا الموضوع، يقول الشيخ مكي، حاولت وبحثت عن مصادر ولكن لم أتوفق ولم انجح في العثور على المصادر، فراجعت مركز المرور في قم المقدسة والتقيت بمسؤولها وقال عندي كتاب حوالي ١٥٠٠ صفحة، فحصلت على هذا الكتاب بشتى الطرق واستعرته لأسبوع فقط، واستقبلني سماحة السيد وفرح كثيرا وبعد اسبوع أعاد الكتاب بعد أن قرأه من أوله الى آخره، ووضع علامات في حوالي ٢٠٠ صفحة لكي أستنسخها له. بعد ذلك بشهر من إيصال المصادر، اتصل سماحته وقال لي، الكتاب جاهز للطبع وهو بعنوان "فقه المرور في الإسلام" في ٤٥٠ صحفه تقريبا، وبالفعل قمتُ بإرساله للطبع.
التواضع والإخلاص
جاء لنا احد المصورين المحترفين وأراد تصوير حياة السيد اليومية، وشرعنا بالتسجيل، ووصل الامر الى غرفة السيد التي يكتب ويحقق فيها وتارة ينام فيها أيضا، دخلنا في الغرفة، فبدت رطبة جدا ويوجد في السرداب وفي الغرفة أربع (بلوك) وعليها قطعة خشبية وعليها قطعة قماش فقط وضوء قياس ٤٠ واط، ومجموعة كتب وأوراق ومسودات.
قال المصور: أ هذه غرفة السيد؟
قلت: نعم (طبعا أنا كنت مستغربا أيضا).
قال المصور: بالله عليك هذه غرفة السيد المرجع؟
قلت: حبيبي نعم وأنا مثلك فوجئت بالأمر.
ترك الكامرا علي الارض وجلس يبكي علي هذا التواضع.
الإطلاع الواسع
اتصلوا من السفارة الأفغانية في طهران بعد سقوط الروس فيها، واستلام الحكم من قبل المجاهدين، وأرادوا موعدا من سماحته لكي يلتقي به مجموعة من قيادات المجاهدين، رتبنا الامر و وصلوا الي قم، ورتبنا الغرفة وكان معهم مجموعة كامرات لتسجيل محاضرة السيد، وبعدما دخل السيد ورحب بالحضور وألقى كلمته ومن ثم بدأت الاسئلة والاجوبة، سألنا السيد من منكم يعرف خريطة أفغانستان؟
فأشاروا الى أحد الأشخاص، وقالو، هذا يعرف كل أراضي افغانستان شبرا شبرا.
فسأله السيد: هل تعرف القرية الفلانية؟
قال: لم اسمع بهذا الاسم حتى الآن.
قال السيد: تخرج من كابل... وأعطاه تفصيلا كاملا عن العنوان، وبعد المسافة وتصل الى هذه القرية فكلهم من الشيعة ويحتاجون الى مساعدات معنوية ومادية.
تعجب القائد الميداني من سعة معلومات السيد، هو جليس البيت ولكن يقود العالم الشيعي بإطلاع واسع.
الزهد والابتعاد عن زينة الحياة
أتذكر كنا في مشهد بعد ما تبني النظام العراقي قصف بيت السيد وحاول اغتيال سماحته، فهاجر سماحته الى مشهد الرضا وسكن في المدرسة، مع العلم كثير من الأصدقاء والتجار من مقلدي سماحته عرضوا علي السيد بيوتهم، فقال: لكن انا طالب علم وطالب العلم يسكن في المدرسة، وسكن في المدرسة، في احدى الغرف، بعد فترة اهدي له احد التجار باقة ورد، وبعد ذهابه قال لي سماحته: شيخنا خذ باقة الورد هذه وأعطِها الى لمن يحتاجه.
فقلت: سيدنا هذه الباقة من افضل الباقات ولذا أفضل أن تكون في جواركم تستأنسون بها.
قال: شيخنا الانسان يصبح "طاغوت" رويدا رويدا، وهذه هي المقدمة...
وهناك قصص كثيرة ومواقف مؤثرة في ذهن كل شخص نال شرف الاقتراب، فكل شخص خرج من بيته كان في قلبه باقة من الحب والحنان، وفي عقله فكرة أو أفكار ليسمو ويزيد العالم جمالاً، هذه رسالة الى كل شخص يبحث عن العظمة والخلود، فلن تصبح ناجحاً إن اهتممت بجانب من حياتك، وتركت جانباً اخر، فإذا كان باستطاعتك الاهتمام بجميع جوانب حياتك إذن باستطاعتك أن ترفع رأسك عالياً لتفتخر بنجاحك.
فليعرف العالِم إن النجاح يستطيع أن يصعد أدراجه بمساعدة العائلة والأقرباء وليس الصعود على أكتافهم، حيث يفدي الانسان عائلته وأقربائه وفي بعض الأحيان دينه وشرفه قرباناً للحصول على وسام العظمة، وعندما يكون العالِم مهتماً بمصدر العطاء والشرف أهل البيت عليهم السلام وينهل من علومهم، سوف تكون ثمار عمله أكثر وأطيب، وكلما أثمرت الشجرة انحنت، وحيثما ازداد علم المرء تواضع وسلك طريق المعرفة، وأضاء دروب الآخرين، لذلك يعد العلم ضرورة في الحياة كي يميز الانسان الخير من الشر، ويعرف طريق الحق من الباطل ويسلك الطريق نحو الجنة، لذلك العلماء باقون ما بقي الدهر....
ففي كل لحظة هناك من يقطف ثمار العلم والمعرفة، من تلك الشجرة المثمرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء...
تأتي أكلها كل حين بإذن ربها.
اضف تعليق