عكف الباحثون المختصون في شأن حركات التحرر في البلاد الاسلامية على دراسة اسباب فشل تحقيق الاهداف المنشودة، فذهب البعض الى سياسة العنف والقمع الذي انتهجه المستعمر، فيما ذهب البعض الآخر الى الخلافات داخل هذه الحركات – لاسباب مختلفة- وقال آخرون بالاسباب المنهجية، وايضاً؛ الفنية مثل الامكانات المالية والخبرات والتجارب وغيرها، وربما يكون لكل ذلك مدخلية في هزيمة الحركات والثورات امام الديكتاتوريات، بيد أن الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يؤشر الى سبب آخر يبدو جوهري في ذات هذه الحركات والثورات.
يقول سماحته: "شهدت البلاد الاسلامية حركات وثورات ونهضات عدّة بوجه الاستعمار الشرقي والاستعمار الغربي، وقد عاصرت بنفسي بعض هذه الحركات، ولكن؛ مصير هذه الحركات كان الضياع والتمزق، بالرغم من أن المسلمين يحظون بالعدة الكبيرة، وبصحّة المبادئ، بيد أنهم لم يكونوا مستعدين لأن ينزلوا هذه المبادئ الى ساحة العمل.
مثال ذلك؛ مبدأ الشورى، فالجميع يقول: {وأمرهم شورى بينهم}، ولكن؛ أي بلد اسلامي يعمل بالشورى؟ والجميع يقول: {إن هذه أمتكم أمة واحدة}، ولكن؛ أي بلد تجدون التعامل على هذا الاساس؟ والجميع يقول: {إنما المؤمنون أخوة}، ولكن؛ في أي بلد اسلامي يجد الانسان المسلم التعامل وفق هذا المبدأ؟
بمعنى؛ أن المسلمين بقوا يراوحون في مرحلة التنظير، ولم يتحركوا صوب العمل والتطبيق العملي.
والمثال البارز امامنا؛ العراق. ألا ينبغي طرح السؤال عن سبب صعود شخص مثل صدام الى قمة السلطة في هذا البلد الذي يضم خمسة عشر مليون انسان، وفيه الحوزات العلمية والعلماء والخطباء واساتذة الجامعات والاطباء والمهندسون وشيوخ العشائر والتجار؟ والأغرب من هذا، بقاء هذا الشخص في السلطة طيلة هذه الفترة! فصدام لم يكن جيش احتلال عسكري حتى يفرض سيطرته على البلد، إنما كان شخص واحد، إنما استفاد من امكانات وقدرات أهل نفس البلد (العراق)؛ من هذه المحافظة وتلك وتمكن من البقاء في قمة السلطة، لذا لم يكن صدام يحمل صفات خارقة او مميزة في ذاته، لان الناس هم الذين مكنوه من السيطرة والبقاء في الحكم.
واذا ما اراد العراقيون التغيير الحقيقي فهم يحتاجون الى الاخلاص في العمل ليكون الاطاحة بصدام مثل "شربة ماء"! وهذه المسؤولية تقع على عاتق الشريحة المثقفة والواعية من العراقيين في المهجر، الذين يحظون بأجواء الحرية، بأن يشكلوا لجان عمل تخصصية منتخبة تدير الشؤون الثقافية والاقتصادية والامنية والاجتماعية والسياسية والصحية والاعلامية، وغيرها لتكون أشبه بالحكومة في المنفى، والتنسيق مع الداخل العراقي، فاذا تمّ ذلك، فان صدام يسقط خلال شهر واحد.
وإذن؛ فالبداية في الارادة المخلصة في التغيير التي من شأنها ان تحقق الاهداف العظمى، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في الآية الكريمة: {...إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما}، وفي آية اخرى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، فالارادة المخلصة والجهاد هي التي تحقق النصر للشعوب الاسلامية".
أطر كبيرة فارغة!
سماحة الامام الشيرازي يبين لنا سبب وعوامل فشل تجارب الثورات والانتفاضات في البلاد الاسلامية، واذا تصفحنا التاريخ الاسلامي نجد هنالك تجارب ناجحة بتفوق عالٍ وهي لم تمتلك القدرات والامكانات التي لدى الشعوب الاسلامية في العصر الحاضر، ولعل أبرزها نهضة الامام الحسين، عليه السلام، فهي انتهت باستشهاد الامام الحسين، عليه السلام، واصحابه وبنيه، وحصل ما حصل بعد ذلك، بيد ان واقعة الاستشهاد ثم سبي النساء وحرق الخيام وغيرها مما يُحسب آنذاك – وربما اليوم ايضاً- نصراً عسكرياً وسياسياً، هو الذي ألهم الشعوب وقادتها، روح الثورة ضد حكام الجور والطغيان، والسبب في ذلك؛ أن تجربة النهضة الحسينية جسدت مبادئها على أرض الواقع، وفي ساحة المواجهة؛ فالوفاء، والإباء، والشجاعة، والوعي، والاخلاص، وغيرها، تمثلت في موقف رجل من رجال الطف، فخلدت مع الزمن.
وهذا ما يثير التساؤل عن السر وراء كل هذا النكوص والانتكاسة في الامة مع وجود القدرات الانسانية والمادية التي لم تكن متوفرة في مجتمعات القرون الاولى، حيث كان كل شيء بيد من يُسمى بالخليفة الذي يخاطب الغيوم بأن "شرقي، غربي، أينما ذهبت يأتي خراجك إليّ..."!
ولذا يضع سماحة الامام الراحل يده على الجرح ويؤشر الى الفراغ الخطير بين النظرية وبين التطبيق، والسؤال هنا:
على من تقع مسؤولية ردم هذا الفراغ، أو ايجاد حلقة الوصل بين النظرية والتطبيق؟ هل الجماهير؟ أم قيادتها؟
إن الثورات التي أكلها الاستعمار، مثل ثورة العشرين في العراق، وثورة المختار في ليبيا، وثورة الجزائر، وثورة الدستور في ايران، وغيرها من الثورات، خلقتها الجماهير وقدمت من أجلها الشهداء وتحملت المعاناة والمحن على أمل تحقيق الانتصار، وكذلك الحراك السياسي الذي شهدته البلاد الاسلامية ضد الانظمة الديكتاتورية خلال القرن الماضي، بيد أن هذه كلها انطلقت ومضت وكادت تقضي على اعدائها، ولكن؛ في اللحظة الحاسمة يتضح ان هذا الحراك الكبير ليس له اساس في الواقع الذي يعيشه الناس أنفسهم.
لعل أبسط مثال؛ الحرية، فلا يوجد شعب مسلم انتفض ولم يطالب بالحرية؛ سواءً من الاستعمار او من الانظمة الديكتاتورية، بيد أن السؤال الذي لم يطرح أحد على نفسه؛ هل كان مبدأ الحرية مفهوماً لدى عامة الناس، هذا أولاً؛ ثم ليتسنّى لهم الاستفادة منه في حياتهم ثانياً؟
هذا ما يتعلق بالجماهير، أما القيادة، فلا نجد قيادة في بلادنا الاسلامية إلا وهي تدّعي وصلاً بالجماهير، وأنها جزءاً منها، وأنها "الابن البار"! وغيرها من العبارات المعسولة المحببة للنفوس وما من شأنها تبني جسور الثقة بينها وبين الجماهير للمضي في الحراك المعارض ضد السلطة الحاكمة، ولكن؛ هل تمكنت هذه القيادة من ايجاد مصاديق عملية لما ادعته من صلة وقرب وتواضع الى الجماهير؟
بمعنى أن المهمة تقع على عاتق الجماهير، وايضاً على عاتق العلماء والخطباء والمثقفين الذي يعدون أنفسهم المؤثرين في الرأي العام وبيدهم أدوات رسم الثقافة الصحيحة للناس، وهذا بحاجة الى بذل التضحيات والجهاد، ليس بالنفس فقط، بل في المال والعلم والقلم وكل شيء، ونسمع من علمائنا الابرار يوصون بأن يستثمر العالم والوجيه أي شيء لخدمة المجتمع، حتى وإن كان ماء وجهه! لانه يمثل رأس مال كبير لا يملكه غيره، ومن شأنه التأثير في الواقع الاجتماعي، بانقاذ انسان محتاج، او انقاذ مظلوم من يد ظالم.
إن الارادة التي دعا اليها سماحة الامام الشيرازي لتقريب المسافة بين النظرية والتطبيق، أو بين المبادئ والقيم السامية، وبين الواقع العملي، بحاجة الى إيمان عميق بالقضية التي يضحي من اجلها الناس، ويخوضون المواجهة والمخاطر في سبيلها، لذا نجد شعوباً في العالم تنتصر في ثورتها، فيما تنتكس أخرى، فالاولى نجدها مؤمنة بقضيتها وتعرف ما الذي تريد، بغض النظر عن الفكر والعقيدة التي تحمله، بينما من يلازمه التشكيك او الغموض في الرؤية، نجده يكتفي بالمربع الذي يقف عليه، ويدور ضم الاطار الفارغ والكبير رغم ما يحمله من عناوين عظيمة، مثل؛ الحرية والمساواة والشورى وغيرها.
اضف تعليق