عبد الله بن المقفع أديب بليغ مشهور. كان مجوسيا، فأسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور العباسي. قال الخليلي: "لما اجتمعتُ به، رأيت علمه أكثر من عقله"(1)
قالوا: ولد ابن المقفع في بلاد فارس سنة ١٠٦ للهجرة الموافق لسنة ٧٢٤ ميلادية، ثم انتقل إلى البصرة وعاش ومات بها. وقال آخرون: إنه ولد وعاش ومات بالبصرة.
والحقيقة أن الرجل لم يمت حتف أنفه وإنما قتل قتلة شنعاء حيث مثل به، وأحرق جسده. قتله العباسيون في خروج عبد الله بن علي، على ابن أخيه أبي جعفر المنصور، بالرغم من كون ابن المقفع لم يكن مع الثوار وإنما تورط في ذلك لمجرد أنه كان كاتباً عند أعمام المنصور، وأخلص لهم حينما أحكم صياغة كتاب الأمان الذي أعطاه المنصور لعمه عبد الله. وقيل: إن المنصور أمر بتقطيع أوصاله ثم أحرقه. ومن المرجح أنه قتل بين سنتي 13 و142 للهجرة.
هكذا شاءت إرادة الطغاة أن تحرم الأمة من هذا العالم الكبير الذي لم تشفع له أفضاله العلمية الجليلة بنقل التراث الفارسي المكتوب بالبهلوية (اللغة الفارسية القديمة) في عدة كتب شهيرة، هي: (خداينامه) في سيَرِ ملوك الفرس، و(آئين نامه) وهو في قوانين الفرس القدامى ورسوم ملوكهم في قيادة الجيوش وفنون الحرب والآداب العامة، و(التاج في سيرة أنو شروان) وهو في سيرة الملك كسرى أنو شروان وأخلاقه، و(نامه تنسر) وفي تشريعات الفرس القدامى.
ولم تشفع له أفضاله الجليلة في نقل كتب الحكمة المتعالية الفارسية إلى العربية، مثل كتاب (الأدب الكبير) أي: الحكمة العالية أو اﻷدب الرفيع. وكتاب (اﻷدب الصغير)، وكتاب (اليتيمة).
ولم تشفع له أعماله بترجمة بعض أشهر كتب اليونان من الفارسية إلى العربية، وهي الكتب التي ترجمها الفرس من قبل إلى لغتهم، حيث كان الفرس كما قال ابن النديم(2) قد نقلوا في القديم (قبل الإسلام) شيئاً من كتب المنطق والطب اليونانية إلى لغتهم الفارسية.
ولم يشفع له نقله إلى العربية واحدا من أشهر الكتب في العالم، وهو كتاب (كليلة ودمنة).
المدهش في الأمر أن ابن المقفع أنجز هذه الأعمال الكبير حتى دون تمويل من الدولة، إذ المعروف أن الخلفاء العباسيين كانوا يمولون عمليات ترجمة الكتب من اللغة اليونانية إلى العربية فقط، أما ترجمة الكتب الفارسية وغيرها، فتمت بمبادرة من الكتاب الفرس أنفسهم، أو بأمر من الخلفاء، ولكن بدون تمويل. وقد ذكر ابن النديم(3) أسماء أكثر من عشرين كاتبا فارسي الأصل كانوا من فصحاء اللغة العربية، تركوا بصمة واضحة في الحضارة الإسلامية، بل وأسهموا في رفد حضارة الإسلام النامية بكم كبير من درر ونفائس تراث الإمبراطورية الساسانية وحضارة فارس.
إن من يقدم مثل هذه الأعمال الجليلة إلى أمة الإسلام، لا يمكن أن يكون قد قصد الإساءة إليها أو إلى الدين كما يدعي بعض المتطرفين الجهلة، ولا يمكن أن يكون قد دخل إلى الإسلام لغاية أو هدف تخريبي لكي يتهموه بالعداء للإسلام وبالزندقة، إذ قال الجاحظ: "إن ابن المقفع ومطيع بن أياس ويحيى بن زياد كانوا يُتهمون(4). ولكنه لم يذكر اسم من كان يتهمه بالزندقة!
إن هؤلاء الطاعنين والمشككين قبل غيرهم كانوا يعرفون حقيقة سرائر هذا الأديب والعالم الكبير، ولكن حقدهم وتطرفهم، ورفضهم للعلوم الحديثة، دفعهم إلى اختلاق الأكاذيب للإساءة إلى تاريخ هؤلاء العلماء الأعلام؛ ومنهم ابن المقفع صاحب الفضل الكبير على حضارتنا، ولذا تعمدوا تشويه سيرته، والطعن في صحة إسلامه؛ بما نسبوه إليه من أكاذيب ودجل، ومن ذلك قولهم: "يقال(5) أن ابن المقفع مر ببيت نار المجوس، فتمثل بأبيات(6). ولا أدري ماذا كان يفعل بيت النار بالبصرة في ذلك الوقت المتأخر من عمر الإسلام، ولاسيما وان ابن المقفع ولد بالعراق كما في بعض الروايات سنة 106 للهجرة! أي أنه لم يولد في بلاد المجوس، ولم ينشأ فيها ليعرف بيوت النار.
إن من المؤكد أن هذا التحجر هو الذي دفع بعضهم إلى وصم ابن المقفع بالزندقة، إذ نقل عن ابن المهدي، أنه قال: "ما رأيت كتابا في زندقة إلا هو أصله"(7). ومع ذلك لم يتمكن لا ابن مهدي ولا ابن النديم ولا ابن حجر ولا غيرهم من المتقولين من ذكر ولو كتابا واحدا في الزندقة وضعه الرجل الكبير! الذي انقلب جميله الذي أزجاه للأمة هما وغما عليه.
المؤسف والمحزن أن هذا الذي علمه أكثر من عقله لم يشفع له لا العلم ولا العقل حينما غضب عليه الحاكم، بل كان علمه وعقله سبب موته، وقد روى ابن حجر قصة مقتله بقوله: "وكان قتله المنصور سنة أربع وأربعين ومائة، لأن المنصور لما ظفر بعمه عبد الله بن علي، بعد أن جهز له جيشا بقيادة أبي مسلم الخراساني الذي هزمه، استأمن لعبد الله أخواه عيسى وسليمان المنصور، فآمنه، فطلب عبد الله من يرتب له كتاب أمان لا يستطيع المنصور أن ينقضه، وكان ابن المقفع كاتب سليمان أمير البصرة، فأمره أن يكتب، فكتب نسخة الأمان ومن جملته: "ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فعبيده أحرار، ونساؤه طوالق، والمسلمون في حل من بيعته". فاشتد ذلك على المنصور، وأمر سفيان بن معاوية المهلبي ـ أمير البصرة ـ وكان يعادي بن المقفع أن يقتله، فاحتال عليه فقتله. فاستعدى عليه سليمان إلى المنصور، فأحضر الشهود ليشهدوا أنه قتله، فقال لهم المنصور: "إن قبلت شهادتهم، وقتلت سفيان، فخرج ابن المقفع من هذا الباب، ما أصنع بكم؟" فرجعوا في الحال عن الشهادة، وبطل دم ابن المقفع(8).
وهكذا بسبب نزوة حاكم، وحقد والٍ، وجهل أمةٍ، فرطنا بعلم من كبار أعلام الأمة لمجرد أنه اخلص لولي نعمته، ونصح له، بدل أن نفيد من خبرته ونوظفها في تنمية خبراتنا، لنخدم ديننا وأمتنا. وكم من عالم قتله علمه وجاهل نال المقام الرفيع!
اضف تعليق