التاريخ نبع فيَّاض بالدروس والعِبر التي تُفيد بني البشر لو انتبهوا إليها وأخذوها بيد الجد، ولكن قالها أمير المؤمنين علي (ع) قديماً: (مَا أَكْثَرَ اَلْعِبَرَ وَأَقَلَّ اَلإِعْتِبَارَ)، فالعِبرُ كثيرةٌ في كل عصر ومصر، وفي كل زمان ومكان، وفي كل بيت وأسرة ومجتمع؛ بل وعند كل شخص منَّا...
وقعت المعركة يوم الجمعة 10 جمادى الأولى سنة 36ه في الخُرَيبَة من ضواحي البصرة
مقدمة
التاريخ نبع فيَّاض بالدروس والعِبر التي تُفيد بني البشر لو انتبهوا إليها وأخذوها بيد الجد، ولكن قالها أمير المؤمنين علي (ع) قديماً: (مَا أَكْثَرَ اَلْعِبَرَ وَأَقَلَّ اَلإِعْتِبَارَ)، فالعِبرُ كثيرةٌ في كل عصر ومصر، وفي كل زمان ومكان، وفي كل بيت وأسرة ومجتمع؛ بل وعند كل شخص منَّا ولكن الغفلة تأخذنا جميعاً ولا نعلم السبب إلا ضعف الهمة، وتسويفات النفس، واتباع الهوى، مع تسويلات الشيطان اللعين الرجيم، مع ما لشياطين الإنس من دور في الضغط على الناس للخضوع لهم.
ومن أعظم الدروس في السيرة النبوية العطرة هي ما تناقلته كتب السِّيرة والرِّواية، وما نستفيد منه ربما التواتر المعنوي إذا لم يكن اللفظي، من تنبيه الأمة الإسلامية إلى مجموعة قضايا لكيلا تقع فيها، فكلها وقعت فيها وكأنه – صلوات الله عليه وآله – أمرهم بالوقوع فيها، ومن أشدِّها وأوضحها كان التحذير من اليهود ودسائسهم، والمشركين وضلالهم، والمنافقين وخبثهم، فالقرآن الحكيم والسنة المطهرة مليئان بالآيات الكريمة، والروايات الشريفة التي تُحذِّر منهم، كأعداء حقيقيين يجب الانتباه لهم والحذر منهم.
ففي حديث صحيح عند القوم عن أبي سعيد الخدري قال: (كنَّا جلوسًا في المسجدِ، فخرَج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكأنَّما على رؤوسِنا الطيرُ، لا يَتكلَّمُ أحدٌ منَّا، فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): إنَّ منكم مَن يُقاتِلُ الناسَ على تأويلِ القرآنِ كما قاتَلتُهم على تنزيلِه، فقال أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه: أنا هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، قال عُمَرُ: أنا هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولكنَّه خاصِفُ النعلِ في الحُجرةِ، فخرَج علينا عليٌّ ومعه نعلُ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) يُصلِحُ منها). (تخريج مشكل الآثار شعيب الأرناؤوط؛ رقم 4061، والحديث إسناده صحيح).
وفي رواية أخرى له ولكنها أكثر دقة يقول فيها: (كنا قعودا ننتظرُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فخرجَ إلينا من حُجْرةِ عائشةَ، فانقطعتْ نعلهُ فرمَى بها إلى عليّ (عليهِ السلامُ)، ثم جلسَ فقال: إن منكُم لمَنْ ليقاتلنَّ على تأويلِ القرآنِ كما قاتلتُ على تنزيلهِ، فقال أبو بكرٍ: أنَا؟ قال: لا، قال عمرُ: أنَا؟ قال: لا؛ ولكنهُ خاصِفُ النعلِ في الحجرةِ، قال رجاءُ الزُّبَيْدِيّ: فأتى رجل عليّا في الرَّحبةِ فقال: يا أميرَ المؤمنينَ هل كان في حديثِ النعلِ شيء؟ قال: اللهم إنّكَ لتشهدُ أنّه مما كان رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يسُرّهُ إليّ). (شرح مشكل الآثار للطحاوي: ج10 ص237، والحديث (صحيح) رواته عدول أثبات).
والروايات بهذا المضمون كثيرة جداً وكلها صحيحة وأسنادها عالية، وفيها نفي واضح للأول، والثاني، من أنهما ممَّنْ يُقاتل على تأويل القرآن، لأنهم لم يُقاتلوا على تنزيله، فهم ليسوا برجال قتال أصلاً وهذا التاريخ كله ببابك إذا وجدتَ لهما مبارزة قتلا فيها أحداً من المشركين عامة، وقريش خاصة، بل الثاني صاحب الأساطير في البطولة والشجاعة كان يروي عن شجاعته في يوم أحد، والخندق، وخيبر، وذات السلاسل، والتي عاتبهم عليها رب العالمين يوم حُنين.
فكيف يتفاخرون بحروب الردَّة، ولا يندمون على مقتل القرَّاء فيها كيوم اليمامة الذي قُتل فيه أكثر من أربعمائة من قرَّاء القرآن، عدا مَنْ قُتل من الصحابة كمالك الخير، ابن نويرة وقومه، والعجيب الغريب أنهما تطاولا لذلك فنفاه رسول الله (ص) عنهما وأثبتها لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) حيث جاءت البشارة والإشارة بالوصف (خاصف النعل في الحجرة)، وأشار إليه فأنكروه جهاراً نهاراً وتسلَّطوا عليه وعلى الأمة وراحوا يدَّعون الفضيلة والفضائل التي وصفه رسول الله (ص) فيها ومنها؛ (قاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين).
عن مخنف بن سليم قال: أتَيْنا أبا أيوَّبَ الأنصاريَّ وهو يعلِفُ خيلًا له، فقلنا: قاتَلْتَ المُشركينَ بسيفِك مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ جئْتَ تُقاتِلُ المُسلمينَ؟! قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَني بقتالِ ثلاثةٍ: النَّاكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ، فقد قاتَلْتُ النَّاكثينَ والقاسطينَ، وأنا مُقاتِلٌ - إنْ شاء اللهُ - المارقينَ بالسَّعَفاتِ بالطُّرُقاتِ بالنَّهْرَوَاناتِ، وما أدري أين هو). (الكامل في الضعفاء ابن عدي: ج2 ص453، والحديث لا غُبار عليه إلا فيه الحارث بن حصيرة محترق بالتشيع ومع ضعفه يُكتب حديثه، أي أن الحديث صحيح ومعتد لولا هذا الراوي).
وعن ابن عبّاس قال: قال النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) لأمّ سلمة: (هذا عليّ بن أبي طالب لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؛ يا أمّ سلمة هذا عليّ أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، ووعاء علمي ووصييّ، وبابي الّذي أوتى منه، أخي في الدنيا والآخرة، ومعي في المقام الأعلى؛ يقتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين). (كفاية الطالب الكنجي: 69، ومختصر تاريخ دمشق: ج5 ص429)
وهذا الصحابي الجليل عمار بن ياسر يقول: سمعتُ النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: (يا علي، ستقاتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق، فمَنْ لم ينصرك يومئذ فليس مني)، فكيف بمَنْ قاتله وخرج عليه ناكثاً بيعته التي أعطاها بملئ إرادته ولوجه الله تعالى كما فعل الصحابة؟
فعندما تقرأ هذه الروايات الصحيحة تتعجب من جرأة أولئك الرهط من قريش، لا سيما الزبير بن العوام الذي كان الوحيد من بينهم شهر سيفه بوجه السلطة القرشية وكان مع ابن خاله الإمام علي (ع) في بيته عندما كبسها القوم وأرادوا حرقها على مَنْ فيها، فعن عمر بن شبة عن رجاله قال جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين فقال: "والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم"، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري و رجل آخر فندر (سقط) السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً حتى بايعوا أبا بكر". (شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج6 ص48).
ولذا يروي الشريف في نهج البلاغة؛ قال (عليه السلام) لعبد الله بن العباس لما أنفذه إلى الزبير يستفيئه (يسترجعه) إلى طاعته قبل حرب الجمل: (لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول هو الذلول، ولكن ألق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا)، وتعني "ما الذي صدَّك عن طاعتي بعد إظهارك لها"، كما قال ابن أبي الحديد في شرحها.
وتزاد تعجباً من هذا الصحابي الجليل أن رسول الله (ص) حذَّره شخصاً من قتال ابن خاله، لأنه سيكون ظالماً له، فعن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، قال: شهدتُ الزبير خرج يريد علياً، فقال له عليٌّ: أنشدك الله؛ هل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (تقاتله وأنت له ظالم)؟ فقال: لم أذكر، ثم مضى الزبير منصرفاً). ثم يقول الحاكم: هذا حديث صحيح". (كتابنا الإمام علي وحروب التأويل؛ ج1 ص509، والمستدرك عل الصحيحين للحاکم النيسابوري: ج3ص 366).
ويروي المسعودي ما هو أعجب في مروج الذهب: خرج عليّ بنفسه حاسراً على بغلة رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) لا سلاح عليه، فنادى: يا زبير، أخرج إليّ، فخرج إليه الزبير شاكّاً في سلاحه، فقيل ذلك لعائشة، فقالت: وا ثكلك يا أسماء، فقيل لها: إنّ عليّاً حاسر، فاطمأنّت. واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه.
فقال له عليّ: ويحك يا زبير! ما الذي أخرجك؟ قال: دم عثمان، قال: قتل اللَّه أولانا بدم عثمان، أما تذكر يوم لقيت رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) في بني بياضة وهو راكب حماره، فضحك إليّ رسول اللَّه، وضحكت إليه، وأنت معه، فقلت أنت: يا رسول اللَّه، ما يدع عليّ زهوه.. فقال لك: ليس به زهو، أتحبّه يا زبير؟ فقلت: إنّي واللَّه لأحبّه.
فقال لك: إنّك واللَّه ستقاتله وأنت له ظالم، فقال الزبير: أستغفر اللَّه، واللَّه لو ذكرتها ما خرجت.
فقال له (عليه السلام): يا زبير، ارجع، فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان؟ هذا واللَّه العار الذي لا يُغسل، فقال (عليه السلام): يا زبير، ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار)، فقال ابنه عبد اللَّه: أين تذهب وتدعنا؟ فقال: يا بنيّ، أذكرني أبو الحسن بأمر كنت قد أنسيته، فقال: لا واللَّه، ولكنّك فررت من سيوف بني عبد المطّلب؛ فإنّها طوال حداد، تحملها فتية أنجاد، قال: لا واللَّه، ولكنّي ذكرت ما أنسانيه الدهر، فاخترتُ العار على النار، أ بالجبن تعيّرني لا أبالك؟). (مروج الذهب: 2/371 وراجع أنساب الأشراف: 3/51 والفتوح: 2/469 والإمامة والسياسة: 1/92 والمناقب للخوارزمي: 179/216 وتاريخ اليعقوبي: 2/182، وقريب منه في تاريخ الطبري: 4/508، الكامل في التاريخ: 2/335 نحوه وراجع أُسد الغابة: 2/310/1732 ومسند أبي يعلى: 1/320/662 والبداية والنهاية: 7/241 والأمالي للطوسي: 137/223 والصراط المستقيم: 3/120).
هذا نصٌّ واضح وصريح من رسول الله (ص) أنهم ظالمين بخروجهم على أمير المؤمنين (ع)، فأين عقولكم يا مسلمين؟ فحرب الجمل كانت ظالمة بكل ما فيها، ولكن كان لا بدَّ منها بالنسبة لأمير المؤمنين (ع) ولذا قال: (ما وجدتُ من قتال القوم بداً، أو الكفر بما أنزل على محمد (صلّى الله عليه وآله). (مختصر تاريخ دمشق: ج5 ص429)
فكانوا ومازالوا وكل مَنْ وقف معهم ضدَّه، وأعلن الحرب عليه هو ظالم لنفسهن ولدينه، ولإمامه الذي أوجب الله طاعته ونصرته عليهم، ولكن إلى الآن تجد مَنْ يختلق التبريرات الواهية ويلوي عنق الحقيقة الناصعة، ليُلبِّس على الناس الحق، ويجعلهم يتيهون في ظلمات وغياهب الضلال.
التحذير من كلاب الحوأب
في هذه المسألة التي تُحيِّر ذوي اللباب من هذه الأمة، فآيات وأوامر القرار في البيوت جاءت من الله تعالى، في قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأحزاب: 33)
وأما الروايات والتحذير من الخروج فقد جاءت عنها شخصياً، وجميعهم رووها عنها بألفاظ مختلفة فعن عائشة: (أن النبى (صلى الله عليه وآله) قال لأزواجه: (أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب)؟ فلما مرَّت عائشة ببعض مياه بنى عامر ليلاً نبحت الكلاب عليها فوقفت وسألت عنه فقيل لها: هذا ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة إني سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لنا ذات يوم: (كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب)، قيل لها: يا أم المؤمنين إنما تُصلحين بين الناس). (أخرجه ابن أبى شيبة (7/536، رقم 37771)، ونعيم بن حماد (1/83، رقم 188)
وفي رواية صحيحة لا كلام عليها ما رواه الإمام أحمد بن حنبل، والحالكم عن عائشة: (كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب)، ورجال أحمد رجال الصحيح، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين". (أخرجه أحمد (6/52، رقم 24299) قال الهيثمى (7/234)، والحاكم (3/129، رقم 4613)، ابن أبى شيبة (7/536، رقم 37771)، وإسحاق بن راهوية (3/891، رقم 1569)، وأبو يعلى (8/282، رقم 4868)، ونعيم بن حماد في الفتن (1/83 ، رقم 188)، وابن عدى (4/320)
وفي الحديث المتواتر عن رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) قال لنسائه: (ليت شِعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب (كثير وبر الوجه)، التي تنبحها كلاب الحوأب، فيُقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة، ثمّ تنجو بعدما كادت؟!). (معاني الأخبار: 305/1، الجمل: 432، شرح الأخبار: 1/338/304، المناقب لابن شهرآشوب: 3/149، تنبيه الخواطر: 1/22؛ مجمع الزوائد: 7/474/12026، شرح نهج البلاغة: 9/311، تاريخ الإسلام للذهبي: 3/490، الاستيعاب: 4/439/3463، البداية والنهاية: 6/212 ومسند ابن حنبل: 9/310/24308 والمستدرك على الصحيحين: 3/130/6413 وصحيح ابن حبّان: 15/126/6732 والمصنّف لابن أبي شيبة: 8/708/15 والمصنّف لعبد الرزّاق: 11/365/20753 ومسند أبي يعلى: 4/423/4848 وفتح الباري: 13/55 وفيه: سنده على شرط الصحيح)
وحديث المستدرك على الصحيحين عن أُمّ سلمة: ذكر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله) خروج بعض أُمّهات المؤمنين، فضحكت عائشة، فقال: انظري يا حُميراء أن لا تكوني أنتِ، ثمّ التفتَ إلى عليٍّ فقال: إن وليتَ من أمرها شيئاً فارفق بها). (المستدرك على الصحيحين: 3/129/4610، دلائل النبوّة للبيهقي: 6/411، البداية والنهاية: 6/212، المحاسن والمساوئ: 49، المناقب للخوارزمي: 176/213؛ الجمل: 431، المناقب لابن شهرآشوب: 3/148، شرح الأخبار: 1/338/305)
وإليك المنطق العجيب الغريب من هؤلاء الذين يدَّعون العلم، قال ناصر الدِّين الألباني في كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة معلقاً على هذا الحديث: "إنّ الحديث صحيح الإسناد، ولا إشكال في متنه... فإنّ غاية ما فيه أنّ عائشة لمّا علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع، والحديث يدلّ أنّها لم ترجع! وهذا ممّا لا يليق أن يُنسب لأُمّ المؤمنين". (سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/775)
هنا الطامة الكبرى حقاً الرجل مقتنع تماماً بأنها كانت مخطئة وعاصية، والحديث ثابت وصحيح ولكن (لا يليق أن يُنسب لأُمّ المؤمنين) فأي شيء لا يليق أن يُنسب لها أيها الباني وهي فعلت، وخرجت، وقادت جيشاً عرمرماً وقتل حولها سبعة عشر ألف من أبنائها، فلماذا لا تتجرأ لتقول لها ذلك؟ قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)
وليس المسألة بهذه البساطة أبداً بل كانت أوَّل كذبة جماعية وشهادة زور وقعت في الإسلام كما يروي البلاذري في الأنساب فيقول: "وسمعت عائشة في طريقها نباح كلاب فقالت: ما يقال لهذا الماء الذي نحن به؟ قالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ردوني، ردوني فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: وعنده نساؤه: "أيتكن ينبحها كلاب الحوأب"، وعزمت على الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير فقال: كذب مَنْ زعم أن هذا الماء الحوأب، وجاء بخمسين من بني عامر فشهدوا وحلفوا على صدق عبد الله". (انساب الأشراف البلاذري: ص٢٢٤)
معركة الجمل هي بدر الثانية
فالحديث ثابت وصحيح ولا كلام فيه، والحادثة أيضاً هي مما لا شك فيه فحرب الجمل هي بمثابة (بدر قريش الثانية)، كما سماها بعض الأعلام محقين، لأنها كانت بقيادة قرشية وتفانت فيها وجوه وزعماء الحرب القرشيين لا سيما طلحة بن عبيد التيمي، والزبير بن العوام، والفرق بين الحربين أن الأولى كانت قريش مشركة، وفي الثانية كانت مفتونة، وكلاهما بقيادة وتوجيه بني أمية، تلك الشجرة الملعونة في القرآن، ففي بدر كانت قيادتهم حاضرة ومباشرة وفي الثانية كانت قيادتهم من الشام حيث معاوية الشيطان الذي ارسل لهم رسائل ويمنيهم بالملك والخلافة ويوجههم إلى العراق لأنه يضمن لهم الشام، فأوقعهم في الفخ وكان جاسوسه مروان بن الحكم الوزغ، الذي قتل طلحة بن عبيد عندما رآه يُريد أن يفر، وقال: لا أطلب ثأري بعدك من أحد"، ليقينه أنه هو الذي تسبب بمقتل عثمان بن عفان، فأدرك ثأره منه بتلك الرمية.
اضف تعليق