q
إنسانيات - تاريخيات

مَعْرَكَةُ النَّهْرَوَان المُستَمِرَّةُ إلَى الآنِ

تأملاتٌ فِي مَعركةِ الخَوارجِ قديمها وحديثها

كان لظهور الخوارج المبكر في حياة المسلمين دور أساسي في بروزهم، وظهورهم كمجموعة واضحة المعالم ومتطرفة الأفكار حيث كانوا يجعلون من أنفسهم الخبيثة الشريرة مقياساً للحق والباطل ويسيرون عليها دون هدى من دين ولا حجة من رسول، بل كانوا يتيهون ويتخبطون خبط عشواء في الليلة الظلماء...

التاريخ: /9 صفر 37 هـ = 21 مارس 658م/ يوم النيروز

المكان: نهر النهروان بين واسط وبغداد، وقيل: قرب المدائن جنوبي بغداد.

مقدمة تاريخية

كان لظهور الخوارج المبكر في حياة المسلمين دور أساسي في بروزهم، وظهورهم كمجموعة واضحة المعالم ومتطرفة الأفكار حيث كانوا يجعلون من أنفسهم الخبيثة الشريرة مقياساً للحق والباطل ويسيرون عليها دون هدى من دين ولا حجة من رسول، بل كانوا يتيهون ويتخبطون خبط عشواء في الليلة الظلماء.

وكان أول مَنْ حذَّر منهم رسول الله (ص) كما ورد في البخاري ومسلم قوله (ص): (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ).

وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان قال رسول الله (ص): (يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسلام، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).

ولم يكتفِ النبي (ص) بالوصف بل أشار إلى المصداق له في عدة مواطن، ففي البخاري ومسلم: عندما أعطى النبي بعض المشركين من الغنائم، فَجَاءَ رَجُلٌ اسمه ذو الخُوَيْصِرة، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي)، ثم قال رَسُولُ اللهِ فيه: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ).

وفي مسند أحمد قال النبي في ذي الخُوَيْصِرَة: (فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).

ومرة أخرى يُبيِّن المصداق ويأمرهم بقتله ولكن ينكصون عنه كعادتهم لأنهم ليسوا أهلاً لقتله وأصحابه، فعن جابر بن عبد الله قال: مَرَّ على رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) رجُلٌ فقالوا فيه، وأثنَوْا عليه، فقال: مَن يَقتُلُه؟ فقال أبو بَكرٍ: أنا؛ فذهَبَ فوجَدَه قد خَطَّ على نَفْسِه خُطَّةً وهو يُصَلِّي فيها، فلمَّا رآه على ذلكَ الحالِ رجَعَ ولم يَقتُلْه، فقال النَّبيُّ (صلَّى اللهُ عليه وآله): مَن يَقتُلُه؟ فقال عُمَرُ: أنا؛ فذهَبَ، فرآه في خَطِّه قائمًا يُصَلِّي، فرجَعَ ولم يَقتُلْه، فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): مَن له؟ أو: مَن يَقتُلُه؟ فقال عليٌّ: أنا؛ فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): أنتَ، ولا أُراكَ تُدرِكُه، فانطَلَقَ فرآه قد ذهَبَ).(مجمع الزوائد: ج6 ص338، رجاله رجال الصحيح)

وعن أبي سعيد الخدري قال: بَعَثَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ إلى رَسولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه (وآله) وَسَلَّمَ) مِنَ اليَمَنِ، بذَهَبَةٍ في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِن تُرَابِهَا، قالَ: فَقَسَمَهَا بيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ.. فَقالَ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بهذا مِن هَؤُلَاءِ، قالَ: فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ (صَلَّى اللَّهُ عليه (وآله) وَسَلَّمَ)، فَقالَ: (أَلَا تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَن في السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)؟

قالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإزَارِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقالَ: وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟ قالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ،.. قالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهو مُقَفٍّ، فَقالَ: إنَّه يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، رَطْبًا لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ قالَ: أَظُنُّهُ قالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ). (مسلم: ح1064 والبخاري: ح7432، والحديث صحيح)

وعن شريك بن شهاب قال: كنت أتمنى أن ألقى رجلاً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُحدِّثني عن الخوارج فلقيتُ أبا برزة في يوم عرفة في نفر من أصحابه، فقلتُ: يا أبا برزة حدِّثنا بشيء سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقوله في الخوارج. قال: أُحدِّثُك بما سمعتْ أذناي ورأتْ عيناي؛ أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدنانير يُقسِّمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان بين عينيه أثر السجود فتعرَّض لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه من قِبل وجهه فلم يُعطه شيئاً، فأتاه من قِبل يمينه فلم يُعطه شيئاً، ثم أتاه من خلفه فلم يُعطه شيئاً، فقال: والله يا محمد ما عدلت في القسمة منذ اليوم.

فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضباً شديداً ثم قال: (والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم مني) قالها ثلاثاً.. ثم قال: (يخرج من قبل المشرق رجال كان هذا منهم هديهم هكذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرَّمية لا يرجعون إليه، "ووضع يده على صدره" سيماهم التَّحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم فإذا رأيتموهم فاقتلوهم)، "قالها ثلاثا" (شر الخلق والخليقة) قالها ثلاثاً) (مجمع الزوائد: ج6 ص342 ح10408)

فهؤلاء شرُّ الخلق والخليقة، ويُقاتلهم، ويَقتلهم خير الخلق والخليقة، فكان أمير المؤمنين الإمام علي (ع) هو الذي قاتلهم في يوم النهروان، ولكن السؤال هل انتهوا من الأمة الإسلامية، أم أن لهم وجود قوي وتيار وبائي كبير جداً تبلور اليوم بهذه التيارات المنحرفة عن الدين، والفكر، وحتى عن الإنسانية؟

لأنه لدينا رواية يقول فيها رسول الله (ص): (سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ يُحَقِّرُوْنَ صَلَاتُكُمْ فِي جَنْبِ صَلَاتِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فَلَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ، بَيْنَهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ مُخْدَجُ الْيَدَيْنِ إِحْدَى ثَدْيَيْهِ كَأَنَّهَا ثَدْيُ امْرَأَةٍ)، وفي رواية عائشة: (يَقْتُلُهُ خَيْرُ أُمَّتِيْ مِنْ بَعْدِيْ).

وفي رواية الصحيحين البخاري ومسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، وفي مسند أحمد قال النبي في ذي الخُوَيْصِرَة: (فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).

ألا ترون أن رسول الله (ص) يصف هؤلاء المجرمين الذين ابتُليت بهم الأمة في هذا العصر، كما في حديث عبد الله بن عمر في البخاري: (ذَكَرَ النبيُّ (صَلَّى اللهُ عليه (وآله) وسلَّمَ): اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وفي نَجْدِنَا؟ قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وفي نَجْدِنَا؟ فأظُنُّهُ قالَ في الثَّالِثَةِ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ والفِتَنُ، وبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ). (البخاري: ح7094، والحديث صحيح)

ولو طلبنا منه (ص) البيان أكثر لجاءنا حديث البخاري الذي يقول فيه: (مِنْ ها هُنا جاءَتِ الفِتَنُ، نَحْوَ المَشْرِقِ، والجَفاءُ وغِلَظُ القُلُوبِ في الفَدّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ، عِنْدَ أُصُولِ أذْنابِ الإبِلِ والبَقَرِ، في رَبِيعَةَ، ومُضَرَ). (صحيح البخاري: ح3498، والحديث صحيح)

فالبلاء والفتن أتتنا من نجد قرن الشيطان حيث خرجت منها هذه القطعان الصهيووهابية المجرمة من الذين كفَّروا الأمة الإسلامية قاطبة واستحلوا دماءها، وأموالها، وأعراضها التي حصَّنها الله بالشهادتين، ولكن وضعوا سبعة شروط لقبول الشهادتين كما أفتى لهم شيطانهم ابن عبد الوهاب.

فهؤلاء المنحرفين في الفكر والدِّين والعقيدة الذين يعبدون الشيطان وأهواءهم، وابن تيمية وابن عبد الوهاب الذي أحلَّ لهم كل حرام، وحرم عليهم كل حلال وأطاعوه وعوا الله، فارتكبوا من الجرائم ما يندى له جبين الإنسانية حقاً، والتاريخ يروي أنهم عندما اجتمعوا في النهروان "فمرَّ بهم مسلم ونصراني، فقتلوا المسلم بعد أن عرفوا رأيه بالإمام، وتركوا النصراني قائلين: لا بدَّ أن نحفظ ذمَّة نبيِّنا"، وكأنَّ الإسلام لم يحقن دماء المسلمين!

وألقوا القبض على الصحابي عبد الله بن الخباب بن الأرت وكان معه زوجته حاملاً، وفي رقبته مصحف، بينما يحاورونه سقطت تمرة من نخلة فتناولها أحدهم، فصاحوا به حتى لفظها لأنها حرام ولم يُؤذن من صاحبها، ومرَّ بجوارهم خنزير فقتله أحدهم، فأنكروا عليه أشد الإنكار، وقالوا: هذا فساد في الأرض لا يجوز، ثم قالوا له: ما تقول في عليٍّ بعد التحكيم والحكومة؟

فقال: إن عليًّا أعلم بالله، وأشد توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرة.

فقالوا: إنك لا تتبع الهُدى، بل تتبع الهوى، والرِّجال على أسمائهم، ثم جرُّوه إلى شاطئ النهر وذبحوه، وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها، وذبحوها مع ولدها إلى جانبه!. (الإمام على (ع): قدوة وأسوة، السيد محمد تقي المدرسي: ص121بتصرف)

هذا كان دينهم وديدنهم في الفساد، فتنامي الفكر المتطرف، وانحسار الوعي والبصيرة، وتساقط أسس التفكير الدِّيني والعقلي عند هؤلاء القوم، كان السبب في جرائمهم، منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا فما رأيناه في سوريا ولبنان، وليبيا، واليمن، وأفغانستان، وما شهده العراق من مجازر هذه القطعان الوحشية لا سيما في (سبايكر) التي كانت مجزرة القرن، فهذا كله من ذاك الفكر الضَّال المضل، والمعركة التي قامت في النهروان ما زالت مستمرة إلى الآن بكل قوة.

الموقعة التاريخية

نأخذها من الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره الشريف) حيث يقول: "لما دخل أمير المؤمنين (ع) الكوفة بعد صفين جاء إليه الخوارج، منهم زرعة بن البزرج الطائي، وحرقوص بن زهير التميمي ذو الثدية. فقال: لا حكم إلاّ لله. فقال (ع): (كلمة حق يراد بها باطل).

ثم إن هؤلاء حرضوا الناس على قتال علي (ع) وقتال أصحابه، وشكلوا جيشاً من الخوارج للهجوم على المسلمين، وقالوا: (لا حكم إلاّ لله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،. وكانوا اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما، ونادى مناديهم: "إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله ابن الكواء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، واستعرضوا الناس وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان عامل (والي) علي (ع) على النهروان.

فقال أمير المؤمنين (ع): (يا ابن عباس، امضِ إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا)، فلما وصل إليهم قالوا: ويلك يا ابن عباس، أكفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب!. وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي فقال ابن عباس: مَنْ بنى الإسلام؟، فقال: الله ورسوله. فقال: النبي أحكم أموره ودخل بين حدوده أم لا؟ قال: بلى. قال: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟ قال: بل ارتحل. قال: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده؟ قال: بل بقيت. قال: وهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه. قال: نعم الذرية والصحابة. قال: أ فعمروها أو خربوها؟ قال: بل عمّروها. قال: فالآن هي معمورة أم خراب؟ قال: بل خراب. قال: خربها ذريته أم أمته؟ قال: بل أمته. قال: وأنت من الذرية أو من الأمة؟ قال: من الأمة. قال: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام، فكيف ترجو الجنة؟!

وجرى بينهم كلام كثير، فحضر أمير المؤمنين (ع) في مائة رجل، فلما قابلهم خرج ابن الكواء في مائة رجل فقال (ع): (أنشدكم الله هل تعلمون حيث رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله، فقلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم - وذكر مقاله إلى أن قال - فلما أبيتم إلاّ الكتاب أشرطت على الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، وأن يُميتا ما أمات القرآن؛ فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكمه، وإن أبيا فنحن منه برآء).

فقالوا لـه: أخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

فقال (ع): (إنا لسنا الرجال حكَّمنا وإنما حكَّمنا القرآن، والقرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال).

قالوا: فأخبرنا عن الأجل لمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟

قال (ع): (ليعلم الجاهل ويثبت العالم، ولعل الله يُصلح في هذه المدة لـهذه الأمة).

وجرت بينهم مخاطبات فجعل بعضهم يرجع، فأعطى أمير المؤمنين (ع) راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب: مَنْ جاء إلى هذه الراية أو خرج من بين الجماعة فهو آمن. فرجع منهم ثمانية آلاف رجل، فأمرهم أمير المؤمنين (ع) أن يتميَّزوا منهم، وأقام الباقون على الخلاف وقصدوا إلى النهروان.

فتوجه أمير المؤمنين (ع) نحوهم، وكتب إليهم على يدي عبد الله بن أبي عقب وفيها: (والسعيد مَنْ سعد به رعيته، والشقي مَنْ شقيت به رعيته، وخير الناس خيرهم لنفسه، وشر الناس شرهم لنفسه، وليس بين الله وبين أحد قرابة، و)كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ).

فلما أتاهم أمير المؤمنين (ع) فاستعطفهم فأبوا إلا قتاله وتنادوا: "أن دعوا مخاطبة علي وأصحابه وبادروا الجنة"، وصاحوا: الرواح الرواح إلى الجنة.. وأمير المؤمنين (ع) يُعبئ أصحابه ونهاهم أن يتقدم إليهم أحد.. فهجم القوم على جيش أمير المؤمنين (ع) وقتلوا بعض أصحابه، عند ذلك أمر علي (ع) بالدفاع.

وما هي إلا سويعات حتى انجلت المعركة عن مقتلهم وكانت النتيجة كما أخبرهم أمير المؤمنين (ع) في طريقه إلى النهروان، حيث قالوا له: لقد عبروا النهر، فقال (ع): (والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله، لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة)، فاستشهد من أصحابه تسعة، وهرب من الخوارج تسعة، وكان ذلك لتسع خلون من صفر سنة ثمان وثلاثين.

عن عبد الله بن أبي رافع، وأبي موسى، وجندب، وأبي الوضاح، قال علي (ع):(اطلبوا المخدَّج). فقالوا: لم نجده. فقال (ع): (والله ما كذبتُ ولا كُذِّبت، يا عجلان، إيتني ببغلة رسول الله (ص).

فأتاه بالبغلة فركبها وجالَ في القتلى، ثم قال: (اطلبوه هاهنا). قال: فاستخرجوه من تحت القتلى في نهر وطين، وفي رواية أبي نعيم، عن سفيان، فقيل: قد أصبناه، فسجد لله تعالى). (من حياة الإمام علي (ع) السيد محمد الشيرازي: ص113 بتصرف)

معركة النهروان الآن

تلك هي قصة من التاريخ الإسلامية ومأساة عاشها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي بنا الإسلام وقام بسيفه يأتي مثل حرقوص، وذو الثدية، وشَبث بن ربعي، والأشعث بن قيس الكندي عرف النار، وابن الكوا الزنديق ليُكفِّروه، ويفتون بقتله وقتل جيشه وأمته، ولا يتورَّعون عن ارتكاب أفظع الجرائم، وأقبح الآثام، أليس هذا من هوان الدنيا على الله؟

فأصحاب تلك العقول المتحجرة، والقلوب الصوَّانية، والأفكار المتعفِّنة، والآراء الجاهلية، يُحاولون أن يفرضوا أنفسهم على الأمة في عصر الحضارة والتفجر العلمي والمعرفين والأدهى من ذلك أنك تقرأ في التاريخ الإسلامي والروايات المتواترة قول رسول الله (ص) لعليٍّ (ع) يوم الخندق: (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) (شرح نهج البلاغة: 19/61؛ كنز الفوائد: 1/297، الطرائف: 35، إرشاد القلوب: 244، عوالي اللآلي: 4/88/113)

فيأتون إلى الإيمان كله بشهادة رسول الله (ص) ويقولوا له: كفرت، فإذا كان الإيمان بفكر هؤلاء كفر، فما هو الكفر عندهم؟ أليس هو الإيمان فلماذا يقتلون أهل الإيمان وهم بالقتل أجدر، ولكن مازالت أفكار أولئك الأشرار من أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن عبد الوهاب تؤتي شرَّها في الأمة ولكن اقترب الفجر والوعد الحق وشمس الحقيقة بالشروق لتعرف الأمة حقيقة الوهابية المجرمة.

ولله الحمد لم تمضِ الأيام إلا وأرتنا حقيقتهم وواقعهم، ودينهم، فها هم يتراكضون بأرجلهم ويُعطون بأيديهم ويتساقطون في أحضان الصهيونية جاهراً نهاراً دون خوف أو وجل، ولا رادع من دين ولا وازع من شرف أو ضمير أم خوف من أمة تعدُّ اليوم ربع سكان المعمورة، ولكن هؤلاء قادتها وأهل الفكر المتحجر فيها الذين يُحاولون منذ قرن من الزمن أن يُعيدوا الأمة إلى الجاهلية البغيضة التي أنقذهم الإسلام ورسول الله (ص) منها وبنا لهم أمير المؤمنين (ع) دولة حكمت نصف العالم القديم تقريباً.

فمعركة النهروان مستمرة إلى الآن وإن اختلفت المسميات، فتراهم يأتون بمسخ لا يُجيد الكلام، ويُفتي بهدم قبر سيِّد الأنام ويُسميه بالصَّنم، وآخر على شكله ومن أمثاله، يُفتي بأعلام الشيعة الكبار، ومراجعها العظام الذين تتقطر التقوى من أردانهم، ويتفجر العلم والفقه من جوانبهم، فعندما أسمع وأقرأ بعض ما يتفوَّهون به أتذكر كل كلمة وحرف قاله رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) بحقهم.

وأقول: متى تستيقظ هذه الأمة وتقرأ وتعي وتتبصَّر الحق وتتبعه في حياتها ودينها وواقعها؟

اضف تعليق