q

ضحية أخرى من ضحايا الغدر والمكر الأموي من الذين ضمتهم قائمة المطلوبين للسلطة الأموية وممن شملتهم سياسة معاوية القذرة بفقرة (إن لله جنوداً من عسل)!

لم تكتف هذه السياسة المشؤومة بسلبه حياته فقط، بل سلبته سمعته وشوّهت سيرته وألصقت بها ماليس فيه، فأشاعت بأنه كان من اللصوص والفتّاك وقطاع الطرق! وهذا مدعاة للضحك حين يُتهم رجل دلت الحقائق التاريخية على نبله وشرفه وأخلاقه من قبل سلطة معاوية التي تضمّ أبشع مجرمي التاريخ ممن لا يحصى قتلاهم وضحاياهم من الأبرياء والنساء والشيوخ والأطفال.

فعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها المجرمون من أصحاب معاوية: سفيان بن عوف الغامدي، وبسر بن أرطأة القرشي، وقيس بن الضحاك الفهري وسمرة بن جندب وغيرهم ممن غذتهم سياسة معاوية الدموية على الغزو والقتل والسلب وقطع الطرق واستباحة المدن وغيرها من الجرائم الفظيعة، ما يجعلها في صدارة جرائم التاريخ البشري ومما يثير التقزّز من هذه النفوس المولعة بدماء الأبرياء.

مالك بن الريب

هو مالك بن الريب بن حوط بن قرط بن حسل بن عاتك بن خالد بن ربيعة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

ولد في عهد عمر بن الخطاب في قرية عنيزة بالقصيم، وعايش أقسى الفترات التي مرّت بالتاريخ الإسلامي وهي فترة معاوية بن أبي سفيان، فكان يرى استئثار الأمويين وأتباعهم بالأموال وعيشهم حياة الترف والبذخ في حين كان يقبع الشعب تحت وطأة الجوع والفقر والفاقة والذل وقمع الحريات.

كان ولاة بني أمية (يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع) كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) و(اتخذوا مال الله دولا وعبداه خولا)، وبلغت بشاعة الوالي الأموي من قبل معاوية المنذر بن الزبير القرشي ووزيره ومساعده (مسلم الباهلي) في سياستهما الظالمة أن زرعا القهر والجوع والإرهاب وأوغلا في سفك الدماء وعاثا فساداً في الأرض واستأثرا ببيت المال فأثقل ذلك على المسلمين فانتشر الفقر والجوع وتفشى الإرهاب في قرى القصيم.

مالك يعلن الثورة

في ذلك الجو العاج بالظلم والقهر نشأ مالك بطلاً أبياً جميلاً (من أجمل العرب جمالاً وأبينهم بياناً) وكأنه أختير لمرحلة يكون فيها معبراً باسم الشعب عن فداحة الظلم الذي يعانيه، كما يظهر الأبطال والمصلحون في مراحل التاريخ لتكون لهم يد وبصمة على مجريات الأحداث ويطالبوا بالعدالة والمساواة وينددوا بظلم المستكبرين، فهم يشكلون في التاريخ نقاطاً مضيئة وبوارق أمل لشعبهم من أجل التحرّر من نير العبودية ويزرعوا فيهم صوتاً للحرية والمطالبة بالحقوق المغتصبة.

ثار مالك على غطرسة معاوية وسياسته الجائرة وثار معه من بني قومه أكثر من (30) رجلاً لمواجهة سياسة الظلم والاستبداد والتسلط، ثاروا على السلطة وأذنابها ممن يتمتعون بخيرات الشعب من أثرياء بني كندة وبني ذبيان و بني عبس وغيرهم ممن وهبهم معاوية الثروات الطائلة التي لا يستحقونها على حسب تبعيتهم له.

إن المؤرخين أشاحوا بوجوههم عن كل الأوضاع المزرية التي كان يعيشها المسلمون من جوع وقهر وتربصوا لمن يرفع صوته مطالباً بالعدالة ليتهموه باللصوصية وقطع الطرق فوصفوا انتفاضة مالك بن الريب بما نصه: (تزعّم طائفة من اللصوص متخذاً منهم فئة تمارس نشاطاً اتفقوا عليه وخضعوا لنظامه واندفعوا في تحقيق رغباتهم من خلال هذا النشاط)، ونحن لا نعتب على أولئك المؤرخين الذين امتلأت بطونهم من سحت السلطات، ولكن نعتب على من يجري مجراهم في الوصف ويغض الطرف عن دكتاتورية معاوية وبشاعة ولاته، والعجيب أنهم دائماً يقفون بجانب السلطة ويتهموا المعارضين حتى لو كان هذا المعارض من أجلّ الناس وأعظمهم وممن بشرّه الله والنبي بالجنة كما اتهموا الصحابي العظيم أبا ذر الغقاري (رضي الله عنه) والذي جسّد مالك بن الريب مقولته الشهيرة: (عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج على الناس شاهراً سيفه)!

نفسية مالك

وقد كنتُ عطّافاً إذا الخيلُ أدبَرتْ *** سريعاً لدى الهيجا إلى من دعانيا

وقد كنت محموداً لدى الزادِ والقِرى *** وعن شتميَ ابن العمِ والجارِ وانياً

وقد كنتُ صبَّاراً على القرنِ في الوغى *** ثقيلاً على الأعداءِ عضباً لسانيا

هذه الأبيات من قصيدته (اليائية) المشهورة التي نعى فيها مالك بن الريب نفسه فيكشف عن نفسيته وأخلاقه الكريمة وشجاعته وكرمه ونجدته وإبائه، ولكن السياسة الأموية الداعرة التي مدّت يد العبث والتزوير في التاريخ لوّثت وزيّفت هذه السيرة.

فقد أشاعت في البلاد الإسلامية تزييفها حقيقة هدف مالك من العدالة ونشرت أكاذيبها بأنه سارق ولص وقاطع طريق مع جماعته الثائرين ضد سياستها، والناس عبيد الدنيا فقد انتشر خبر السلطة كالنار في الهشيم وتناقل الناس أخبارهم، وتجنبوا المرور في طرقاتهم وحذروا منهم حتى قال أحدهم

الله نجّاكَ من القصيمِ *** وبطنَ فلجٍ وبني تميمِ

أشعار تتحدى السلطة

أقلق مالك وجماعته على قلتهم الدولة الأموية حيث تعالت أصوات مالك وأشعاره وهي تندّد بسياسة معاوية وتفضح أساليب ولاته في البلاد، فأمر مروان بن الحكم الوالي على المدينة من قبل معاوية بالقبض عليهم فهربوا، فكتب إلى الحارث بن حاطب الجمحي مساعده على بني عمرو بن حنظلة بالقبض عليهم فهربوا منه، وبلغ مالك أن الحارث يهدِّده فرد عليه بقصيدة طويلة يستهين به وبتهديده فيها ما دام مؤمناً بقضيته كما يوضح فيها براءته من التهم المنسوبة إليه وإن هدفه الأوحد هو العدالة:

تألّى حلفةً في غيرِ جرمٍ *** أميري حارثٌ شبه الصرارِ

عليَّ لأجلدنّْ في غير جرمٍ *** ولا أُدنى فينفعني اعتذاري

وقلتُ وقد ضممتُ إليَّ جأشي *** تحلل لا تألّ عليَّ حارِ

فإني سوف يكفينيكَ عزمي *** ونصي العيس بالبلدِ القفارِ

وقوله (من غير جرمٍ) شاهد على أنه لم يرتكب جرماً سوى مطالبته بالحقوق المهدورة، ويخاطب مروان بن الحكم بأنه لن يتنازل عن قضيته وسيبقى يهددهم:

ألا من مبلغٍ مروانَ عني *** فإني ليسَ دهري بالفرارِ

ولا جزعٍ من الحدثانِ يوماً *** ولكني أرودُ لكم وبارِ

بهزمارٍ ترادُ العيسَ فيها *** إذا أشفقنَ من قلقِ الصفارِ

ويهجو مروان بهجاء مقذع:

لعمركَ ما مروان يقضي أمورَنا *** ولكنَّ ما تَقضى لنا بنت جعفرِ

فياليتها كانت علينا أميرةً *** وليتكَ يا مروان أمسيتَ ذا حرِ

ويعرّض بسياسة الأمويين المتسلطة واستئثارها بالمالِ دون المسلمين:

أحقاً على السلطان: أما الذي له *** فيُعطى وأما ماعليه فيمنعُ

إذا ما جعلتُ الرملَ بيني وبينه *** وأعرضَ سهبٌ بين يبرينَ بلقعُ

فشأنكمُ يا آلَ مروانَ فاطلبوا *** سقاطي فما فيه لباغيهِ مطمعُ

وما أنا كالعيرِ المقيمِ لأهلهِ *** على القيدِ في بحبوحةِ الضيمِ يرتعُ

لقد عبّر مالك بن الريب عن ألمه وألم المسلمين في شعره وطالب الولاة بالعدل بين الناس والالتزام بالحق ولم يقبع تحت خوف السوط والسيف رغم بطش السلطة، بل كان يندّد ويجاهر بالرفض ويتضح ذلك من انتقاده لسياسة معاوية الجائرة في معاملة القبائل العربية، فقد اعتمدت سياسته على التقرّب إلى هذه القبائل في وقت الشدة وقيام الثورات والانتفاضات ضدهم حتى إذا ما ساعدتهم تلك القبائل في القضاء على الثائرين بدافع سياسة العدل التي منّاهم بها معاوية وجدوا أن تلك الاماني كانت كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، فما إن يقمع الأمويون تلك الثورات بمساعدة هذه القبائل حتى يعودوا إلى سيرتهم الأولى في الظلم والاضطهاد وقمع الحريات وسلب الحقوق وفي ذلك يقول مالك بن الريب:

لوكنتمُ تنكرونَ الغدرَ قلت لكم: *** ياآلَ مروانَ جارى منكم الحكمُ

وأتقيكم يمينَ الله ضاحيةً *** عند الشهودِ وقد توفى به الذممُ

لا كنتُ أحدثُ سوءً في إمارتكمْ *** ولا الذي كان مني قبل ينتقمُ

نحنُ الذين إذا خفتم مجللة *** قلتم لنا إننا منكم لتعتصموا

حتى إذا انفرجت عنكم دجنّتها *** صرتم كجرمٍ فلا آلٌ ولا رحمُ

في السجن

قبض والي مكة على مالك فحبسه وعذبه عذاباً شديداً وفي ذلك يقول مالك:

أتلحقُ بالريبِ الرفاقُ ومالكٌ *** بمكة في سجنٍ يعنيه راقبُه

وبقي في الحبس مدة طويلة حتى استشفع له شماس بن عقبة المازني عند والي مكة فأطلق سراحه.

إن سيرة حياة مالك وشعره المطالب بالعدالة تفنّد جميع ما اتهم به من أكاذيب السلطة الأموية، كما دلت الروايات عنه على نبله وكريم أخلاقه، فهناك موقف لمالك يناقض تماماً ماعُرف عن اللصوص وقطاع الطرق من صفات دنيئة، فحينما طلبه وأصحابه مروان بن الحكم وكتب إلى واليه بنجد أن يتعقبهم وأن يتشدد في طلبهم حتى يقبض عليهم، بعث الحارث بن حاطب الجمحي ساعياً من سعاته فقبض على مالك وصاحبه أبا حردبة وبقية رفاقه وأرسل بهم إلى المدينة مقيدين، غير أن مالكاً تغفل حارسه وقتله ثم لحق بأبي حردبة وخلصه بعد أن قتل الحارس الموكل به وركبوا إبل السعاة الذين قتلوهم وفروا، وهذه الحادثة تدل على وفائه لصاحبه ولو كان لصاً لتنكّر لصاحبه كعادة اللصوص وكان كل همه أن يفرّ بنفسه من قبضة العدالة ولكن مالك خاطر بحياته في سبيل إنقاذ صاحبه وهذه من الصفات النبيلة.

الرحلة الأبدية

انتهت حياة مالك وانطوت صفحة مقارعته للسطة الأموية في رحلته إلى خراسان والتي لم يعد بعدها إلى أهله أبداً، وتشير كل الدلائل على أن قصة ذهابه مع سعيد بن عثمان بن عفان إلى خراسان على أنها كانت مؤامرة مدبّرة ومقصودة من قبل معاوية الذي عُرف بمؤامراته الدنيئة وسياسته الخبيثة في الحد من خطر كل من يتهدد سلطته ثم القضاء عليه فبعث مالك إلى تلك البلاد البعيدة لكي لا تُثار بمقتله أي بلبلة.

فما سر استصحاب سعيد بن عثمان لمالك وهو مبعوث من قبل معاوية بجيش نظامي لغزو خراسان ومالك كما هو معروف لم يخضع للسلطة الأموية في يوم من الأيام فكيف سيخضع لسعيد والاعتراف بأمارته عليه وهو ذاهب إلى الحرب بل كان مالك يأنف أن يكون في جيش عليه سعيد أميراً وهذا ما تأكد من خلال هجاء مالك لسعيد وتوبيخه ورميه بالجبن كقوله:

مازلتَ يومَ الصغدِ ترعدُ واقفاً *** من الجُبنِ حتى خفتُ أن تتنصّرا

وما كان في عثمان شيء علمته *** سوى بسلهِ في رهطهِ حين أدبرا

وقوله:

يا قلَّ خيرِ أميرٍ كنتُ أتبعه *** أليس يرهبني أم ليس يرجوني ؟

أم ليس يرجو إذا ما الخيل شمّصها *** وقعُ الأسنة عطفى حين يدعوني

لاتحسبّنا نسينا من تقادمه *** يوماً بطاسٍ ويومَ النهرِ ذا الطينِ

وتدلنا بائيته الباكية التي ودّع بها ابنته وهو ذاهب مع سعيد إلى أنه كان مُكرهاً في ذهابه يقول فيها:

ولقد قلتُ لابنتي وهي تبكي *** بدخيلِ الهمومِ قلباً كئيباً

وهي تذري من الدموعِ على الخدّينِ من لوعةٍ الـفـراقِ غـروبـا

عبراتٍ يكدنَ يجرحنَ مـا جـزنَ بـه أو يدعـنَ فـيه نـدوبـا

حذرَ الحتفِ أن يصيبَ أباهـا *** ويلاقي في غيرِ أهلٍ شعوبا

اسكتي قد حززتِ بالدمعِ قلبي *** طالما حزَّ دمعكنَّ القلـوبـا

فعسى الله أن يدفـعَ عـنّـي *** ريبَ ما تحذرينَ حتى أؤوبـا

ليس شيء يشاؤه ذو المعالـي *** بعزيزٍ عليه فادعي المجيبـا

ودعي أن تقطعي الآن قلبـي *** أو تريني في رحلتي تعذيبـا

أنا في قبضة الإلـه إذا كـنت بعيداً أو كنت منكِ قريبـا

كم رأينا امرأً أتى من بـعـيدٍ *** ومقيماً على الفراشِ أصيبـا

فدعيني من انتحـابـك إنـي *** لا أبالي إذا اعتزمتِ النحيبـا

حسبي الله ثم قربـتُ لـلـسير علاة أنجب بها مركوبـا

فجو هذه القصيدة يوضح أمرين الأول هو أن مالك كان مجبراً على مرافقة سعيد من قبل السلطة والثاني إيمانه الخالص بالله وورعه وتقواه وهو ما ينفي عنه تهمة اللصوصية.

المؤامرة الدنيئة

وهناك أمر آخر يؤكد على أن مؤامرة دنيئة حيكت لمالك من قبل معاوية وهو تساؤل يُثار: لماذا لم يأذن له سعيد بالعودة الى أهله عندما انتهى الغزو وظل يماطله ؟ فقد فتحت خراسان فما سبب بقاؤه فيها؟

تتضح من ذلك عدة أسباب منها حنق سعيد عليه وغضبه منه لهجائه إياه وتوصية معاوية له بأن يبقيه بعيداً عن البلاد العربية لكي لايثير النفوس ضد السلطة الاموية بهجائه وانتقاده لسياستها، فظل مالك وهو ابن الصحراء الدافئة يعاني من شدّة البرد فلا يطيق زمهرير الثلوج بخراسان فترتعش أطرافه ويسأل سعيد العودة الى دياره مراراً وتكراراً من ذلك قوله:

هبّت شمالُ خريفٍ أسقطت ورقاً *** واصفر بالقاع بعد الخضرةِ الشيحُ

فارحلْ هُديتَ ولا تجعلْ غنيمتنا *** ثلجاً تصفّقه بالترمذِ الريحُ

إنّ الشتاءَ عدوٌ ما نقاتله *** فاقفلْ هديت وثوبُ الرقِّ مطروحُ

وتطول الغربة بمالك في خراسان ويملأ عليه الحنين أرجاء نفسه إلى وطنه وأهله فقد طال اغترابه عاماً ونصفاً فيهتف وقد أهاجه الشوق والحنين إلى أهله:

تذكرني قبابُ التركِ أهلي *** ومبدؤهم إذا نزلوا سناما

وصوتُ حمامةٍ بجبالِ كسٍ *** دعتْ من مطلعِ الشمسِ الحِماما

فبتُّ لصوتِها إرقاً وباتتْ *** بمنطقِها تراجعني الكلاما

الموت في الغربة

ولكن هذا الفراق لم يكتب له لقاء بعده فقد قتل مالك في ظروف غامضة وتعدّدت أقوال المؤرخين في موته لتنزّه السلطة الأموية المجرمة وتغسل يد معاوية من دماء مالك، ولكن لن يغسلها له التاريخ أبداً وستبقى ملوثة بدماء الأبرياء ولن تنطلي الأسباب الأسطورية في قتل مالك التي وضعها المؤرخون المزيفون على التاريخ الأجيال والتي أرادوا في وضعها دفع التهمة عن المجرو الحقيقي في قتل مالك وهو معاوية، ولنستمع إليها فهي مدعاة للضحك والبكاء معا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد (ج3ص245): (وقال مالك بن الريب يرثس نفسه، ويصف قبره وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا بأفعى في داخلها فلسعته فلما أحس بالموت استلقى على قفاه ثم أنشأ يقول) وذكر قصيدته اليائية الطويلة!!!

هذا غاية ما توصل إليه المؤرخون من الكذب فهلا سأل ابن عبد ربه عقله كيف لملدوغ من أفعى أن يصبر على المعاناة والألم ليقول مرثية يرثي بها نفسه تبلغ أكثر من ستين بيتاً ولا يذكر فيها سبب موته المزعوم وهو لدغة الأفعى ثم أين الأفعى وسط جو يملؤه الثلوج كما وصفه مالك بقوله:

فارحلْ هُديتَ ولا تجعلْ غنيمتنا *** ثلجاً تصفّقه بالترمذِ الريحُ!!

ويقول الأصفهاني الأموي النزعة في الأغاني: (ج22ص223): (مرض مالك بن الريب عند قفول سعيد بن عثمان من خراسان في طريقه فلما أشرف على الموت تخلف معه مرة الكاتب وآخر من قومه من بني تميم ومات في منزله ذلك فدفناه وقال قبل موته قصيدته هذه يرثي بها نفسه)!!!

وهذا القول أكذب والله من القول الأول فسعيد لم يبرح خراسان حتى مات مالك فيها ولو خرج منها مالك لكان ذكر ذلك في قصيدته التي رثى بها نفسه والتي يصف فيها جو خراسان البارد وطول مقانه فيها.

ويذكر أبو علي القالي في كتابه (الأمالي) ـــ الذيل والنوادر ــ (ص135) عدة أسباب مختلقة لموت مالك منها إنه طعن وهو يغزو بخراسان طعنة أودت بحياته وهذا القول مناف للحقيقة تماماً فمالك ظل بعد الغزو مدة طويلة كما ذكر هو ذلك في شعره وكان يطلب من سعيد مراراً وتكراراً العودة.

وبلغ من ضحك عقول المؤرخين على عقولهم الخاوية أن نسب بعضهم القصيدة إلى الجن التي رثت مالك بهذه القصيدة الطويلة بعد أن رأت غربته ووحدته ووضعت الصحيفة التي منها القصيدة تحت رأسه!! كما ذكر ذلك القالي في الذيل في نفس الصفحة .. اسمع واعجب!!

هذه هي السياسة الأموية عندما تريد أن تغطي جرائمها والعجب أن لا يسأل القالي نفسه كيف يموت مالك وحيدا غريبا ألم يكن مع جيش وفيه رجال من قومه فهل كانوا يتركونه يموت وحده؟

فسبب موته مدعاة تمحيص وتحقيق وبحث، فلا مجال للشك بأن هذه الأسباب الواهية المضحكة هي عملية تسكين ثائرة بني تميم على السلطة الأموية، بعد أن تم اغتياله غدراً ليبقى سر مقتله مجهولاُ في غياهب التاريخ.

ولعل فيما قدمناه ما يعطي صورة أكثر من إشارة إلى أن الأمويين كان لهم يد في قتله ليضاف اسمه إلى الأسماء الكثيرة التي تلطخت أيدي الأمويين بدمائها وليكون شاهداً تاريخياً أخر بدين السلطة الأموية بجرائمها.

المرثية

أما قصيدة مالك بن الريب اليائية الشهيرة فتعد من عيون الشعر العربي وفيها حنين وألم وذكريات واعتبار وذم الاغتراب كما تضم أيضاً إشارات قوية إلى المؤامرة التي حيكت لقتله وهي واضحة لا تخفى على القارئ، يقول فيها:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً *** بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا

فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه *** وليتَ الغضى ماشى الرِّكاب لياليا

لقد كان في أهلِ الغضى لو دنا الغضى *** مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا

ألم ترَني بِعتُ الضلالةَ بالهدى *** وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيا

وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بعد ما *** أرانيَ عن أرض الآعاديّ قاصِيا

دعاني الهوى من أهل أُودَ وصُحبتي *** بذي (الطِّبَّسَيْنِ) فالتفتُّ ورائيا

أجبتُ الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ *** تقنَّعتُ منها أن أُلامَ ردائيا

أقول وقد حالتْ قُرى الكُردِ بيننا *** جزى اللهُ عَمرًا خيرَ ما كان جازيا

إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى *** وإن قلَّ مالي طالِبًا ما ورائيا

تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي *** سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا

لعمريْ لئن غالتْ خراسانُ هامتي *** لقد كنتُ عن بابَي خراسان نائيا

فإن أنجُ من بابَي خراسان لا أعدْ *** إليها وإن منَّيتُموني الأمانيا

فللهِ دّرِّي يوم أتركُ طائعًاً *** بَنيّ بأعلى الرَّقمتَينِ وماليا

ودرُّ الظبَّاء السانحات عشيةً *** يُخَبّرنَ أنّي هالك مَنْ ورائيا

ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهما *** عَليَّ شفيقٌ ناصح لو نَهانيا

ودرّ الرجال الشاهدين تَفتُ كي *** بأمريَ ألاّ يَقْصُروا من وَثاقِيا

ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي *** ودّرُّ لجاجاتي ودرّ انتِهائيا

تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ *** سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا

وأشقرَ محبوكًا يجرُّ عِنانه *** إلى الماءِ لم يتركْ له الموتُ ساقيا

ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ *** عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيا

صريعٌ على أيدي الرجال بقفزةٍ *** يُسّوُّون لحدي حيث حُمَّ قضائيا

ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي *** وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا

أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه *** يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا

فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا *** برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا

أقِيمَا عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ *** ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا

وقُومَا إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا *** لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا

وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي *** ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا

ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكما *** من الأرضِ ذاتِ العرضِ أن تُوسِعا ليا

خذاني فجرّاني بثوبي إليكما *** فقد كنتُ قبل اليوم صَعْبًا قِياديا

وقد كنتُ عطَّافًا إذا الخيل أدبَرتْ *** سريعًا لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا

وقد كنتُ صبّارًا على القِرْنِ في الوغى *** وعن شَتْميَ ابنَ العَمِّ وَالجارِ وانيا

فَطَوْرًا تَراني في ظِلالٍ ونَعْمَةٍ *** وطوْرًا تراني والعِتاقُ رِكابيا

ويومًا تراني في رحًا مُستديرةٍ *** تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماح ثيابيا

وقُومَا على بئر السُّمَينة أسمِعا *** بها الغُرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا

بأنّكما خلفتُماني بقَفْرةٍ *** تَهِيلُ عليّ الريحُ فيها السّوافيا

ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعد ما *** تَقَطَّعُ أوصالي وتَبلى عِظاميا

ولن يَعدَمَ الوالُونَ بَثَّا يُصيبهم *** ولن يَعدم الميراثُ مِنّي المواليا

يقولون: لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني *** وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا

غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غدٍ *** إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا

وأصبح مالي من طَريفٍ وتالدٍ *** لغيري، وكان المالُ بالأمس ماليا

فيا ليتَ شِعري هل تغيَّرتِ الرَّحا *** رحا المِثْلِ أو أمستْ بَفَلْوجٍ كما هيا

إذا الحيُّ حَلوها جميعًا وأنزلوا *** بها بَقرًا حُمّ العيون سواجيا

رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُجِنُّها *** يَسُفْنَ الخُزامى مَرةً والأقاحيا

وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى *** بِرُكبانِها تعلو المِتان الفيافيا

إذا عُصَبُ الرُكبانِ بينَ (عُنَيْزَةٍ) *** و(بَولانَ) عاجوا المُبقياتِ النَّواجِيا

فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ *** كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا

إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي *** على الرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا

على جَدَثٍ قد جرّتِ الريحُ فوقه *** تُرابًا كسَحْق المَرْنَبانيَّ هابيا

رَهينة أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّنتْ *** قرارتُها منّي العِظامَ البَواليا

فيا صاحبًا إمّا عرضتَ فبلِّغن *** بني مازن والرَّيب أن لا تلاقيا

وعرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنها *** سَتَفلِقُ أكبادًا وتُبكي بواكيا

وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِنًا *** بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا

بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها *** مَهًا في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا

غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ *** يَدَ الدهر معروفًا بأنْ لا تدانيا

أقلبُ طرفي حول رحلي فلا أرى *** به من عيون المُؤنساتِ مُراعيا

وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني *** بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا

فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي *** وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا

وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ *** ذميمًا ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا

اضف تعليق