وهذا لا يعني أن الديمقراطية لا تصلح لنا ولا نصلح لها، ولا يعني أننا بعيدون عنها إلى الحد الذي يجعلها أملا مؤجلا، بل إنها الحل الوحيد للكثير من الأزمات والمشاكل والإشكاليات التي نعيها والتي لم نتوصل بعد إلى الوعي بها. فالديمقراطية نظام مؤسسي لإدارة تعددية المجتمع...
بقلم: عبد الرسول عداي
بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق، أطلقت الحريات وتبنت الدولة الجديدة النظام الديمقراطي، مع أمل بناء أنموذج للحوار الحضاري قادر على إنتاج مصادر لجذب الشعوب المحيطة للمشروع الديمقراطي كاستراتيجية لحل مشاكل السلطة وأزمات المجتمعات الشرق أوسطية المزمنة، كان المشروع الديمقراطي في العراق محليا مع الموقف وقابلا لكي يمتد لأشكال من التواصل العميق عبر العالم.
أحدث سقوط أعتى الدكتاتوريات زلزالا عظيما في المنطقة، وأعادت الكثير من الأنظمة المحيطة النظر بالأساليب القمعية التي تتبعها مع الجماهير، أو تعاملها الإرهابي مع المعارضين، ومع تعدد المواقف والاتجاهات والمنطلقات السياسية أو المرجعيات الفكرية كان التوقع موحدا في النجاح المفرط للمشروع الديمقراطي في العراق.
تحولت بعض المخاوف من قبل المحيط الإقليمي إلى أياد قصيرة للعبث بمصير ذلك التوقع المتفائل، خصوصا وان ما حدث في العراق حفز الشعوب المحيطة والشعوب العربية للمطالبة بالمشاركة في السلطة والحصول على هامش ولو صغير من حريتها المصادرة، ومع مرور الوقت أصبحت الأيادي الطويلة وطالت ليس تمزيق الأمل المتوقع فقط بل والسقوط في جريمة قتل الشعب العراقي أو الاحتفال بفواجعه الأليمة.
ولكن على عكس المتوقع لم يتجسد المشروع الديمقراطي بشكله الساحر، ولم يكن في بدايته سوى شكل مفروض للسلطة التي بدأت تكتسب شرعيتها مع مرور الوقت، لم يتشكل المشروع بشكله الباهر، ولم تتألق نتائجه بل بدأ تمايز الهويات الفرعية (القومية) الدينية المذهبية...، بشكل كبير وتعالت خطابات إلغاء الآخر وبدأت المؤسسات والتيارات السياسية تنتج خطاباتها لإثارة المخزون المكبوت مخاوفا أو انتقاما أو قلقا، وتخندقت النخب خلف أكداس من الخطابات تكرس المنجزات التي تنتمي إليها، وترسخ الشعور بالأنا الجماعية في ظل مشاريع سياسية وثقافية قصرت عن أن تكون وطنية في حقيقة التوجه والسلوك.
تفاقم الشعور بالهوية الفرعية التي كبتتها الأنظمة الدكتاتورية السابقة إلى الحد الذي غيبت الكثير من الخيارات الوطنية، وبالرغم من مساحة الحرية ونظام الحكم الديمقراطي، فقد كانت للمحاصصات المعلنة والخفية اليد الطولى في توزيع المناصب ومصادر القوة، أما على مستوى المعارضة فكانت خطابات التنديد والعمالة والتحريض على العنف بل والدخول في معارك كبيرة مع الحكومة والقوات المتعددة الجنسية.
وفي هذا المناخ تفشى الإرهاب، وتنامت قوى الجماعات التدميرية وأعاد أزلام النظام السابق تنظيم صفوفهم، ولم تكن للقوات المتعددة الجنسية والحكومة العراقية استراتيجية واضحة وحقيقة شاملة للوقاية من الإرهاب، بل كان هناك التوجه الثابت وهو محاربة الإرهاب -أي إيقاع اكبر خسائر ممكنة من الإرهابيين- فقد كان الشعار فيما يخص الإرهاب هو محاربة الإرهاب في العراق، وتحول العراق نتيجة تخطيط الاستراتيجيين في البيت الأبيض أو نتيجة قرار قادة الكهوف من القاعدة إلى ساحة لحرب شرسة ومدمرة وتحولت ارض الرافدين إلى مصيدة كبيرة للجيش الأمريكي أو لجماعات القاعدة.
وبالطبع عاش العراقيون أيام الموت في بغداد والنجف والفلوجة والموصل والحلة، كانت الجراح عميقة والخسائر فادحة، فازداد تعطش العراقيين للأمن إلى الحد الذي بدأ فيه بعض الضعفاء يتساقطون في الحلم بالزمن الذي ولى، وبالمقابل كان البعض الآخر ينتفض من تلك الأحلام ويعتبرها خيانة لملايين العراقيين الذين دفنوا في المقابر الجماعية أو ينتظرون دورهم.
ومن يستعيد ذاكرة السقوط يسترجع صور الفوضى، والسلوك اللامنضبط الذي صدر عن فئات كبيرة من الشعب ولم تكن مصادفة أن يختلط في وعي الجماهير نظام الدولة برمز الدكتاتور وأموال الدولة بأموال الدكتاتور والتمرد على وجود الدولة بالتمرد على وجود الدكتاتور، لقد ألغى النظام السابق الدولة، وأقام بدلها صنم كبير للدكتاتور ألغى وجود الوطن في سبيل حياة الدكتاتور كان الوطن مغيبا والمواطنة مشوهة، والوطنية تحولت إلى تنشئة جماهيرية لعبادة الدكتاتور وكان سقوط النظام مفاجئا فلم تكن هناك مساحة كافية من الزمن لكي تتخلص فيها الجماهير من هذا الارتباط الخاطئ بين الدولة والدكتاتور ولم تكن مشاريع المعارضة السياسية أن تسلط الضوء على ضرورة هذا الانفصال أو توجيه الجماهير نحو الوعي به.
لم تكن إذا الفوضى في الحقيقة شعور الجماهير بل العمل استند إلى التراكم من الوعي والسلوك والتربية استهدف الدولة والمال العام ومؤسسات الدولة باعتبارها ركائز ورموز الدكتاتورية وكان الدكتاتور وطوال سنين حكمه يحول مؤسسات الدولة إلى مؤسسات خاصة به فالمدارس تعلق صوره وتعلم التربية على طاعته والخضوع له وخلال أيام الحرب تتحول إلى مقرات لاتباعه والمدافعين عنه، وكذلك بقية المؤسسات فحينما يعجز عن تحويلها بالكامل فإنه ينشئ مؤسساته الخاصة به ويطورها مقابل تهميش مؤسسات الدولة كما كان يحدث بالنسبة للحرس الجمهوري والحرس الخاص من تطوير واهتمام وميزانيات بلا حدود مقابل الجيش العراقي الذي كان يتآكل بسبب الإهمال والتهميش ومحدودية النفقات بصورة كبيرة، فالتغيرات التي كانت تطبل لفوضوية الشعب العراقي خصوصا في بعض مصادر الإعلام العربي، والعنف المكبوت وضعف الولاء للوطن والدولة، إلى غيرها من الآراء التي كانت تنطلق من الخارج وتنعكس على ظواهر الأحداث، وتعالج الأمور بسطحية مفرطة أو من خلال التصنيف العربي الرسمي الشائع (خيانة، عمالة، جاسوسية، مؤامرة) مع مصادرة حق الآخر بالوعي المغاير والموقف المضاد والرأي المختلف، هذه التفسيرات عملت على نقل رسائل إعلامية ذات محتوى موهوم أو خاطئ إن لم نقل معادي لحقيقة الشعب العراقي وسلوكه بعد سقوط الدكتاتور مباشرة.
وبين المفروض وتغييبه انبثقت أزمة المشروع العراقي وتفاقمت بشكلها المخيف، فكان يفترض أن تسعى النخب إلى بناء مرتكزات السلطة وفقا للمشروع الديمقراطي الذي تبنته ظاهريا أن تسعى إلى بناء مؤسسات قادرة على إنتاج الخطاب الوطني أو إعادة إنتاجه وفقا لمتطلبات المرحلة وباتجاه تحقيق الأهداف العامة لبناء المجتمع والدولة ضمن المناخ الديمقراطي، لكن اتجاه الأحداث كان يسير في مسار مغاير يعتمد السعي من اجل اقتسام السلطة وبالطبع كانت المرحلة اللاحقة للهيئات التي تقاسمت السلطة ليس إنتاج خطاب وطني أو بناء مؤسسات وطنية بل التوجه نحو ترسيخ حقها في السلطة وتعزيز مواقعها في مصادر القوة، فأنشأت المؤسسات التي تنتج الخطاب القومي والطائفي والعرقي وكل خطاب تمايزي يعزز الهوية الفرعية أو يثير عواطف الجماهير نحوها (أو ضدها).
فصار من يرى المشهد العراقي يرى الوطن بلا حدود ولا هوية ولا ثقافة ولا مشروع، يرى الاثوريين والتركمان والشبك والايزيديين والصابئة يناضلون من أجل استرداد الحقوق والمطالبة بتعويضها، ويرى الكرد يستثمرون المرحلة ويستغلون المواقف في سبيل امتيازات أكبر ومطالب اكثر، يرى السنة بين فوبيا الشيعة الحاضرة ومحاولة العودة إلى مركز القرار، ويرى الشيعة يبنون أسوارا قانونية وخنادق تشريعية انطلاقا من رعب المقابر الجماعية ومدن الفرات الميتة.
لكن لن يرى العراق الوطن، العراق المواطنة، العراق الذي يحرز الانتماء الدول والهوية الأولى.
الديمقراطية والوعي بها
هل كان الشعب العراقي بحاجة إلى إعادة الحس بالمواطنة مقدمة الديمقراطية؟ هل كان الشعب في غيبوبة الوعي بالوطن الذي احتله الدكتاتور؟ هل كان العراقيون يتقززون من مفردات الوطنية والمواطنة بعد أن لوثها الدكتاتور بوحل أفكاره المريضة، وأطرها بجرائمه البشعة؟ هل لدى الجماهير من التراث والقيم والثقافة ما يعينها على تقبل الديمقراطية أو التفاعل معها؟ هل كان أسلوب تقديم الديمقراطية للشعب العراقي مدروسا وضمن برنامج مخطط له؟ هل هناك مشروع ثقافي وسياسي وتربوي في الوعي الديمقراطي عملت على تحقيقه نخب الداخل والخارج؟
ليست الديمقراطية مفهوم مجالي يمكن حصره في حقل سياسي أو ثقافي أو تربوي أو قانوني فهي تمتد في جميع الحقول، إلا أنها ترتبط بالسلوك والأفكار والمعتقدات أي أن لها:
- مستوى قيمي.
- مستوى عاطفي.
- مستوى اجتماعي.
وهذه المستويات أساسية لتجلي الديمقراطية، فالنظام الديمقراطي السياسي، لا يحقق أهدافه في مجتمع ينقسم إلى جماعات كل جماعة تعيش خلف أسوار من العزلة وإلغاء الآخر، ونرى أنها الجماعة الصحيحة أو الكاملة أو المتقدمة أو الناجية أو المؤمنة والجماعات الأخرى خاطئة وناقصة ومختلفة وهالكة وكافرة، ولكل جماعة بنية تراثية وثقافية واجتماعية ووجدانية تكرس في خطابها تفردها المطلق.
والسلوك المتوقع لتلك الجماعات يمكن حصره باتجاهين الأول سيكون باتجاه الاستجابة التكتيكية مع النظام الديمقراطي السياسي للاستفادة من آليات ذلك النظام في سبيل الوصول إلى السلطة، وأما الاتجاه الثاني فسيكون باتجاه الاستجابة العقيدية ويتحول عندها ذلك النظام الديمقراطي إلى هدف للنضال أو المقاومة أو الجهاد، ومن غير بعيد قد ترتبط أنواع هذه الاستجابات واتجاهاتها حسب توقعاتها في الوصول إلى السلطة أم لا.
فالنظام الديمقراطي لا يحقق أهدافه إذا لم ينطلق من مشروع شامل إصلاحي يتضمن إصلاح البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لذلك المجتمع، ولربما هذه الضرورة الإصلاحية الشاملة هي التي دعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير أسلوبها من إسقاط الأنظمة الدكتاتورية في أفغانستان والعراق إلى إجراء إصلاحات شاملة في الشرق الأوسط.
ليس من السهولة ترويج الديمقراطية في وعي شعبي وفي ثقافة مجتمع وفي مؤسسات دولة لم تتفاعل معها من قبل بصورة صحيحة أو لم تتقبلها أصلا، لأنها -أي الديمقراطية- بنية مفهومية ترتبط بجميع مفاصل الحياة وتحدث أثرا في السلوك والأفكار والمعتقدات، تغير من توجهاتنا نحو القيم، وتؤثر في ميولنا واتجاهاتنا وفي عاداتنا في التفكير والسلوك بالشكل الذي يتلائم معها.
وهي حينما نمت وترعرعت في مجتمعات غربية فلان هذه الأخيرة قد خاضت صراعات ومخاضات فكرية وثقافية وسياسية طويلة وبلغت مستويات متطورة من بناء الدولة والمجتمع وأنشأت مؤسسات المجتمع المدني وقواه الفاعلة، فلم تؤدِّ الديمقراطية في تلك المجتمعات إلى تنامي الميول الانفصالية، ولا إلى تضخم التمايزات القومية والطائفية، ولا إلى تفكك الوحدة الوطنية أو دق طبول الحرب الأهلية، بل كانت المشروع الأساسي للسلام بين الكيانات المختلفة، والأمن الاجتماعي، والتعايش الوطني.
وهذا لا يعني أن الديمقراطية لا تصلح لنا ولا نصلح لها، ولا يعني أننا بعيدون عنها إلى الحد الذي يجعلها أملا مؤجلا، بل إنها الحل الوحيد للكثير من الأزمات والمشاكل والإشكاليات التي نعيها والتي لم نتوصل بعد إلى الوعي بها.
فالديمقراطية نظام مؤسسي لإدارة تعددية المجتمع المدني، وهذه التعددية حل أساسي ومطلب رئيسي ولكي لا تؤول التعددية إلى تشرذم وتشتت ينبغي أن يؤسس للديمقراطية استراتيجية للدخول إلى وعي وثقافة وفكر الجماهير، أن نؤسس المشروع الديمقراطي تبعا للمرحلة والاتجاه والمستوى الذي يتفاعل معه المجتمع، لا حسب أخر الموديلات المنتجة في الغرب أو مجتمعات مغايرة لخصوصيتنا الثقافية والسياسية.
فلا يمكن تحقيق الديمقراطية دون مشروع إصلاحي يستهدف بنية الثقافة والفكر والمجتمع وصولا إلى قيم قادرة على بناء الإنسان الديمقراطي الذي يقوم بالسلوك الديمقراطي ولا يحلم به فقط.
إشكاليات الديمقراطية
الديمقراطية كمشروع للدولة والمجتمع في العراق لا يكفي أن تفرض كقرار سياسي أو تشريع دستوري لأنها تفرز إشكاليات مركبة ومعقدة أهمها:
- إشكاليات سياسية: أدت إلى تمايز قومي وعرقي وديني وطائفي بين مكونات الشعب العراقي على حساب الهوية والانتماء الوطني، وهو ما بدا واضحا في الانتخابات السابقة حين اعتمدت الكيانات السياسية على إثارة الانتماء والعاطفة الفرعية على حساب الخطاب الوطني.
وحتى بعض النخب السياسية التي كانت تنأى بنفسها عن هذا المستوى من التوجهات، وجدت نفسها وأمام الانتصارات الساحقة للآخرين مجبرة على أن تخضع لميول هذه الفئة أو الهوية الفرعية لتلك الجماعة مما أحدث فراغا وطنيا هائلا في الخطاب السياسي والمشروع السياسي والمشهد السياسي العراقي، ومما زاد الوضع سوءا أن الوطن بلا حدود فتدفقت جماعات أخرى اتخذت شرعيتها من وجودها على الأرض لا نتيجة لانتمائها للوطن المغيب.
ومما يجب التنويه إليه أن نرجسية الحزب الأوحد ما تزال متوارية في أعماق جزء غير قليل من الأحزاب والتنظيمات والتيارات الفاعلة في المشهد السياسي العراقي، وهي تستمد هذا النزوع المكبوت أو المتواري أو المخفي من مصدرين: الأول إرث سياسي حديث أنتجته الأحزاب والكيانات التي قاومت الاحتلال منذ بداية القرن العشرين إلى منتصفه وقد استطاعت أن توحد الجماهير ولو لوعي مرحلي إلى عدو مشخص وواحد، وبالتالي استطاعت أن تنتج هوية الممثل الشرعي الوحيد للشعب في قضيته من اجل الحرية والاستقلال، والبقية خونة وعملاء وجواسيس ومع سلسلة الانقلابات تحولت هذه الأفكار إلى حجر الزاوية في الخطاب السياسي لغرض سيادة الحزب الأوحد والسلطة الواحدة.
أما المصدر الثاني فانه ارث ثقافي يؤمن بنظرية أفضل الامم ويرسخ مفاهيم الفرقة الناجية، ورشاد الجماعة، والجماعة الصالحة... الخ.
- إشكالية اجتماعية: إذ هناك بنى اجتماعية تتعارض أو تتقاطع مع المفهوم الديمقراطي الاجتماعي، وللعلاقات الاجتماعية، وتتصادم مع أساليب تنميط الأدوار الاجتماعية والقيم التي تنقلها التنشئة الاجتماعية، كما ان البنى الاجتماعية الأولية كالعشائرية أو القبلية قد وجدت لها فرصة مواتية للنمو خصوصا وان النظام السابق قد عمل على ظهورها وتقديم لها هوامش من السلطة والنفوذ الاجتماعي، وكذلك فان النتائج السلبية للصراعات السياسية والعمليات الإرهابية قد أثرت بشكل كبير على البنية الاجتماعية في الكثير من المناطق والمدن العراقية أضف إلى ذلك عمليات التطهير العرقي والقومي والطائفي التي تحدث بصورة منظمة وأسلوب مخطط له، كل هذا احدث الكثير من الأزمات والمشاكل الاجتماعية التي أدت بالوعي الجماهيري إلى التشوش في استيعاب المشروع الديمقراطي، أو قبوله أو رؤيته خارج سكة الأزمات التي أحدثها.
- إشكالية ثقافية: إذ أدى تقديم الديمقراطية كمشرع لبناء الدولة والمجتمع إلى صراع ثقافي بين الثقافات المحلية والموقف من التأسيس لهذا المشروع، فيما ترى بعض التيارات الإسلامية على سبيل المثال أن الديمقراطية تتوائم مع المشروع السياسي الإسلامي، ترى تيارات أخرى أن الديمقراطية مشروع لتضليل الأمة وحرفها عن صراطها المستقيم وان التعارض بين الديمقراطية والإسلام تعارض بين الكفر والأيمان وبينما ترى بعض الكيانات السياسية أن الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة على خلاف طرح المشروع الذي يجعل من الديمقراطية مشروعا لبناء السلطة.
- إشكالية تربوية: تشير إلى أن هناك في الديمقراطية علاقة تصادمية بين المفاهيم والأسس الديمقراطية والأساليب التي تتبعها في التربية، ومن جهة أخرى فإن الوعي المشوش للتربية الديمقراطية ساهم وبشكل فاعل في ظهور العديد من المشاكل الأسرية والاضطرابات بفعل المتغيرات الجديدة في الواقع الاجتماعي، ولضعف التدريب على ممارسة الديمقراطية في الأدوار الاجتماعية.
- إشكالية إرثية: فهناك الكثير من العوائق والأفكار والمعتقدات الخاصة بالمجتمع العراقي تصده عن التفاعل الصحيح مع الديمقراطية أو تقبلها، ومما يزيد من أثر هذه المعوقات الإرثية غياب الاستراتيجية في استخراج الموروث الذي يتوائم مع الفكر الديمقراطي وهزالة برامج التغيير الاجتماعي إن وجدت.
فلم يحدث أن فكك المشروع الديمقراطي ليتوزع على مساحة الوعي الشعبي ولم يحدث أن حلل التراث الثقافي والإعتقادي لبناء جسور مع وعي الجماهير وما تعتقد به.
وهذه الإشكاليات الخمسة تكشف لنا عن أهم الأسباب وراء تخبط المشروع الديمقراطي في العراق والتأخر الكبير في تحقيق أهدافه، وهذه الأسباب هي:
1- إن المشاريع السياسية لم تؤسس لمشروع وطني تكون فيه الديمقراطية أساسا للحوار وللرباط الوطني وتقبل الآخر وأداة لبناء الوطن والمجتمع.
2- غياب الدراسات التحليلية والتي كان من الضروري أن تعتمدها النخب السياسية في بناء مشروعها السياسي، وتقبلها لضغوط الهويات والعواطف الفرعية للجماعات في سبيل الوصول إلى السلطة.
3- غياب الاستراتيجية الشاملة لتحقيق الديمقراطية في المجتمع العراقي والتي تعتمد على منظومة من الدراسات التحليلية الخاصة والتي يمكن على أساسها الانطلاق في عملية التخطيط للبرامج والمؤسسات التي يتطلبها الواقع وتفرضها المرحلة.
أخيرا، فهل نحن أمام مشروع ديمقراطي متخبط ويعاني من إشكاليات خطيرة ومعوقات كبيرة؟ وهل آن الأوان لكي يتأمل الناشطون في المشهد السياسي العراقي مصير المشروع الذي وفر لهم الفرص وقدم لهم المساحة الواسعة للعمل؟
الوقت قد حان ليترك العراقيون أفرادا أو جماعات الوعي بالذات ويتأملوا قليلا وطنهم المغيب، بالطبع ما تزال صورته مشتتة ليس لأنه كذلك بل لأن أبناءه بحاجة إلى تقارب أكثر وإلى تكاتف وإلى شعور بالمسؤولية تجاه بعضهم البعض بصورة أعمق.
اضف تعليق