توضح الأبحاث أن الدماغ مجهز بوصلات حقيقية لتوليد استجابات بشأن مذاقات معينة، وأن مشاعر الاستمتاع أو الاشمئزاز الناتجة تنفصل عن خواص المذاقات التي تسمح لنا بتعرُّفها. إن المعرفة المتعلقة بهذه الدوائر قد تُمكِّن العلماء في النهاية من "إغلاق مفتاح" الرغبة الشديدة في الحلوى عبر تغيير هذه الاستجابات أو كبتها...
بقلم سايمون جيه. ماكين
تخيل إذا استطعنا أن نُعيد توصيل دوائر أدمغتنا بحيث تصبح المذاقات التي نشتهيها في العادة غيرَ محببة، أو حتى أن يتم إبطال الاستجابة للمذاق إبطالًا كلِّيًّا. تشير أبحاث حديثة أجرتها مجموعة بحثية قادها عالِم الأعصاب تشارلز زوكر -من معهد زوكرمان التابع لجامعة كولومبيا- إلى أن هذا الأمر قد يكون ممكنًا. توضح الأبحاث أن الدماغ مجهز بوصلات حقيقية لتوليد استجابات بشأن مذاقات معينة، وأن مشاعر الاستمتاع أو الاشمئزاز الناتجة تنفصل عن خواص المذاقات التي تسمح لنا بتعرُّفها. إن المعرفة المتعلقة بهذه الدوائر قد تُمكِّن العلماء في النهاية من "إغلاق مفتاح" الرغبة الشديدة في الحلوى عبر تغيير هذه الاستجابات أو كبتها.
كانت مجموعة زوكر قد تمكنت في السابق من إثبات أن المستقبِلات الموجودة على اللسان –والتي تستجيب لأحد المذاقات الخمسة: الحلو والمر والمالح والحامض والأومامي– ترسل إشارات إلى أجزاء محددة في القشرة، وهي المنطقة الخارجية في الدماغ والمسؤولة عن الوظائف الإدراكية العليا. وتستقبل مناطق مختلفة من القشرة المرتبطة بالتذوق (أو القشرة الذوْقية) مُدخَلات من أنواع مختلفة من المستقبلات، وهو ما ينتج عنه وجود مناطق مخصصة لكل مذاق. إن التحفيز المباشر لهذه الخلايا العصبية باستخدام بروتينات حساسة للضوء يتم تفعيلها عبر كابلات الألياف البصرية -وهو نهج يُسمَّى أوبتوجينيتيكس (الوراثيات البصرية)– يدفع الفئران إلى التصرُّف كما لو كانت تختبر مذاقات معينة. يقول زوكر: ’’ببساطة قم بتفعيل بضع مئات من الخلايا في قشرة الدماغ الخاصة بالمذاق المر، وعندها لن يظن الحيوان فحسب أنه يشعر بمذاق مر، بل ستصدر عنه كذلك جميع السلوكيات المرتبطة بهذا، التي تتضمن التقيؤ، وتنظيف الفم، إلى آخره. إن ما فهمناه من ذلك هو أن التذوق يحدث في واقع الأمر في دماغك‘‘.
تنتهي الاستطالات العصبية الممتدة من قشرة الدماغ الخاصة بالمذاق الحلو (أخضر) وتلك الممتدة من قشرة الدماغ الخاصة بالمذاق المر (أحمر) عند أهداف متمايزة في اللوزة الدماغية لأدمغة الفئران. Credit: Li Wang, Zuker Lab and Columbia’s Zuckerman Institute.
وتبني الدراسة الجديدة –المنشورة يوم الأربعاء 30 مايو الماضي في دورية Nature– على هذه النتائج للتعمق أكثر في دوائر التذوق في الدماغ. أجرى الباحثون تعديلًا بالهندسة الوراثية في الفئران لإنتاج بروتينات مضيئة في الخلايا العصبية، بحيث يكون لون هذه البروتينات أخضر في القشرة الخاصة بالمذاق الحلو، وأحمر في القشرة الخاصة بالمذاق المر. بعدها تعَقَّب الباحثون الروابط المنبعثة من هذه الخلايا إلى مناطق أخرى. كان اهتمامهم منصبًّا بشكل خاص على اللوزة الدماغية، وهي تركيب في المخ يشارك في معالجة المشاعر وتخصيص قيم إيجابية أو سلبية –أو تكافؤ– للمدخلات الحسية. لقد أظهر التخصص الذي يميز المناطق المختلفة من القشرة ثباتًا لافتًا للنظر؛ فخلايا المذاق الحلو ارتبطت بشكل رئيسي بمنطقة تُسمَّى اللوزة الدماغية الأمامية القاعدية الجانبية، في حين ارتبطت خلايا المذاق المر بشكل أساسي باللوزة الدماغية المركزية. يقول عالِم الأعصاب كاي تيي من معهد بيكوير للتعلُّم والذاكرة التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي لم يكن مشاركًا في الدراسة: ’’هذه الدراسة الأنيقة توفر رؤيةً متعمقةً جديدةً داخل بنية التكافؤ الإيجابي والسلبي في التذوق. لقد كان الفصل مذهلًا بين [وصلات] الحلو والمر عبر مختلِف أنوية اللوزة الدماغية‘‘.
إن المذاق الحلو مذاق جذاب بطبيعته، ويستحث سلوكيات تتعلق بالشهية (مثل التهام كعكات شوكولاتة بكاملها)، في حين أن المذاق المر مذاق غير محبب بطبيعته. يقول تيي: ’’عادةً ما تُلَمِّح المذاقات المرة إلى السموم، في حين تُلَمِّح المذاقات الحلوة في العادة إلى الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية‘‘. وأدرك الباحثون أن الصلات التي كشفوا عنها يمكن أن تكون السبب الكامن وراء دور اللوزة الدماغية في تخصيص التكافؤ للمذاقات، وهذا بدوره يستحث السلوك. ولاختبار ذلك، استخدم الباحثون نهج الوراثيات البصرية لجعل وصلات الحلو أو وصلات المر الواصلة إلى اللوزات الدماغية للفئران تُفعِّل نفسها استجابةً للضوء. وأدّى تشغيل وصلات الحلو إلى تفضيل الفئران لأحد الأقفاص، في حين تجنبت الفئران التي كانت وصلات المر لديها مُفعَّلة ذلك القفص. إحدى التجارب التي قام فيها الضوء بتشغيل دوائر الحلو، حين كانت الفئران تشرب الماء، حفزت الفئران على الشرب بشراهة، في حين أدت وصلات المر إلى تثبيط فعل الشرب. وكان تفعيل الخلايا في اللوزات الدماغية للفئران كافيًا لجعل الماء ذي المذاق المتعادل إما جذابًا أو منفرًا. ثم تساءل الفريق عمَّا إذا كان ممكنًا إبطال الاستجابات التي تستثيرها في العادة المذاقات المحببة أو المُنفِّرة. وللتحقق من ذلك، أعطى الباحثون للفئران إما مادة كيميائية مُرة هي الكينين Quinine أو محلولًا حلوًا (مادة التحلية الصناعية ’’إيس إكس‘‘ AceX)، ثم راقبوا سلوك الشرب في أثناء تفعيل وصلات اللوزات الدماغية. دفع تفعيل وصلات الحلو الفئران التي تشرب الكينين إلى شرب المزيد، وأدى تفعيل وصلات المر إلى تحويل المذاق الحلو الذي يكون في العادة محببًا إلى مذاقٍ بشع. وتوضح هذه النتائج أن اللوزة الدماغية تقوم بدور محوري في تحديد تكافؤ المذاقات. يقول زوكر: ’’إن هذا يُعدّ مثالًا فريدًا على وجود دوائر محددة مسبقًا وذات وصلات حقيقية، ويُرجَّح إلى حدٍّ بعيد أنها كانت تخدم متطلبًا بسيطًا من الناحية التطورية، ألا وهو: ’أحتاج إلى معرفة ما هو ضروري بالنسبة لي لكي أحافظ على احتياجاتي الغذائية، ولكي لا أتسمم وأموت‘‘‘.
افترض الباحثون أنه إذا ما كانت هناك مناطق مختلفة من الدماغ مسؤولة عن فرض ملامح مختلفة لحاسة التذوق، فمن الممكن الفصل بينها. يقول زوكر: ’’فكرنا في أنه يجب أن يكون ممكنًا أن تحصل على المذاق الحلو دون أن تكون منجذبًا له. وبالعكس، يجب أن أكون قادرًا على أن أعطيك مذاقا مرًّا، وأنت تعلم أنك تتذوق شيئًا مرًّا، ولكنك تعمى تمامًا عن صفاته المنفِّرة الموجودة فيه طبيعيًّا‘‘. وللتحقق من ذلك، أجرى الباحثون مجموعة أخرى من التجارب قاموا خلالها بحجب نشاط اللوزة الدماغية، سواءٌ كان هذا من الناحية الجينية أو من خلال عقار. أثبت الباحثون أولًا أن هذا كان من شأنه إبطال تأثيرات التحفيز المباشر للخلايا العصبية الخاصة بالتذوق في قشرة الدماغ على السلوكيات التي تُظهر الشهية وتلك التي تُظهر النفور، وأنه قلل بشكل دراماتيكي من هذه السلوكيات فيما يتعلق بالاستجابة لمذاقات حقيقية. بعدها قام الباحثون بتدريب الفئران على تعرُّف المذاقات، وأظهرت التجربة النهائية أن إسكات اللوزة الدماغية ليس له تأثير على قدرة الفئران على أداء تلك المهمة، بالرغم من تأثيره البالغ في تقليل استجابات الفئران للمذاقات نفسها. هذه النتيجة تدل على أن المكونات المختلفة للشعور بالمذاق يمكن الفصل بينها، ويمكن تعديلها بشكل مستقل، أو حتى استبعادها. ويُبدي تيي ملحوظةً يقول فيها: ’’هذه الدراسة تفصل بين تحديد المذاقات وتكافؤها، وهو ما قد يكون مفتاحًا لفهم كيف يمكننا أن نتعلم أن نحب الجعة أو القهوة، ولماذا يمكننا أن نجد قشدة تزيين الكعكات مقززة إذا سبق لنا أن أُصبنا بالتعب بسبب أكلها‘‘.
هذا البحث ذو طابع تأسيسي، وليست له ملاءمة مباشرة من الناحية الإكلينيكية. لكنه، في نهاية المطاف، قد تكون له تبعات بالنسبة للباحثين الساعين إلى علاج أشخاص يعانون مشكلات شديدة الوطأة تتعلق بالسمنة عبر كبت استجابات معينة بشأن مذاقات بعينها. وقد تكون هناك تبعات حتى فيما يتعلق بفهم اضطرابات الأكل؛ لأن مكافئ الغذاء قد يكون مرتبطًا بالشعور بالذنب الذي يمر به شخصٌ ما في حالات مثل حالة فقدان الشهية. وفي تلك الأثناء، يكمن السبب وراء حماس زوكر في حاجته إلى فهم ما يسميه ’’سيمفونية‘‘ التجارب الحسية. يقول زوكر: "كلما غصنا أعمق إلى داخل الدماغ، نبدأ في رؤية هذا التنظيم التوزيعي الرائع للمهمات؛ فالمعلومات تصل إلى مراكز رئيسية تقوم بدور قائد الأوركسترا، ثم يتم توزيع المعلومات على العازفين الملائمين لتنفيذ السلوكيات الملائمة‘‘. ويخطط زوكر للاستمرار في سبر هذه الدوائر؛ محاوِلًا فهم كيف يربط الدماغ المذاق مع السياق، والقيمة، والمشاعر، والذكريات، والأفكار، والسلوك. ويضيف زوكر: ’’أنا أستخدم المذاق باعتباره نافذةً على الدماغ؛ فلديه قدرة غير عادية على نقلك للوراء إلى تجربة شعورية مختلفة. وإذا استطعنا تتبُّع الإشارات، فسنتمكَّن من البدء في الكشف عن الكيفية التي يتمكَّن من خلالها الدماغ من ترتيب هذا والتحكم فيه‘‘.
اضف تعليق