طرحت شركتا فيرتكس للأدوية وكريسبر ثيرابيوتكس علاجًا خلويًا قائمًا على التحرير الجيني بنظام كريسبر خارج الجسم الحيّ، يُعرف باسم إكساجامجلوجين أوتوتيمسِل (اختصارًا إكسا-سل exa-cel)، وهو علاج أثمره تعاون بين الشركتين، لاعتماد إدارة الدواء والغذاء الأمريكية له، بهدف استعماله لمعالجة داء الخلايا المنجليّة (SCD) ومرض ثلاسيميا بيتا...
في إطار تعاون بين شركتي «فيرتكس للأدوية» و«كريسبر ثيرابيوتكس»، تدخل أداة تحرير الجينومات، «إكسا-سل» exa-cel، الأولى من نوعها، والمعـدّة لمعالجة نوعين من اعتلال الهيموجلوبين، دائرةَ الضوء بين الأدوية قيد اعتماد الهيئات التنظيمية.
طرحت شركتا «فيرتكس للأدوية» Vertex Pharmaceutical و«كريسبر ثيرابيوتكس» CRISPR Therapeutics علاجًا خلويًا قائمًا على التحرير الجيني بنظام «كريسبر» خارج الجسم الحيّ، يُعرف باسم «إكساجامجلوجين أوتوتيمسِل» exagamglogene autotemcel (اختصارًا «إكسا-سل» exa-cel)، وهو علاج أثمره تعاون بين الشركتين، لاعتماد إدارة الدواء والغذاء الأمريكية له، بهدف استعماله لمعالجة داء الخلايا المنجليّة (SCD) ومرض ثلاسيميا بيتا. ويُتوقَّع صدور قرار الهيئة التنظيمية بشأن هذه الأداة الواعدة للتحرير الجيني في غضون فترة تتراوح من ثمانية شهور إلى 12 شهرًا. كما أن الشركتين تقدّمتا بطلب اعتماد علاجهما في أوروبا والمملكة المتحدة أيضًا.
تعليقًا على هذا، يقول باستيانو سانا، رئيس قسم العلاجات الخلوية والجينية لدى شركة «فيرتكس»، التي عقدت عام 2015 شراكة تعاونية مع شركة «كريسبر ثيرابيوتكس» لتطوير أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، المعروفة سابقًا باسم «سي تي إكس-100» CTX-001: "يُعد هذا الإجراء بمنزلة شهادة قوية دعمًا لجدارة تقنيةٍ لم تكن قبل 10 سنوات إلا مفهومًا نظريًا خُط على بضعة أوراق. آنذاك، كان الموقف أشبه بالوقوع على صندوق أسرار؛ فعندما توصّلنا إلى الأداة المناسبة، وجدنا أنفسنا قادرين على استعمال حصيلتنا من معارف دراسات اعتلالات الهيموجلوبين التي ظلت غير مستغلة لسنواتٍ عديدة".
وتُوافقه الرأيَ جينيفر داودنا، إحدى العلماء الذين برهنوا في دراسة عام 2012 على فوائد نظام «كريسبر-كاس» في التحرير الجينومي. فتقول تعقيبًا على ذلك: "إنه لحدث مذهل. لم يكن ثمة شك في أن امتلاك القدرة على التحرير الجينومي هو أداةً قوية، لكني لا أعتقد أن أيًّا منا كان ليتخيّل السرعة التي ستتقدم بها خطى هذا المجال". وتجدر الإشارة إلى أن داودنا شاركت في تأسيس شركتي التحرير الجينومي، «إديتاس»Editas و«إنتيليا»Intellia ، في حين أن إمانويل شاربنتييه، التي شاركتها وضع دراسة عام 2012، أسهمت في تأسيس شركة «كريسبر ثيرابيوتكس». وقد تقاسمت العالمتان قيمة جائزة نوبل عام 2020 تكريمًا لأبحاثهما الثوريّة في هذا الصدد.
جدير بالذكر أنه شاع اختبار فاعلية تقنيات التحرير الجيني التي تستهدف جينات بعينها في حالات اعتلال الهيموجلوبين-بيتا، لأن الخصائص الوراثيّة التي تقف وراء هذه الاعتلالات مفهومة جيدًا ويَسهُل التلاعب بها. إذ يمكن تعديل الخلايا المستهدف تحريرها جينيًا خارج الجسم الحي لتُعاد لاحقًا إلى المريض، وبذلك نتفادَى بعض عقبات إعطاء العلاج. وقد حصلت شركة «بلوبيرد بايو» Bluebird bio مؤخرًا على اعتماد إدارة الغذاء والدواء الأميركية لعلاجها الجيني القائم على فيروسات بطيئة، والمعروف باسم «بيتيبيجلوجين أوتوتيمسِل» (betibeglogene autotemcel)، أو beti-cel اختصارًا، من خلال اختباره في بيئات جينية تميز هذه الاعتلالات، لكن مع التطورات التي يشهدها هذا المجال التنافسي، بدأت شركات بالمشهد في الانسحاب من مضمار السباق.
ويذكر هنا أن البيانات حول أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، التي جُمعت من دراسات غير معماة قيد الإجراء حاليًا، شملت 75 مريضًا، تساعد على حسم نتيجة السباق.
في ذلك الصدد، يقول مارتِن ستاينبرج، اختصاصي أمراض الدم لدى جامعة بوسطن، وعضو اللجنة التوجيهية المعنية بتطوير أداة «إكسا-سِل» لدى شركة «فيرتكس»: "لقد كانت تجربة رائعة، وفاقت نتائجها توقّعات الجميع".
إذ أفادت شركة «فيرتكس» أن أداتها للتحرير الجيني نجحت في وضع حد لنوبات الانسداد الوعائي المؤلمة في المصابين بداء الخلايا المنجلية، وأغنت 90% من المصابين باضطراب «ثلاسيميا-بيتا» عن الحاجة إلى عمليات نقل دم على مدى فترة تراوحت بين 1.2 و37.2 شهرًا.
وتُعد هذه طفرة ثورية، تنتقل بنا إلى عهد جديد بعد علاج مرضى داء الخلايا المنجلية بالعقاقير؛ مثل دواء «هيدروكسي يوريا» Hydroxyurea الذي يُعطى في المعتاد كعلاج لتعزيز مستويات الهيموجلوبين، وغير ذلك من الخيارات الدوائية المعتمَدة مؤخرًا، مثل دواء شركتي «جي بي تي» GBT و«فايزر» Pfizer، لمقاومة تكوُن الخلايا المنجلية، ودواء «فوكسيلوتور» Voxelotor، ودواء «كريزانليزوماب» Crizanlizumab، الذي يقوم على جسم مضاد كابت لإنتاج بروتين P-selectin، والذي تنتجه شركة «نوفارتس» Novartis. ويوضح ستاينبرج هذه الطفرة قائلًا: "دواء «ايدروكسي يوريا» عظيم الفوائد، لكن لم تنتج عن استخدامه حالات شفاء قط. أما أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، فتستهدف الوصول إلى الشفاء".
ويضيف ستاينبرج أن فاعلية أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» تبدو مضاهية لتلك التي تميز المقاربات العلاجية القائمة على الفيروسات البطيئة، ومن أمثلتها العلاج الجيني التجريبي الذي تنتجه شركة «بلوبيرد بايو» لعلاج مرضى داء الخلايا المنجلية.
وقيد الإجراء حاليًا دراسة متابعة تمتد 15 عامًا لتقييم مدى استمرارية المفعول العلاجي لأداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، وأمان هذه الأداة على المدى البعيد. إذ تبقى هناك مخاوف مما قد تتسبب فيه عمليات التحرير الجيني القائمة على نظام «كريسبر-كاس»، نظريًا وعلى أرض الواقع، حال إصابتها هدفها أو إخطائها عنه.
وتجدر الإشارة إلى أن النظام العلاجي الذي تستخدمه أداة التحرير الجيني تلك يُتوقع أن تكون له تبعات شاقة، كما يُحتمل أن يكون باهظ التكاليف. وبما أن معظم المصابين باعتلالات الهيموجلوبين يعيشون في دول شحيحة الموارد، في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم، فإن القدرة على الوصول إلى هذا العلاج وشرائه سيظلّان عائقين كبيرين. وعن هذا، يقول ستاينبرج: "أرى أنه فتح علمي بيولوجيّ، لكن بأخذ السياق الكامل له في الاعتبار، أجده خطوة مبدئية صغيرة نحو إتاحة هذه العلاجات الجينية لمعظم مَن يحتاجون إليها".
وصحيح أن اعتماد أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» من شأنه أن يدعم حقل العلاجات القائمة على نظام «كريسبر-كاس»، وهو حقل يشهد تطورات سريعة الخطى، إلّا أن ثمة حاجة إلى مزيد من الجهود لتحسين آلية تلقي هذه العلاجات، وتوسعة آفاق الفرص التي تتيحها هذه الأنظمة العلاجية. سامارث كولكارني، المدير التنفيذي لشركة «كريسبر ثيرابيوتكس»، يوضح ذلك قائلًا: "المحورَان اللذان تنصب حاليًا المساعي على تحسينهما في هذا الصدد، هما تحسين آلية وصول العلاج إلى جميع الأجهزة العضوية، وتطوير هذه التقنيات بحيث يسنح تصحيح الجينات بفاعلية أكبر".
إصابة الهدف
تَنتُج اعتلالات «هيموجلوبين-بيتا» عن طفرات في وحدة بيتا الفرعية من بروتين الهيموجلوبين الذي يسمح لخلايا الدم الحمراء بحمل الأكسجين. وفي اضطراب «ثلاسيميا-بيتا»، تفقد خلايا المصابين بهذا الاعتلال تمامًا القدرة على نقل الأكسجين أو معظمها. أما لدى المصابين بداء الخلايا المنجلية، فتتسبّب طفرات بروتين الهيموجلوبين في تحوُل خلايا الدم الحمراء إلى خلايا منجلية الشكل وتكتّلها، محفّزةً نوبات انسداد وعائي مؤلمة، فضلًا عن انحلال الدم، وهو انفجار لخلايا الدم الحمراء، يؤدي إلى فقر الدم وتلف مزمن لأعضاء الجسم.
وتتطلب معالجة اضطراب «ثلاسيميا-بيتا» عمليات نقل دم، بمعدل يبلغ مرة شهريًا في الحالات الشديدة منه. والعقاقير الحالية ذات الجزيئات العلاجية الصغيرة التي تستهدف علاج داء الخلايا المنجلية، تخفف آلام الداء وشدته واحتمالات الوفاة به، لكن لا تدرأها.
ويُذكر أن الطفرة النقطية التي تسبّبت في داء الخلايا المنجلية كانت أول ما اكتُشف من مسببات الأمراض الجينية قبل 65 عامًا. ويعلّق سانا على ذلك قائلًا: "من الطريف أنّ أداة العلاج الجيني الأحدث يُزمع استخدامها لعلاج أقدم داء جيني وضع العلم توصيفًا له".
وعبر استخدام أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، تستغلّ شركة «فيرتكس» وشريكتها في إنتاج الأداة قدرة نوكلياز «كريسبر-كاس9» CRISPR-Cas9 على إحداث قطع بدقة في الحمض النووي لكبت التعبير عن الجين BCL11A، وهو جين يعمل على كبت التعبير عن الهيموجلوبين الجنيني في الخلايا الجذعية السلفية المُكوِّنة للدم ( HSPC) التي تُجمع من المرضى. والهيموجلوبين الجنيني يُكبت التعبير عنه عادةً في الأشهر التي تلي الولادة، لكن إعادة تنشيط التعبير عنه تولّد بروتينًا يمكنه تعويض الفاقد من بروتين بيتا-جلوبين المَعيب في كلا نوعي اعتلال «الهيموجلوبين-بيتا».
ومثل المقاربات العلاجية الأخرى التي تستهدف تعديل الجينات خارج الجسم الحي، فإن التحرير الجيني بأداة «إكسا-سِل» يرقى إلى عملية استزراع نخاع عظم باستخدام خلايا معدّلة من المريض نفسه. إذْ تُحشد الخلايا الجذعية السلفية المُكوِّنة للدم من نخاع العظم، وتُجمَع لتحريرها خارج الجسم. ثم يتلقّى المريض علاجًا يعمل على استئصال خلايا الدم التي تعاني خللًا من نخاع الدم، وغرس الخلايا الجذعية السلفية المُكونة للدم بعد التحرير الجيني لها لتلتحم بنخاع العظم من جديد.
حول ذلك، يقول ستاينبرج: "جراحة إخماد نشاط نخاع العظم المولَّف مؤلمة. وعندما يعود الناس بالذاكرة إليها بعد 20 عامًا من اليوم، يُتوقع أن يضحكوا متعجّبين من أننا لجأنا إلى إجراء على هذه الدرجة الشديدة من البدائية والقسوة". ويوضح أن المرضى يكونون عُرضة للالتهابات والنزيف ومضاعفات أخرى لقرابة شهرين، إلى حين استزراع الخلايا الجذعية السلفية المكونة للدم بعد تحريرها في نخاع العظم.
غير أن نتائج العلاج واعدة. وفي «مؤتمر الجمعية الأوروبية لأمراض الدم»، أعلنت شركتا «فيرتكس» و«كريسبر ثيرابيوتكس» العام الماضي عن أحدث البيانات حول 75 مريضًا شاركوا في تجربتَين قيد الإجراء من المراحل الأولى والثانية والثالثة. ووفقًا للشركتين، أغنى العلاج بأداة التحرير الجيني ـ«إكسا-سِل» 42 مريضًا من أصل 44 مريضًا مصابين بحالة شديدة من اضطراب «ثلاسيميا-بيتا» عن الحاجة إلى عمليات نقل دم (على مدى فترة متابعة بلغت في المتوسط 12.3 شهر). كما حالت دون حدوث نوبات انسداد وعائي لدى جميع المشاركين المصابين بداء الخلايا المنجلية في التجربتين، وعددهم 31 مريضًا. علمًا بأنه في السنتين اللتين سبقتا جراحة التحرير الجيني باستخدام الأداة، عانى مرضى داء الخلايا المنجلية هؤلاء في المتوسط أربع نوبات انسداد وعائي سنويًا.
تعليقًا على ذلك، يقول كولكارني: "يُظهر ذلك ببساطة قدرات نظام «كريسبر» على علاج الاضطرابات على المستوى الجيني بدقة، وخلق علاجات استعصت على شركات الأدوية الكبرى".
كما رفع العلاج متوسط نسبة الهيموجلوبين الجنيني، لتصل إلى 40%، ومتوسط مستويات الهيموجلوبين لتربو على 11 جرامًا/ديسيلتر. وتُعد هذه النتائج التي حققتها أداة التحرير الجيني على صعيد الفاعلية، مضاهية لتلك التي أسفر عنها علاج شركة «بلوبيرد بايو» الجيني، «لوفوتيبيجلوجين أوتوتيمسِل» Lovotibeglogene autotemcel (أو اختصارًا «لوفو-سِل» lovo-cel)، والذي كان قائمًا على عدد من الفيروسات البطيئة. وهو يعمل على إضفاء طفرة جينية مضادة لتكوُن الخلايا المنجلية، تنتج في الهيموجلوبين خارج الجسم الحي، ثم تُنقل إلى الخلايا الجذعية السلفية المُكونة للدم. وتتأهب شركة «بلوبيرد بايو» قريبًا للتقدّم بطلب ترخيص بيولوجي لعلاجها «لوفو-سِل».
تعقيبًا على ذلك، يقول ستاينبرج: "بالنظر إلى المحصلة التي انتهينا إليها، لا فرقٌ يُذكر بين العلاجين في فاعليتهما".
ولا تزال استمرارية آثار كلا العلاجين قيد أن يُنظر فيها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسب الأليلات التي خضعت لتحرير جيني في جين BCL11Aبنخاع العظم، وخلايا الدم المحيطي أحادية النواة، ظلت ثابتةً لأكثر من سنة بعد علاجها باستخدام أداة التحرير الجيني ـ«إكسا-سِل». وهو ما يعقب عليه ستاينبرج قائلًا بأن ثمة حاجة لدراسات متابعة تمتد لسنوات عديدة، للتثبُت من قدرة أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» على علاج المريض من مرة واحدة.
كما نحتاج إلى مزيد من البيانات لمعرفة ما إنْ كانت أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» ستمتاز من نواح أخرى عن أدوات إصلاح التلف الجيني مثل «بيتي-سِل» beti-cel، و«لوفو-سِل». غير أن شركة «فيرتكس» تتوقع أن قدرة العلاج على تفعيل جينٍ موجود أصلًا بدلًا من إقحام جين خارجي المنشأ في الجينوم داخل موقع عشوائي قد تجعل العلاج أكثر جاذبية للمرضى والأطباء.
فضلًا عن ذلك، فإن اعتماد أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» قد يخدم كشهادة بجدارة هذه التقنية الجديدة كعلاج منافس لتقنيات إصلاح التلف الجيني السابقة.
ومع أن أبرز المقاربات العلاجية المستهدفة لجينات محددة تَحُول دون حدوث نوبات الانسداد الوعائي المؤلمة في المصابين بداء الخلايا المنجلية، لم يُحسم بعد ما إذا كان بمقدورها علاج انحلال الدم الناجم عن هذا الداء، أم لا. فعلاج «لوفو-سِل»، على سبيل المثال، لم يخفض مستويات انحلال الدم، ولم تعلن شركة «فيرتكس» بيانات من هذا النوع في حال أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل». وعن هذا، يقول ستاينبرج: "نوبات الانسداد الوعائي المؤلمة هي أكثر ما يزعج المصابين بداء الخلايا المنجلية؛ لكن الأوثق ارتباطًا بالوفيات هو فقر الدم الانحلالي الشديد. لذا، يجب معالجة كلا هذين الجانبين الفيسيولوجيين من المرض".
وهذا ما يفسح المجال لاستخدام أدوية أخرى مثل عقار «فوكسيلوتور» Voxelotor، الذي كان المحرك الأكبر لعملية استحواذ شركة «فايزر» على شركة «جي بي تي» العام الماضي بشراء حصة قيمتها 5.4 مليار دولار أميركي من أسهم الشركة الأخيرة. وبين المشاركين في تجارب المرحلة الثالثة، الحاسمة للتحقق من تأثيرات هذا الدواء ذي الجزيئات العلاجية الصغيرة، تبين أن مؤشرات انحلال الدم انخفضت، في حين ارتفعت مستويات الهيموجلوبين، بينما لم تتقلّص معدّلات الإصابة بنوبات الانسداد الوعائي.
التدقيق في أمان أداة التحرير الجيني
وباعتبار أن «إكسا-سِل» هي إحدى أبرز أدوات التحرير الجيني، فمن المتوقع أن تولي الهيئات التنظيمية اهتمامًا بالغًا بمدى أمانها للمرضى.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه من أصل 75 مريضًا عولجوا بأداة التحرير الجيني، عانى مريضان آثارًا جانية شديدة، شملت قلة الصفيحات وداء البلعمة. ويُعتقد أن هذه الآثار الجانبية الشديدة ارتبطت بالنظام العلاجي القائم على استئصال نخاع العظام الذي ينطوي عليه العلاج بهذه الأداة، وقد زالت هذه الآثار الجانبية لاحقًا.
غير أنه نظريًا، قد تسبب آليّات نظم «كريسبر-كاس» للتحرير الجيني، إشكاليات تؤثر في سلامة المرضى.
فلكبت التعبير الجيني، يحدث نوكلياز Cas قطعًا في عدة مواضع من الحمض النووي مزدوج الشريط، يشوب إصلاح الخلايا لاحقًا لها عيوب. وقد يؤدي هذا إلى تغيرات جينية وطفرات إبدال جينومية كبيرة مختبريًا، فضلًا عن حذف تام للكروموسوم المستهدف، نتيجة عملية تسمى «تحطّم الصبغيّات». وحتى الآن، لم يُعلن حدوث هذه التأثيرات في المرضى المعالجين بأداة التحرير الجيني، وهي تأثيرات من المحتمل بدرجة كبيرة أن تسبب موت الخلايا بعد تحريرها قبل أن يُعاد غرسها في المرضى، بحسب ما أفادت به أناريتا ميتشيو، المتخصصة في دراسة العلاجات الجينية لاعتلالات هيموجلوبين-بيتا، من «معهد إمادجين للأمراض الجينية» في باريس، علمًا بأن هذه المضار تهدد بالتسبب في أورام سرطانية، فضلًا عن مخاطر جسام أخرى. وهي "ما زالت مثار قلق العلماء"، على حد تعبير ميتشيو.
في المقابل، فإن تقنيات التحرير الجينومي، مثل تقنيات التحرير الجيني للقواعد النيوكليوتيدية وللمقاطع البادئة لتخليق الحمض النووي، وهي تقنيات لا تزال في مراحلها الأولى، لا تحدث قطعًا في مواضع الحمض النووي مزدوج الشريط، وقد تجنبنا هذه الإشكاليات.
مكمن خطر محتمل آخر هو إمكان أن يوجه الحمض النووي الريبي الدليل نوكلياز Cas إلى إحداث قطع بمواقع شبيهة، غير تلك المستهدفة، لينتُج عن ذلك تحرير جيني لمواضع غير المستهدفة من الحمض النووي. بَيْد أن الباحثين أحرزوا تقدّمًا في التنبؤ بهذه المخاطر والحد من احتمالات حدوثها، بإجراء عمليات تعيين متعمق لمقاطع كبيرة من تسلسلات الحمض النووي بحثًا عن مواضع جينومية قد تطابق تلك التي يوجه إليها الحمض النووي الريبي الدليل، وباختيار نوكليازات Cas تسمح بنطاقات تحرير أكثر دقة، بحسب تعبير كولكارني.
أما ميتشيو، فتتساءل كذلك عن عواقب رفع مستويات الهيموجلوبين الجنيني في النساء اللواتي يحبلن لاحقًا. إذْ يتسم بروتين الهيموجلوبين الجنيني بألفة كيمياوية للأكسجين أكبر منها في صورة هذا البروتين لدى الأشخاص البالغين، وهذا التوازن الكيميائي يضمن انتقال الأكسجين إلى الجنين عبر المشيمة. فهل هناك إمكانية، ولو بسيطة، في أن يتسبّب اضطراب مستويات الهيموجلوبين الجنيني في دم الأم خللًا في هذا التوازن؟ الأدلّة المتاحة "تشير بقوّة" إلى أن رفع مستويات الهيموجلوبين الجنيني بنسب قدرها 40% لا يؤثّر في تطوّر الأجنّة، بحسب ما أفاد به متحدّث باسم شركة «فيرتكس».
وباعتبار أن أداة التحرير الجيني «إكسا-سِل» قد تكون الأولى من نوعها بين الأدوات التي ترتكز على هذا النسق من التحرير الجيني، لعل من الضروري انعقاد اجتماع للجنة استشارية بإدارة الدواء والغذاء الأميركية، لمزيد من النظر في هذه الجوانب وغيرها من خواص هذه الأداة على صعيد الأمان والفاعلية.
حساب التكاليف
ومن المتوقع أن التسعير وسبل إتاحة الوصول إلى هذا العلاج سيدخلان في اعتبارات اعتماده من الجهات المعنية. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يَصدر عن شركتي «فيرتكس» و«كريسبر ثيرابيوتكس» حتى اليوم أية تعليقات بخصوص خطط تسعير العلاج بأداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، لكن من المتوقّع أن يكون باهظ التكلفة. على سبيل القياس، تبلغ تكلفة العلاج بأداة التحرير الجيني «بيتي-سِل» 2.8 مليون دولار في الولايات المتحدة. ومع أن شركة «بلوبيرد بايو» حصلت على اعتماد لأداة العلاج الجيني تلك في أوروبا عام 2019، فقد سحبتها لاحقًا من تلك السوق، بعد أن أخفقت في عقد صفقة مع جهات الشراء على سعرٍ معروض قدره 1.8 مليون دولار أمريكي.
تعليقًا على ذلك، تقول ميتشيو: "إن العائد الذي يجنيه المرضى، من اعتماد العلاج بأداة التحرير الجيني «إكسا-سِل»، يتوقّف على تسعير هذا العلاج. وتساورنا مخاوف من تبعات هذا التسعير بعد أن رأينا شركة «بلوبيرد بايو» تسحب علاجها من أوروبا".
ووفقًا لتقديرات شركة «فيرتكس»، فإن عدد الحالات الشديدة التي تعتمد على علاج بنقل الدم بين المرضى الذين يعانون داء الخلايا المنجلية أو ثلاسيميا-بيتا، في الولايات المتحدة وأوروبا، يبلغ 32 ألف حالة. ويتوقّع محلّلون من شركة «إفاليوايت فارما» Evaluate Pharma أن يحقق العلاج بأداة التحرير الجيني «إكسا-سل» مبيعات بقيمة 1.6 مليار دولار بحلول عام 2028.
غير أن معالجة المرضى في الدول شحيحة الموارد ستتطلّب نموذج عمل مختلف، كما أشار ستاينبرج. فقد تتضافر تأثيرات عقاقير تحفيز التعبير عن الهيموجلوبين الجنيني التي يمكن تناوُلها بالفم مع تأثيرات دواء «هيدروكسي يوريا» لتطلق ثورة تقلب الموازين في تلك الدول. غير أن ستاينبرج يضيف مستدركًا: "لكن خطوط إمداد هذه العلاجات محدودة نوعًا ما". فيذكر هنا أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية علَّقت مؤخرًا تجارب المرحلة الأولى «ب» من اختبارات التحقق من تأثيرات عقار «إف تي إكس-6058» FTX-6058 ذي الجزيئات العلاجية الصغيرة المحفز للتعبير عن الهيموجلوبين الجنيني، والذي أنتجته شركة «فالكروم ثيرابيوتكس» Fulcrum Therapeutics، بسبب ظهور مؤشرات مقلقة حول أمان العقار في دراسات أجريت باستخدامه على حيوانات.
وتحرص جهات تطوير الأدوية على استخدام هذه التقنيات في التحرير الجيني داخل الجسم الحي، ومعالجة الخصائص الجينية المسبّبة للأمراض في أعضاء وأنواع أخرى من الخلايا. ولا شك أن عضو الكبد يمثل نقطة انطلاق لهذه التقنيات لأن الأدوية التي يتلقّاها الجسم وريديًّا تجتمع بسهولة في هذا العضو. لذا، نجد على سبيل المثال، أن تقنيتي شركة «إنتيليا» الواعدتين والمرتكزتين على نظام «كريسبر-كاس9»، «إن تي إل إيه-2001» NTLA-2001 و«إن تي إل إيه-2002» NTLA-2002، يحرّران خلايا الكبد جينيًا لتوفير العلاج المناسب لكلٍّ من الوذمة الوعائية الوراثية، واعتلال الأعصاب النشواني القائم على اضطراب التعبير عن البروتين الرابط للثايروكسين . وقد طورت شركة «فيرف» Verve العام الماضي نظامها للتحرير الجيني للقاعدة النيوكليوتيدية المُنتجة للإنزيم PCSK9 وطرحته للاستخدام الإكلينيكي، مستهدفة خلايا الكبد بهدف علاج الأمراض القلبية الوعائية.
وتتعاون شركتا «فيرتكس» و«كريسبر ثيرابيوتكس» كذلك على تطوير نظام علاجي قائم على التحرير الجيني يستهدف العضلات لمعالجة حثل دوتشين العضلي. ويعتمد هذا النظام العلاجي الذي لا يزال في طور سابق لدخول التجارب الإكلينيكية على ناقل فيروسي من الفيروسات الغدانية لقطع قصاصةٍ صغيرة من جين Dystrophin الطافر في الخلايا العضلية، بهدف تغيير شكل التسلسل النيوكليوتيدي للجين، ليسمح من جديد بإنتاج تسلسل شبه مكتمل من البروتين الذي ينتجه.
كما عقدت شركة «كريسبر ثيرابيوتكس» شراكة مع شركة «كابسيدا» Capsida المتخصصة في التقنيات الحيوية المرتكزة على الفيروسات الغدانية لتطوير أدوية تعتمد على نظام «كريسبر-كاس» وتستهدف الجهاز العصبي المركزي. ومن المحتمل كذلك أن تتسع مجموعة الأعضاء التي يمكن تحريرها جينيًا بإعطاء علاج قائم على ناقل فيروسي. على سبيل المثال، بعض الجسيمات المهندَسة الشبيهة بجسيمات فيروسية، والتي طوّرها ديفيد ليو من معهد «برود» مع باحثين آخرين، تستعمل بروتينات غلاف فيروسي لإعطاء علاجات دون التدخل في الحمض النووي. كما أطلق فينج جانج، الذي يعمل لدى معهد «برود»، شركة «أيرا ثيرابيوتكس» Aera Therapeutics لتطوير نظام علاجي آخر، قائم على ترميز بروتينات شبيهة ببروتينات فيروسات النسخ العكسي في الجينوم البشري لإمداد الجسم بجرعات علاجية محرِّرة للجينوم.
حول ذلك، تقول داودنا: "فضلًا عن التطوّر الذي نشهده في أدوات تحرير الحمض النووي نفسها، نلحظ اليوم في هذا المجال تطويرًا لأساليب إمداد الخلايا بالعلاج من خلال هذه الأدوات. ولا بد أن يأتي كل من التطورين مصاحبًا للآخر، إذْ لا مغزى من تلك الجهود إذا لم نتمكن من الوصول بأدوات التحرير الجيني بكفاءة إلى النسيج حيث تكون ضرورية".
وثَــمّة جبهة أخرى ينبغي العمل عليها، ألا وهي تصحيح الجينات. فبدلًا من الاكتفاء باستعمال نوكلياز لقصّ تسلسل جيني معين أو كبت التعبير عنه، فبعض أدوات التحرير الجيني المستقبلية تسخر أشكال تسلسل الحمض النووي لتغيير التسلسل الجيني عند موضع القص، ويكون ذلك إما باستعمال آليات الخليّة نفسها أو بمقاربات تجريبية أخرى للتحرير الجيني مثل التحرير الجيني للمقاطع البادئة لتخليق الحمض النووي.
عن ذلك، تقول داودنا: "لا شك أن ثمة آفاق هائلة واعدة إنْ أمكن تعميم استخدام هذه التقنية لتصحيح مزيد من الطفرات المسبّبة للأمراض".
وتجدر الإشارة إلى أن إحدى تقنيات تصحيح الجينات الأكثر تطورًا واجهت في الآونة الأخيرة ضربة كبيرة. ففي يناير الماضي، أوقفت شركة «جرافيت بايو» Graphite Bio التجارب الإكلينيكية لعلاجها لداء الخلايا المنجلية القائم على خلايا جذعية سلفية مكونة للدم متعددة القدرات مستمدة من المريض نفسه. وكان ذلك بعد أن أصيب أول مريض عولج بها بحالة خطرة من قلة الكريات الشاملة. ومنذّاك، أوقفت الشركة برنامج تطوير التقنية. وحتى الآن، لم تكشف «جرافيت» تفاصيل جديدة عن سبب حدوث هذا الأثر الجانبي. غير أن ميتشيو تعتقد بأن التعديلات التي أجريت على الخلايا الجذعية السلفية المكونة للدم، ربما كانت شديدة السمّية للخلايا.
وبوجود أدوية أخرى ترتكز على تقنية «كريسبر» تمضي سريعًا خطى التجارب الإكلينيكية لها، فمن المستبعد أن تتسبّب انتكاسة شركة «جرافيت» في إبطاء هذا المجال العلمي بصورته الأوسع. في ذلك الصدد، تقول داودنا: "نعمل منذ عشر سنوات في هذا المجال، وما هذه إلا البداية. وتضع هذه التقنية بين أيدينا فرصًا كثيرة جدًا. وأعتقد أنها ستكون شغلنا الشاغل ردحًا طويلًا من الزمن".
اضف تعليق