q
تشبه حياة الإنسان سلسلةً ممتدةً لا تنقطع؛ إذ يؤثر كل ما يتعرض له الفرد في أي مرحلة من مراحل تطوره ونموه -إما سلبًا أو إيجابًا- عليه عند الكبر، ولا يقتصر التأثير على النواحي العقلية فقط، بل يمتد أيضًا إلى النواحي الجسدية وإصابته بأمراض قد تلازمه طيلة عمره...
بقلم بثينة صلاح

تشبه حياة الإنسان سلسلةً ممتدةً لا تنقطع؛ إذ يؤثر كل ما يتعرض له الفرد في أي مرحلة من مراحل تطوره ونموه -إما سلبًا أو إيجابًا- عليه عند الكبر، ولا يقتصر التأثير على النواحي العقلية فقط، بل يمتد أيضًا إلى النواحي الجسدية وإصابته بأمراض قد تلازمه طيلة عمره.

في السياق، كشفت دراستان حديثتان النقاب عن تأثير ما يحدث على الإنسان في مرحلة الطفولة وعند البلوغ على حياته مستقبلًا؛ إذ توصلت الدراسة الأولى، التي نشرتها دورية "جورنال أوف ذا أمريكان هارت أسوسيشن"، إلى أن معاناة المراهقين -وخاصةً الشباب السود- في حياتهم المبكرة قد تجعلهم أكثر تعرضًا للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية عند البلوغ.

تقول فرح قريشي -الأستاذ المساعد في كلية جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة بالولايات المتحدة الأمريكية، والباحثة الرئيسية في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": درسنا خمسًا من سمات الصحة العقلية هي التفاؤل والسعادة واحترام الذات والانتماء والشعور بالحب، وفحصنا تأثير تلك السمات الخمس على صحة القلب والأوعية الدموية في مرحلة البلوغ.

وتضيف: وجدنا أن الشباب الذين يتمتعون بهذه السمات الخمس يسعدون بصحة جيدة عند سن البلوغ ويمكنهم الحفاظ عليها بمرور الوقت، وهو أمرٌ مثيرٌ للإعجاب عندما نفكر في مدى امتداد تأثير هذه السمات لأكثر من 20 عامًا.

فحصت "قريشي" وفريقها البحثي بيانات من دراسة صحية وطنية شملت 3478 طالبًا في المدارس الثانوية الأمريكية في التسعينيات (بينهم 2183 من البيض و597 من السود و430 من ذوي الأصول اللاتينية و268 من العرقيات الأخرى)؛ إذ تتبعت الدراسة صحة الطلاب المشاركين لأكثر من عقدين من الزمان، وأجاب الطلاب عن الأسئلة التي حددت السمات الخمس الإيجابية للصحة العقلية، وأظهرت النتائج أن "55% من الأطفال لم يكن لديهم أيٌّ من تلك المشاعر الإيجابية أو لم يكن لديهم سوى سمة واحدة من تلك المشاعر الإيجابية، في حين تمتع 29٪ من المشاركين بما بين 2 إلى 3 من هذه السمات، و16% كان لديهم من 4 إلى 5 سمات".

وأظهرت النتائج أن "المراهقين الذين يتمتعون بأربعٍ إلى خمسٍ من سمات الصحة العقلية الإيجابية كانوا أكثر تعرضًا بنسبة 69٪ للحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية في مرحلة الشباب، مقارنةً بأقرانهم، مع أخذ مجموعة من العوامل الأخرى بعين الاعتبار، مثل دخل الأسرة وتعليم الوالدين ووزن جسم الأطفال".

تقول "قريشي": وجدنا أن الشباب السود يواجهون مزيدًا من الحواجز الهيكلية التي تَحولُ دون تمتُّعهم بصحة جيدة -بصورة عامة- مثل التمييز والعنصرية البنيوية، إن الافتقار إلى هذه المشاعر الإيجابية ضار بشكل خاص بالمراهقين السود؛ إذ إن 6% منهم فقط يتمتعون بصحة جيدة للقلب والأوعية الدموية في مرحلة البلوغ، مقابل 12% من نظرائهم البيض.

فوارق صحية

ترى "قريشي" أن معظم أبحاث القلب والأوعية الدموية تركز على عوامل الخطر التي تجعل الناس عرضةً للإصابة بالمرض، في حين أن القليل منها حدد السمات التي يمكن أن تساعد الأفراد في الحفاظ على صحة إيجابية بمرور الوقت، مضيفةً: هناك حاجة حقيقية إلى إجراء دراسات واسعة النطاق لرصد العوامل الإيجابية التي تبدأ في مرحلة الطفولة حتى نتمكن من فهم أهمية تمتُّع السكان بتلك السمات وكيفية تأثيرها على الفوارق الصحية على مدار الحياة.

وتتابع: كنا نود أن ننظر إلى مجموعة أوسع من سمات الصحة العقلية، ولكننا كنا مقيدين بالبيانات المتاحة لنا، كنا نود أيضًا فحص هذه العلاقات بين مزيدٍ من المجموعات العرقية والإثنية بخلاف تلك المدرَجة في دراستنا، ونظرًا إلى أن السياقات الثقافية المختلفة تؤدي دورًا مهمًّا في تشكيل تنمية الشباب، سيكون من المثير للاهتمام استكشاف إجابات عن هذه الأسئلة في بلدان أخرى.

تضيف "قريشي": نظرًا إلى أننا استخدمنا بيانات من دراسة طويلة الأمد تابعت الأطفال لأكثر من 20 عامًا، فقد تمكنَّا من تقييم الصحة العقلية باستخدام المعلومات التي تم جمعها من المشاركين عندما كانوا في سن المراهقة، ومدى صحة القلب والأوعية الدموية باستخدام القياسات التي تم جمعها مرتين عندما كان المشاركون بالغين، وأتاح لنا ذلك بشكل أساسي النظر في العلاقات بمرور الوقت، وساعدنا أيضًا على معالجة العوامل الأخرى في وقت مبكر من الحياة، والتي قد تفسر هذه العلاقة.

مشكلات الصحة العقلية

أما الدراسة الثانية، والتي قادها باحثون بجامعة كاليفورنيا، فقد ذكرت أن "التعرض لسوء المعاملة أو الإهمال في أثناء الطفولة يمكن أن يؤدي إلى العديد من مشكلات الصحة العقلية".

حاول الباحثون في الدراسة التي نشرتها دورية "ذا أمريكان جورنال أوف سيكاتري" معرفة الآثار السببية لسوء معاملة الأطفال على الصحة العقلية من خلال تحليل 34 دراسة شبه تجريبية، شارك فيها 54 ألفًا و646 شخصًا، وأخذ الباحثون بعين الاعتبار عوامل الخطر الجينية والبيئية الأخرى، مثل التاريخ العائلي للمرض العقلي والحرمان الاجتماعي والاقتصادي.

الدراسات شبه التجريبية

ويعتمد المنهج شبه التجريبي على "دراسة العلاقة بين متغيرين موجودين في أرض الواقع دون أن يتحكم الباحث فيهما، ويكون اللجوء إلى هذا المنهج عندما يواجه الباحثون صعوبات في استخدام المنهج التجريبي، لأسباب دينية أو اجتماعية، أو لعدم تعريض الإنسان للخطر أو للمهانة".

ويرى الباحثون أن الدراسات شبه التجريبية تحدد بشكل أفضل الأسباب والنتائج الناجمة عن بيانات المراقبة، باستخدام عينات متخصصة (مثل التوائم المتطابقة) أو التقنيات الإحصائية المبتكرة لاستبعاد عوامل الخطر الأخرى.

آثار سلبية قليلة

أوضحت نتائج تحليل الدراسات الـ34 أن منع ثماني حالات من سوء معاملة الأطفال من شأنه أن يمنع شخصًا واحدًا من التعرض لمشكلاتٍ تتعلق بالصحة العقلية، بما يشمل الاضطرابات الداخلية (مثل الاكتئاب والقلق وإيذاء النفس ومحاولة الانتحار)، والاضطرابات الخارجية (مثل تعاطي الكحوليات والمخدرات واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ومشكلات السلوك والذهان).

عرّف الباحثون سوء المعاملة في مرحلة الطفولة بأنها "أي اعتداء جسدي، أو جنسي، أو عاطفي أو إهمال قبل سن الثامنة عشرة".

وعلى الرغم من أن الدراسة تقدم آثارًا صغيرة لسوء معاملة الأطفال على مجموعة من مشكلات الصحة العقلية، إلا أن آثار سوء المعاملة هذه يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى؛ إذ تؤدي مشكلات الصحة العقلية إلى مجموعة من النتائج السيئة، مثل البطالة ومشكلات الصحة البدنية والوفيات المبكرة، وفق الدراسة.

ومع ذلك، وجد الباحثون أيضًا أن جزءًا من المخاطر الإجمالية لمشكلات الصحة العقلية لدى الأفراد المعرضين لسوء المعاملة يرجع إلى نقاط ضعف موجودة مسبقًا قد تشمل البيئات المعاكسة الأخرى (مثل الحرمان الاجتماعي والاقتصادي) والمسؤولية الجينية.

تأثيرات لا تنتهي

تقول "قريشي": إن منع سوء معاملة الأطفال أمرٌ بالغ الأهمية لحمايتهم ودعم صحتهم العقلية والبدنية في أثناء النمو، بالإضافة إلى خلق تجارب إيجابية نشطة تساعد في دعم صحة القلب والأوعية الدموية لدى الطفل بشكل جيد حتى مرحلة البلوغ.

من جهته، يؤكد تامر شوقي -أستاذ علم النفس التربوي بجامعة عين شمس، وغير المشارك في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم" أن "سوء معاملة الأطفال له العديد من التأثيرات السلبية على جميع نواحي شخصية الطفل، سواء النواحي العقلية أو الوجدانية أو الخلقية أو النفسية.

يضيف "شوقي": تتضمن تلك التأثيرات على سبيل المثال فقدان الطفل الثقة بنفسه وبالآخرين، وامتلاك الطفل نظرةً تشاؤميةً تجاه الحياة، وتكوين الطفل اتجاهات سلبية سواء نحو والديه أو إخوته أو المدرسة أو المعلمين، وضعف قدرة الطفل على التفكير بوجه عام والتفكير الإبداعي بوجه خاص، وانخفاض المستوى التحصيلي للطفل في المدرسة وضعف قدرته على النجاح والتفوق، وإصابة الطفل ببعض الاضطرابات الجسمية والنفسية بل والعقلية مثل التهتهة والتبول اللاإرادي، والقلق، والفوبيا، والاكتئاب، ومحاولات الانتحار، وعدم قدرته على تكوين علاقات اجتماعية مع الآخرين، وميله إلى الانطواء والانعزال، وتكوُّن نزعات عدوانية لدى الطفل تجاه الآخرين.

وتشير دراسة سابقة أجرتها جامعة أوكلاند النيوزيلندية، وشملت ثمانية أنواع من المِحن في مرحلة الطفولة، إلى أن "التعرض ولو لشكل واحد من أشكال مِحن الطفولة، مثل الإساءة العاطفية أو البدنية أو الجنسية، والمعاناة من العنف بالمنزل في أثناء التنشئة، وإساءة استخدام المخدرات، والمرض النفسي، والطلاق، أو تعرُّض أحد أفراد الأسرة للسجن، يرتبط بزيادة خطر تدهوُر الصحة النفسية للطفل مستقبلًا".

قام الباحثون بتحليل 2888 ردًّا على استبانة حول العنف الأسري في نيوزيلندا عام 2019، وأوضحت النتائج ارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب لدى الأشخاص الذين عانوا في طفولتهم من الاعتداء العاطفي أو الجنسي، أو الذين شهدوا عنفًا بين الأشخاص، أو الذين ينتمون إلى أسرةٍ يتعاطى أفرادها المخدرات، ولم يُبلغ 45٪ من الأشخاص في الدراسة عن أي أحداث سلبية في مرحلة الطفولة، في حين شهدت الأغلبية حدثًا واحدًا على الأقل، وأبلغ نحو الثلث عن أكثر من حدث.

الضغط النفسي في الطفولة

وفي وقت سابق، توصلت دراسة إلى وجود ارتباط وثيق بين عوامل الضغط النفسي في الطفولة والعناية الأبوية والحالة الصحية بعد البلوغ؛ إذ فحص الباحثون 18 علامةً حيويةً مهمةً لـ756 متطوعًا مثل ضغط الدم والنبض ومعدل الكوليسترول وغيرها، وبتحليل النتائج التي توصلوا إليها ومقارنتها بالحالة الصحيّة للمتطوعين، تأكد وجود ارتباط بين سوء المعاملة في الطفولة وخطر الإصابة بأمراض جسدية متعددة، وأن مَن تمتعوا بطفولةٍ سويةٍ وعلاقةٍ أبويةٍ إيجابية كانت لديهم مستويات طبيعية لعلاماتهم الحيوية، وانخفاض في مستوى خطر الإصابة بالأمراض.

يقول "شوقي": إن الشعور بالحب والتقدير والرضا عن النفس في فترة المراهقة يُعتبر امتدادًا لهذا الشعور في مرحلة الطفولة السابقة على مرحلة المراهقة باعتبار أن النمو الإنساني هو عملية مستمرة متصلة الحلقات، ومن ثم فإنه سيكون لهذه المشاعر الإيجابية تأثيرات إيجابية على الصحة البدنية عند بلوغ الثلاثينيات بل حتى آخر العمر، وذلك لأن هذه المشاعر الإيجابية تحافظ على الخلايا العصبية وأجهزة الجسم المختلفة وصحة القلب والأوعية الدموية، وعلى انتظام عمل الدورة الدموية للإنسان بعيدًا عن الأمراض.

الأمراض السيكوسوماتية

يرى "شوقي" أن ثمة علاقة وثيقة بين النواحي النفسية والبدنية في شخصية الأطفال، مضيفًا: هناك ما يُعرف بـ"الأمراض السيكوسوماتية"، وهي أمراض جسمية تنجم عن أسباب نفسية، ومن أمثلتها أمراض القلب، والضغط، والسكر، والمرارة وغيرها، وبالتالي يمكن حماية الصحة البدنية للأطفال على المدى الطويل من خلال اتباع بعض الأساليب النفسية الإيجابية، مثل بث الثقة في نفس الطفل من خلال التعامل معه باحترام، وتجنُّب استخدام العقاب البدني معه، وعدم عقابه على الخطأ الذي ارتكبه أكثر من مرة، وأن يكون العقاب في شكل سحب ما يحبه الطفل منه بدلًا من عقابه بدنيًّا، والتركيز على النواحي الإيجابية والمواهب التي لدى الطفل بدلًا من التركيز على نواحي الضعف في شخصيته، وتوفير بيئة أسرية هادئة للطفل تخلو من الصراعات بين أفرادها، وأن يكون الوالدان نموذجًا أمام الطفل في الهدوء في التعامل مع المشكلات وعدم العصبية، واحتواء الطفل وجدانيًّا، وتعليمه تفسير الأمور تفسيرًا إيجابيًّا وليس سلبيًّا.

من جهته، يؤكد وليد هندي -استشاري الصحة النفسية والحاصل على درجة الدكتوراة في العلوم النفسية من جامعة القاهرة- أن "المراهقة تبدأ بنضج الوظائف الجنسية وقدرة الفرد على التناسل، وتنتهي بمرحلة الرشد وإشراف القوى العقلية المختلفة على إكمال شخصيته".

يقول "هندي" في تصريحات لــ"للعلم": مرحلة المراهقة مزعجة؛ لأن الآباء ينظرون إلى أولادهم على أنهم ما زالوا أطفالًا في حين أن هناك تغيرات سيكولوجية وجسدية يمر بها الطفل لا تحوز انتباههم، ويتعاملون معهم بالعقلية نفسها "افعل ولا تفعل"، وبالتالي تحدث مشكلات كبيرة في تلك المرحلة.

ويضيف: إن المراهق في هذه المرحلة يكون عصبيًّا ومتمردًا ومتطلعًا إلى المستقبل، ويجب أن يكون لدى الآباء القدرة على احتواء المراهقين وتفهُّم دوافعهم السلوكية، ومشاركتهم في أعمال البيت والمسؤولية، وترك مساحة من الخصوصية للمراهقين حتى يبثوا فيهم روح الثقة بالذات، ويجب أن نترك للمراهق مساحةً للتعبير عن آرائه، وتقنين ما يفكر به دون صدام، كما أن الحوار والمناقشة من أهم طرق التعامل بإيجابية مع المراهق.

اضف تعليق