يحتاج صانعو القرار إلى إدراج أربعة إجراءاتٍ مهمة للحد من مخاطر تناقل الفيروسات بين الإنسان والحيوان، وهم يتباحثون حول الاتفاقيات الإطارية المتعلقة بالصحة والتنوع البيولوجي، أدتْ أحداث تناقل الفيروسات بين الإنسان والحيوان – حيث ينشأ مُسبِّب المرض لدى الحيوانات وينتقل إلى البشر – إلى جميع الجوائح الفيروسية على الأرجح منذ بداية القرن العشرين...
أدتْ أحداث تناقل الفيروسات بين الإنسان والحيوان – حيث ينشأ مُسبِّب المرض لدى الحيوانات وينتقل إلى البشر – إلى جميع الجوائح الفيروسية على الأرجح منذ بداية القرن العشرين1، بل إن تحليلًا نُشر في أغسطس 2021 حول نوبات تفشي الأمراض على مدى القرون الأربعة الماضية، أشار إلى أن الاحتمالات السنوية لحدوث جوائح قد تتضاعف عدة مرات خلال العقود القادمة، ويُعزى ذلك بشكلٍ رئيس إلى التغيُّرات البيئية التي يتسبب فيها الإنسان2.
ولحسن الحظ، يُمكِن التقليل كثيرًا من احتمالات وقوع أحداث تناقل مُسَبِات الأمراض بين الإنسان والحيوان3، وذلك إذا ما خُصص نحو 20 مليار دولار أمريكي سنويًا لخفض معدل إزالة الغابات - على الصعيد العالمي - إلى النصف، في البؤر الساخنة للأمراض المعدية الناشئة، مع تقليص تجارة الأحياء البرية وتشديد الرقابة عليها، وتعزيز القدرة على اكتشاف الأمراض المعدية والسيطرة عليها، لا سيما لدى حيوانات المزارع.
ويُعَد هذا استثمارًا صغيرًا إذا ما قُورن بملايين الأرواح التي أُزهقتْ وتريليونات الدولارات التي أُنفِقَت خلال جائحة «كوفيد-19». وإضافةً إلى ذلك، تمثل هذه التكلفة 1 على 20 من القيمة الإحصائية للأرواح التي تُفقَد سنويًا جراء الأمراض الفيروسية التي انتقلتْ من الحيوان إلى الإنسان منذ عام 1918 (انظر: "التهديد المتعاظم الذي تشكله أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض")، كما تمثل أقل من 1 على 10 من الإنتاجية الاقتصادية التي تهدر في كل عام1.
لكن الكثير من الجهود الدولية التي أسفرتْ عنها جائحة «كوفيد-19» والتي تُبذَل بغية التوصل إلى سبل أفضل من أجل حماية العالم من نوبات التفشي المستقبلية، لا تعطي الأولوية إلى الآن لتجنب أحداث تناقل الفيروسات بين الإنسان والحيوان. ولنأخذ اللجنة المستقلة المعنية بالتأهب للجوائح والاستجابة لها (IPPPR)، والتي أنشأتها منظمة الصحة العالمية (WHO) مثالًا لتلك الجهود. فقد انعقدت اللجنة المذكورة في سبتمبر 2020 لأسبابٍ عدة، من بينها ضمان عدم تحوُّل أي نوبة تفشٍ مستقبلية للأمراض المعدية إلى جائحة جديدة. وفي تقريرها المؤلف من 86 صفحة، الذي صدر في مايو الماضي، أتت اللجنة على ذكر الأحياء البرية مرتين، وإزالةِ الغابات مرة واحدة.
ومن جانبنا، نحث صانعي القرار، الذين يعكفون حاليًا على بلورة ثلاثة مساعٍ دولية بارزة، لجعل تجنب أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان جزءًا لا يتجزأ من تلك المساعي.
فأولًا، أعطتْ مجموعة العشرين التي تضم أكبر 20 اقتصادًا في العالم موافقتها المبدئية الشهر الماضي على تأسيس صندوق عالمي لمكافحة الجوائح. وإذا ما أُنشيء هذا الصندوق، فمن المحتمل أن يوفر تمويلًا بمستوياتٍ لطالما أوصى بها خبراء الأمراض المعدية على مدار عقودٍ؛ نحو 5 دولارات أمريكية لكل شخص سنويًا على مستوى العالم (انظر go.nature.com/3yjitwx). وثانيًا، تتباحث جمعية الصحة العالمية (WHA)، وهي الجهة المعنية بصنع القرار لدى منظمة الصحة العالمية، حول اتفاقيةٍ تهدف إلى تحسين النُهُج العالمية في التعامل مع الجوائح. وثالثًا، يتفاوض حاليًا أطراف اتفاقية التنوع البيولوجي بشأن مشروع إطار عمل لحفظ التنوع البيولوجي؛ وهو إطار التنوع البيولوجي العالمي لما بعد عام 2020.
وإذا ما تبلورتْ هذه المساعي الدولية الثلاثة كما ينبغي، فإن من شأنها أن توطد دعائم نهجٍ عالمي استباقيٍ يتسم بالفاعلية في التعامل مع الأمراض المعدية. هذه فرصةٌ للتصدي أخيرًا للعوامل التي تؤدي إلى نوبات تفشٍ كبيرة للأمراض، والتي يساهم الكثير منها أيضًا في تغيُّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي، وهي فرصةٌ ربما لا تتكرر ثانيةً حتى يواجه العالم جائحةً أخرى.
الإجراءات الأربعة
يزداد خطر وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان عندما تزداد احتمالات مخالطة البشر للحيوانات، مثلما يحدث مثلًا في تجارة الأحياء البرية، أو تربية الحيوانات، أو عند إزالة الغابات لأغراض التعدين أو الزراعة أو إنشاء الطرق. وتزداد أيضًا احتمالية وقوع هذه الأحداث عندما تتهيأ الظروف التي تزيد من فرص نشر الحيوانات المصابة للفيروسات؛ كأن تُوضع الحيوانات في أماكن مكتظة، أو عندما لا تحصل على التغذية السليمة.
وتشير أبحاثٌ أُجريتْ على مدار عقود في علوم الأوبئة، والإيكولوجيا، والوراثة، إلى أن الاستراتيجية العالمية الفعَّالة للحد من مخاطر وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض - يجب أن ترتكز على أربعة إجراءات1،3.
فأولًا، يجب توفير الحماية للغابات الاستوائية وشبه الاستوائية، إذ تُبَيِّن دراساتٌ شتى أن التغيُّرات التي تحدث في طريقة استغلال الأراضي، ولا سيما الغابات الاستوائية وشبه الاستوائية، قد تكون المحرك الأكبر للأمراض المعدية الناشئة ذات المنشأ الحيواني على الصعيد العالمي4. وفي معظم الأحيان، تشتمل الحياة البرية التي نجتْ من إزالة الغابات أو تدهورها على أنواعٍ يمكن أن تعيش جنبًا إلى جنب مع البشر، وغالبًا ما تكون عائلًا لمُسبِّبات الأمراض القادرة على نقل العدوى للإنسان5. فعلى سبيل المثال، في دولة بنجلاديش، الخفافيش التي تحمل فيروس «نيباه» — الذي يستطيع أن يحصد أرواح 40% إلى 75% من المصابين به — تجثم حاليًا في مناطق ذات كثافة سكانية عالية؛ لأن موائلها الحرجية قد أُزيلَت على نحوٍ شبه تام6.
وإضافةً إلى ذلك، يُسهم فقدان الغابات في تغيُّر المناخ. وهذا في حد ذاته قد يساعد في تناقل الفيروسات بين الإنسان والحيوان عن طريق إجبار حيواناتٍ، مثل الخفافيش، على الخروج من المناطق التي لم تعد مواتية للعيش فيها إلى المناطق الآهلة بالسكان7.
لكن الغابات يمكن حمايتها حتى في ظل زيادة الإنتاجية الزراعية، طالما توافر ما يكفي من الإرادة السياسية والموارد8. وقد ظهر هذا جليًا في الانخفاض الذي تَحقق بنسبة 70% في معدل إزالة الغابات في منطقة الأمازون خلال الفترة بين عامي 2004 و2012، ويُعزى ذلك في الأساس إلى تحسين نظم المراقبة، وإنفاذ القانون، وتقديم الحوافز المالية للمزارعين. (أخذ منحنى إزالة الغابات في الصعود عام 2013 جراء التغييرات التي أُدخلتْ على التشريعات البيئية، وشهد ارتفاعًا حادًا منذ عام 2019 خلال رئاسة جايير بولسونارو للبرازيل).
وثانيًا، يجب حظر الأسواق التجارية التي تُباع فيها الحيوانات البرية الحية، وكذلك تجارة الحيوانات البرية الحية، إذ تشكلان خطرًا على الصحة العامة، كما ينبغي فرض رقابةٍ صارمة على كلتيهما، وذلك على الصعيدين المحلي والدولي.
وهذا الإجراء سيكون متسقًا مع الدعوة التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، وغيرها من المنظمات، عام 2021 لبلدان العالم؛ كي تعلق مؤقتًا تجارة الثدييات البرية الحية، وتغلق الأقسام التي تبيع هذه الحيوانات في الأسواق. وقد بدأتْ عدة بلدانٍ بالفعل السيرَ في هذا الاتجاه. فقد فرضت الصين حظرًا على تجارة معظم الحيوانات البرية التي تعيش على اليابسة، كما حظرتْ استهلاكها؛ استجابةً لجائحة «كوفيد-19». وبالمثل، حظرتْ دولة الجابون بيع أنواع معينة من الثدييات كغذاء في الأسواق.
وهذه القيود المفروضة على الأسواق التجارية الحضرية، وتلك الموجودة في المناطق المحيطة بالمراكز الحضرية، يجب ألا تسفر عن التعدي على حقوق واحتياجات السكان الأصليين والمجتمعات المحلية، الذين يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على الأحياء البرية في أمنهم الغذائي، ومعايشهم، وممارساتهم الثقافية. وتُطبَّق بالفعل قواعد مختلفة للصيد وفقًا لاختلاف المجتمعات في العديد من البلدان، من بينها البرازيل، وكندا، والولايات المتحدة.
وثالثًا، يجب تحسين مستوى الأمن البيولوجي عند التعامل مع حيوانات المزارع. ومن بين التدابير الأخرى التي تُمكِّن من تحقيق ذلك، توفير مستوًى أفضل من الرعاية البيطرية، والمراقبة المشددة للأمراض التي تصيب الحيوانات، وإدخال تحسينات على طرق تغذية الحيوانات وإيوائها، وتطبيق الحجر الصحي للحد من انتشار مُسبِّبات الأمراض.
ويزيد الوضع الصحي المتردي بين حيوانات المزارع من مخاطر تعرُّضها للإصابة بمُسبِّبات الأمراض ونشرها. فمن الممكن أن يُصيب قرابة 80% من مُسبِّبات أمراض الماشية أنواعًا متعددةً من العوائل، من بينها الحيوانات البرية والإنسان9.
ورابعًا، يجب العمل على تحسين صحة البشر وأمنهم الاقتصادي، لا سيما في البؤر الساخنة لنشوء الأمراض المعدية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأشخاص الذين يعانون من وضعٍ صحي سيئ - مثل أولئك الذين يعانون من سوء التغذية أو عدوى فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) الخارجة عن السيطرة – هم أكثرُ عُرضة للإصابة بمُسبِّبات الأمراض حيوانية المنشأ. كما يُمكِن أن تتحور مُسبِّبات الأمراض، لا سيما لدى الأفراد منقوصي المناعة، قبل أن تنتقل إلى الآخرين10.
ويُضاف إلى ذلك أن بعض المجتمعات المحلية، وبالأخص تلك الموجودة في المناطق الريفية، تستخدم الموارد الطبيعية لإنتاج سلعٍ أساسية أو تحقيق دخلٍ بطريقة تجعلها على احتكاكٍ بالأحياء البرية أو المنتجات الثانوية للحياة البرية. ففي دولة بنجلاديش، مثلًا، غالبًا ما تُجمَع عُصارة نخيل التمر، التي تُستَهلَك كمشروب بأشكالٍ مختلفة، في أوانٍ متصلة بأشجار النخيل، ومن ثم فإنها تكون عُرضةً للتلوث بالمواد الجسدية الخاصة بالخفافيش. وقد ربط تحقيقٌ أُجري عام 2016 بين هذه الممارسة وحدوث 14 إصابة بشرية بفيروس «نيباه»، ما أسفر عن وفاة 8 حالات11.
من الأهمية بمكانٍ تثقيف المجتمعات وتزويدها بالأدوات اللازمة لخفض مخاطر تعرُّضها للضرر. ويمكن أن تكون هذه الأدوات شيئًا بسيطًا، مثل أغطية الأواني لمنع تلوث عُصارة نخيل التمر في بنجلاديش، على سبيل المثال.
وفي حقيقة الأمر، يُمكِن أن يستفيد كلٌ من البشر والبيئة من توفير الفرص التثقيفية، إلى جانب خدمات الرعاية الصحية والتدريب على المهارات المعيشية البديلة، مثل الزراعة العضوية. فمثلًا، استثمرت «هيلث إن هارموني» Health in Harmony - وهي منظمة غير حكومية يقع مقرها في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية - في التدخلات التي صممها المجتمع المحلي في جزيرة بورنيو الإندونيسية. وقد أسهمتْ هذه التدخلات، خلال الفترة ما بين عامي 2007 و2017، في تقليل عدد الأُسر التي كانت تعتمد على القطع غير القانوني للأشجار في كسب أقواتها بشكلٍ أساسي وذلك بنسبة 90%. وهذا بدوره أدى إلى تقليل الفاقد من الغابات المطيرة المحلية بنسبة 70%. كذلك شهد معدل وفيات الأطفال انخفاضًا نسبته 67% في مناطق أحواض تجميع المياه التابعة للبرنامج12.
إذن يجب فهم هذا النوع من التدخلات المتمحورة حول الأنظمة على نحوٍ أفضل، كما يجب توسعة نطاق التدخلات الأكثر فاعلية.
الاستثمار بحكمة
هذه الاستراتيجيات التي تهدف إلى الحيلولة دون تسلل مُسبِّبات الأمراض من الحيوان إلى الإنسان من شأنها التقليل من اعتمادنا على تدابير الاحتواء، مثل رصد الأمراض البشرية، وتتبُّع المخالطين، وعمليات الإغلاق، واللقاحات، والعلاجات. فصحيحٌ أن هذه التدخلات ضرورية، لكنها غالبًا ما تكون باهظة التكلفة وتُنفَّذ بعد فوات الأوان؛ باختصار يمكن القول إنها تكون غير كافية إذا استعنَّا بها وحدها للتعامل مع الأمراض المعدية الناشئة.
لقد كشفتْ جائحة «كوفيد-19» عن جوانب القصور في هذه الإجراءات التفاعلية على أرض الواقع، لا سيما في عصر تنتشر فيه المعلومات المضللة وتتصاعد الشعبوية. فمثلًا، أنفقت الحكومة الفيدرالية الأمريكية ما يزيد على 3.7 تريليون دولار أمريكي من أجل التصدي للجائحة حتى نهاية مارس الماضي، ورغم ذلك لقي قرابة مليون شخص في الولايات المتحدة — أو نحو 1 من كل 330 — حتفه جراء الإصابة بمرض «كوفيد-19» (انظر: go.nature.com/39jtdfh وgo.nature.com/38urqvc). وعلى الصعيد العالمي، تشير التقديرات إلى وفاة ما بين 15 مليون و21 مليون شخص خلال جائحة «كوفيد-19»، بما يتجاوز ما يمكن توقعه في ظروفٍ غير وبائية (ما يُعرَف باسم الوفيات الإضافية؛ انظر:Nature https://doi.org/htd6; 2022). ويشير نموذجٌ إحصائي نُشر عام 2021 إلى أنه بحلول عام 2025، سيكون قد أُنفق 157 مليار دولار أمريكي على لقاحات «كوفيد-19» وحدها (انظر: go.nature.com/3jqds76).
كما أن الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان تحمي الأشخاص والحيوانات المُستأنسة والحيوانات البرية في الأماكن الأقل قدرة على تحمُّل الضرر؛ وهو ما يجعل الأمر أكثر إنصافًا إذا ما قُورن بتدابير الاحتواء. فعلى سبيل المثال، مضى قرابة 18 شهرًا على توفُّر لقاحات «كوفيد-19» لعموم الناس لأول مرة، وقد تلقى 21% فقط من إجمالي سكان قارة إفريقيا جرعةً واحدة على الأقل. أما في الولايات المتحدة وكندا، فتقترب النسبة من 80% (انظر: go.nature.com/3vrdpfo). وفي الوقت نفسه، ارتفع إجمالي مبيعات شركة «فايزر» Pfizer من العقاقير من 43 مليار دولار أمريكي في عام 2020 إلى 72 مليار دولار أمريكي في عام 2021، ويرجع ذلك بشكلٍ رئيس إلى لقاح «كوفيد-19» الذي أنتجته الشركة، وهو العقار الأكثر مبيعًا في عام 2021 (المرجع 1313).
وأخيرًا، على النقيض من تدابير الاحتواء، تلعب إجراءات الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض دورًا مهمًا في وقف العدوى المرتدة التي تنتقل فيها مُسبِّباتُ الأمراض حيوانيةُ المنشأ من الإنسان - بعد إصابته - بها إلى الحيوان، ثم تنتقل مجددًا إلى الإنسان. يُمكِن أن تختلف الضغوط الانتقائية باختلاف الأنواع، وهذا من شأنه أن يجعل هذه القفزات مصدرًا محتملًا لمتحوِّرات جديدة تمتلك القدرة على الإفلات من الجهاز المناعي بمستوى كفاءته الحالي. وأشار بعض الباحثين إلى أن العدوى الارتدادية ربما كانت السبب في ظهور «أوميكرون»، أحد مُتحوِّرات فيروس «سارس-كوف-2» (انظر: Nature 602، 26-28؛ 2022)
اغتنام اليوم الحالي
على مدار العام الماضي، أصدرتْ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وهيئتان دوليتان (إحداهما أنشأتها منظمة الصحة العالمية عام 2020، والأخرى أنشأتها مجموعة العشرين عام 2021) توجيهاتٍ إرشادية حول الكيفية التي يمكن بها تحسين نُهُج التعامل مع الجوائح. وتقر جميع التوصيات التي صدرتْ حتى الآن بأن أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض هي المُسبّب الأكثر شيوعًا للأمراض المعدية الناشئة. ولم تجرِ مناقشة الكيفية التي يمكن بها التخفيف من حدة هذه المخاطر على النحو الملائم. وبالمثل، فإن إجراء بحث عن البروتين الشوكي لفيروس «سارس-كوف-2» على محرك البحث «بَبْ مِد» PubMed يسفر عن آلاف الأوراق البحثية، لكن لا يوجد سوى عدد محدود من الدراسات الذي يتقصى ديناميات فيروس كورونا لدى الخفافيش، التي يُرجَّح أن يكون فيروس «سارس-كوف-2» قد نشأ منها14.
ومن المحتمل أن يتجاهل الباحثون مسألة الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان لأسبابٍ عدة. فمثلًا، قد يُهمل باحثو الطب الحيوي والجهات المموِّلة لهم المصادرَ الحيوانية والبيئية الأساسية لمُسبِّبات الأمراض؛ لأنها جزءٌ من أنظمة معقدة؛ فتناولها بالبحث والدراسة لا يُسفِر في أغلب الأحيان عن نتائج ملموسة ومُربِحة. وإضافةً إلى ذلك، لا يتلقى أغلب العاملين في مجال الصحة العامة والعلوم الطبية الحيوية سوى قدرٍ محدودٍ من التدريب في علم الإيكولوجيا، وبيولوجيا الأحياء البرية، وعلم الحفظ البيئي، والأنثروبولوجيا.
ويتزايد الاعتراف بأهمية التعاون على مستوى القطاعات المختلفة، ويتجلى هذا في التأييد المتزايد لنهج "صحة واحدة" One Health الذي يعبر عن رؤيةٍ متكاملة للصحة، تقر بالروابط بين البيئة والحيوان والإنسان. لكن على وجه العموم، يمكن القول إن هذا لم يُترجَم بعد إلى إجراءاتٍ للوقاية من الجوائح.
ثمة تحدٍ آخر وهو أن إدراك فوائد الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان قد يستغرق عقودًا، في حين تستغرق تدابير الاحتواء أسابيعَ أو شهورًا فحسب. ربما يصعب القياس الكمي لفوائد كبح تناقل مُسبِّبات الأمراض بصرف النظر عن مقدار الوقت المنقضي، لأنه إذا نجحت تدابير كبحها، فلن تحدث أي نوبة تفشٍ. كما تتعارض الوقاية مع ركون الأفراد والمجتمع والساسة إلى انتظار وقوع الكارثة قبل التحرك.
يوفر كلٌ من الصندوق العالمي لمكافحة الأوبئة، واتفاقية جمعية الصحة العالمية لمكافحة الأوبئة، وإطار العمل العالمي للتنوع البيولوجي لما بعد عام 2020 فرصًا جديدة لتغيير التفكير بهذه العقلية، ولتفعيل جهدٍ عالمي مُنسَّق بهدف الحد من مخاطر أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان، وذلك بالتزامن مع جهود التأهب الأساسية لمواجهة الجائحة.
صندوق عالمي لمكافحة الأوبئة
أولًا وقبل كل شيء، سيُشكِّل وجود صندوق عالمي لمكافحة الأوبئة عاملًا رئيسيًا للتأكد من أن الكم الوفير من الأدلة المتعلقة بالحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان تُترجم إلى عمل. ويجب عدم دمج تمويل سبل كبح تناقل مُسبِّبات الأمراض في صناديق تمويل الحفظ البيئي القائمة، كما ينبغي عدم الاعتماد على أي قنواتٍ تمويلية أخرى حالية.
يجب توجيه الاستثمارات لتلك المناطق والممارسات التي تتعاظم فيها مخاطر وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض، بدءًا من جنوب شرق آسيا، ومرورًا بوسط إفريقيا، ووصولًا إلى حوض الأمازون وما وراءه. كما أن الإجراءات التي تُتخذ للحيلولة دون وقوع هذه الأحداث في تلك المناطق - لا سيما عن طريق الحد من إزالة الغابات - من شأنها أن تُسهم في التخفيف من حدة تغيُّر المناخ، وأيضًا في خفض معدلات فقدان التنوع البيولوجي. لكن الحفظ البيئي ذاته يعاني نقصًا حادًا في التمويل. وكمثال على ذلك، تمثل الحلول الطبيعية (مثل الحفظ البيئي، وترميم النظم الإيكولوجية المتدهورة، والإدارة المُحسَّنة للغابات والأراضي الرطبة والأراضي العشبية) أكثرَ من ثُلث التخفيف اللازم من حدة تغيُّر المناخ بحلول عام 2030، في سبيل جعل الاحترار مستقرًا عند مستوى يقل عن درجتين مئويتين (المرجع 15)15. لكن هذه النُهُج تتلقى أقل من 2% من الأموال العالمية المُخَصصة للتخفيف من حدة تغيُّر المناخ. (تجدر الإشارة إلى أن أنظمة الطاقة تحظى بأكثر من نصف هذه الأموال).
وخلاصة القول، يجب على صانعي القرار، الذين يدعمون الصندوق العالمي لمكافحة الأوبئة، ألا يفترضوا أن الصناديق القائمة تتصدى لخطر وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان، فهذه ليست الحقيقة، إذ كان معدل فقدان الغابات الاستوائية الرئيسية أعلى بنسبة 12% في عام 2020، مقارنةً بعام 2019، على الرغم من الانكماش الاقتصادي الذي حدث جراء جائحة «كوفيد-19». وهذا يؤكد استمرارية التهديد الذي تواجهه الغابات.
يجب أن يتواصل التمويل لعقود من الزمن من أجل التأكد من بذل الجهود الضرورية للحد من مخاطر وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض لفترة طويلة بالقدر الذي يكفي للحصول على النتائج المرجوة.
اتفاقية جمعية الصحة العالمية لمكافحة الجوائح
في عام 2020، دعا تشارلز ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، إلى التوصل لمعاهدةٍ من أجل تمكين استجابة عالمية أكثر تنسيقًا للأوبئة والجوائح الكبرى. وفي العام الماضي، بدأ أكثر من 20 من زعماء العالم في ترديد هذه الدعوة، وأطلقتْ جمعية الصحة العالمية المفاوضات بشأن اتفاقية (ربما تكون معاهدة أو صكًّا دوليًّا آخر) بهدف "تعزيز سُبُل الوقاية، والتأهب، والاستجابة للجوائح" في نهاية عام 2021.
وهذه الاتفاقية متعددة الأطراف، من شأنها أن تُسهم في ضمان تحركٍ دولي أكثر إنصافًا فيما يتعلق بنقل المعرفة العلمية، والإمدادات الطبية، واللقاحات، والعلاجات. كما قد تتصدي لبعض القيود المفروضة على منظمة الصحة العالمية في الوقت الحالي، وتحدد بمزيدٍ من الوضوح الظروفَ التي تُوجِب على الحكومات إخطار الآخرين بوجود تهديدٍ مرضي محتمل؛ فقد كشفتْ جائحة «كوفيد-19» عن جوانب القصور في اللوائح الصحية الدولية في العديد من هذه الجبهات17. (هذا الإطار القانوني يُحدد حقوق البلدان والتزاماتها في تعاملها مع أحداث الصحة العامة وحالات الطوارئ التي يمكن أن تكون عابرة للحدود).
من جانبنا نحث الأطراف المشاركة في التفاوض على التأكد من إعطاء الأولوية للإجراءات الأربعة المذكورة هنا والمتعلقة بالحيلولة دون وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان، في اتفاقية جمعية الصحة العالمية لمكافحة الجوائح. وقد يتطلب الأمر من البلدان، مثلًا، وضع خطط عمل قومية للتعامل مع الجوائح، من بينها الحد من إزالة الغابات، وإغلاق أسواق الحيوانات البرية الحية، أو تشديد الرقابة عليها. كما يجب وضع آلية للإبلاغ وإعداد التقارير من أجل تقييم التقدم المُحرَز في تنفيذ الاتفاقية. وقد يعتمد هذا على الخبرة التي اكتُسبتْ من المخططات القائمة، مثل عملية التقييم الخارجي المشترك التابعة لمنظمة الصحة العالمية (والتي تُستخدم في تقييم قدرات البلدان المختلفة في التعامل مع المخاطر التي تتهدد الصحة العامة)، ونظام التحقق الخاص بمعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية.
كما يجب أن تُفرِد اتفاقية جمعية الصحة العالمية حيزًا للالتزامات الخاصة بتوسيع نطاق رصد مُسبِّبات الأمراض في الأماكن التي تحدث فيها مخالطة بين الإنسان والحيوانات الأليفة والحيوانات البرية، بدءًا من مزارع المنك الأمريكية، ومرورًا بالأسواق الرطبة الآسيوية، ووصولًا إلى مناطق إزالة الغابات بكثافة في أمريكا الجنوبية. صحيح أن عمليات الرصد هذه لن تحول دون وقوع أحداث تناقل مُسبِّبات الأمراض، لكنها قد تُتيح إمكانية الاكتشاف المبكر لنوبات تفشي الأمراض حيوانية المنشأ والسيطرة عليها بشكلٍ أفضل، وقد تُوفر فهمًا أفضل للظروف المُسبِّبة لها. ومن الممكن تحسين عمليات رصد الأمراض ببساطة من خلال الاستثمار في الرعاية الإكلينيكية لكل من الإنسان والحيوان، في البؤر الساخنة للأمراض المعدية الناشئة.
اتفاقية التنوع البيولوجي
نحن نعيش في خضم الانقراض الجماعي السادس، والأنشطة التي تلعب دورًا في فقدان التنوع البيولوجي - مثل إزالة الغابات - تساهم كذلك في ظهور الأمراض المعدية. وفي الوقت ذاته، يمكن أن تؤدي الأوبئة والجوائح الناجمة عن سوء استغلال الطبيعة إلى مزيدٍ من الانتكاسات في مجال الحفظ، وذلك بسبب الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الخسارة التي يتكبدها قطاع السياحة، ونقص طواقم العمل، الأمر الذي يؤثر بدوره على إدارة المناطق المحمية، وذلك من بين عوامل أخرى18. كما يمكن أن تنتقل مُسبِّبات الأمراض بشرية المنشأ إلى حيواناتٍ أخرى وتقضي على تلك المجموعات. فيُعتَقَد مثلًا أن تفشي فيروس «إيبولا» في جمهورية الكونغو في الفترة ما بين عامي 2002 و2003 أودى بحياة 5000 غوريلا19.
لكن إطار التنوع البيولوجي العالمي، الذي يجري التفاوض بشأنه حاليًا في ظل اتفاقية التنوع البيولوجي، لا يتصدى بوضوحٍ لحلقة التغذية الراجعة السلبية التي تصل بين التدهور البيئي، استغلال الحياة البرية، وظهور مُسبِّبات الأمراض. ولم تأتِ المسوَّدة الأولى للاتفاقية على ذكر الجوائح. وفي شهر مارس قُدم مقترحٌ بإدراج نصٍ يتمحور حول الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان، لكن لم تتوصل الأطراف إلى اتفاقٍ بشأنه بعد.
ونقولها مُجَددًا، إن هذا الإغفال يُعزى في الأساس إلى عزل التخصصات العلمية والخبرات. فمثلما نجد أن أغلب أهل الثقة من المتخصصين الذين يُعوَّل عليهم في اتفاقية جمعية الصحة العالمية لمكافحة الجوائح، هم من العاملين في قطاع الصحة، نجد أن أغلب الذين يزوِّدون اتفاقية التنوع البيولوجي بالمعلومات اللازمة هم في الغالب اختصاصيون في علوم البيئة والحفاظ عليها.
إذن من بين ركائز إطار عمل التنوع البيولوجي العالمي، المزمع الاتفاق عليه في مؤتمر الأطراف في وقتٍ لاحق من العام الجاري، أن يعكس بقوةٍ العلاقة بين البيئة والصحة. وهذا معناه أن يتضمن أيُّ نص يتعلق باستغلال الحياة البرية وإسهامات الطبيعة في حياة الناس قضيةَ الحيلولة دون تناقل مُسبِّبات الأمراض بين الإنسان والحيوان، وذلك بشكلٍ صريح. ويؤدي الإخفاق في ربط هذه الجوانب ببعضها إلى إضعاف قدرة الاتفاقية على تحقيق أهدافها المتمحورة حول حفظ الموارد والاستخدام المُستدام لها.
الرعاية الصحية الوقائية
يجب ألا تكون الاستجابة التفاعلية تجاه الكارثة هي القاعدة. فالعديد من البلدان تتبنى نهج الرعاية الصحية الوقائية للأمراض المزمنة على نطاقٍ واسع؛ نظرًا لفوائده الصحية والاقتصادية الجلية. فمثلًا، يمكن تجنب العشرات من حالات الوفاة الناجمة عن الإصابة بسرطان القولون والمستقيم لكل 1000 شخص يخضعون للفحص، وذلك باستخدام عمليات تنظير القولون أو الطرق الأخرى20. ولا ينتقص النهج الوقائي من أهمية علاج الأمراض عند حدوثها.
يتعين على زعماء بلدان العالم تبني طريقة التفكير هذه بشكلٍ عاجل فيما يخص التعامل مع الجوائح، في ظل كل العوامل الضاغطة التي تُلحق ضررًا بالمحيط الحيوي، وما يستتبع ذلك من تأثيراتٍ سلبية على صحة الإنسان.
اضف تعليق