كيف نعرف أننا مرضى؟ ربما انتابتنا قشعريرة، أو أصابتنا حمى، أو شعرنا بألم أو تعب، أو فقدنا شهيتنا للطعام، وربما لَمَسنا في أنفسنا نفورًا من الأشخاص الذين نحبهم، والأنشطة التي نستمتع بها في العادة. يُطلَق على هذه الاستجابات الفسيولوجية بمختلف أنواعها: السلوكيات المرضيّة...
بقلم: أميرة إيمان هيكس، وماشا بريجر-كاوتورسكي
كيف نعرف أننا مرضى؟ ربما انتابتنا قشعريرة، أو أصابتنا حمى، أو شعرنا بألم أو تعب، أو فقدنا شهيتنا للطعام، وربما لَمَسنا في أنفسنا نفورًا من الأشخاص الذين نحبهم، والأنشطة التي نستمتع بها في العادة. يُطلَق على هذه الاستجابات الفسيولوجية بمختلف أنواعها: السلوكيات المرضيّة. وهذه السلوكيات، رغم كونها مزعجة، ضرورية لإعادة تنظيم وظائف الجسم، ومساعدته على التأقلم مع المرض، وترتيب الأولويات أثناء مواجهة العدوى. وفي هذا السياق، يكون الدماغ هو المُحرّك الأساسي، الموجِّه السلوكيات المرضية. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: كيف يعرف الدماغ إن كانت هناك عدوى من الأصل؟ في بحثٍ منشور، يصف أنوج إلانجاس وزملاؤه مجموعةً متخصصةً من الخلايا العصبية الموجودة في الدماغ، تنظِّمُ السلوكيات المرضيّة في الفئران.
استخدم الباحثون في تجاربهم نموذجًا حيوانيًا مُحكمًا، يحاكون به عملية الإصابة بالعدوى، إذ حقنوا الفئران بجزيءٍ عديد سكاريد دهني (اختصارًا: LPS)، يوجد في البكتيريا، ويُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ لمحاكاة العدوى البكتيرية.
ورغم أنّ المعالجة بعديد السكاريد الدهني لا تُحيط بكافة جوانب العدوى البكتيرية، فإنها تتيح درجة جيّدة من التحكم في حالة المرض التي ستصل إليها الحيوانات، كما أنها تقلّل من درجة التباين في المحاكاة بين أنواع الحيوانات المختلفة.
وإضافةً إلى ذلك، فالعلاج بتلك الطريقة يُمكِّن الباحثين من تمييز الاستجابات التي يبديها المضيف عن الأضرار الثانوية التي يمكن أن تسببها البكتيريا على أنسجته وأعضائه. ومع وضع ذلك كله في الاعتبار، حقن الباحثون الفئران بجرعاتٍ محددة من عديد السكاريد الدهني، أدّتْ إلى انخفاض في شهية الفئران للطعام والشراب، وتوقفها في الحركة، وانخفاضٍ في درجة حرارتها الداخلية.
بعد ذلك، حلّلَ إلانجاس وفريقه إنتاج الجسم من بروتينٍ يُطلق عليه FOS، وهو أحد مؤشرات الخلايا المُنشَّطة في أدمغة الحيوانات، وذلك بعد أن حقنوها بعديد السكاريد الدهني.
وقد رصد الباحثون زيادة سريعة في النشاط العصبي في العديد من مناطق الدماغ، بما في ذلك منطقتان في جذع المخ، هما: نواة السبيل المُفْرَد (اختصارًا: NTS) ومنطقةٌ مجاورةٌ يُطلق عليها الباحة المنخفضة (اختصارًا: AP). ولتحديد المجموعة المتمايزة من الخلايا العصبية التي تلعب دور الوسيط في هذه السلوكيات المرضيّة، وضع المؤلفون تسلسلًا للحمض النووي الريبي على مستوى النواة المفردة للخلايا العصبية التي تعرضتْ للتنشيط في منطقتي نواة السبيل المُفْرَد والباحة المنخفضة، وذلك عقب حقن الحيوانات بعديد السكاريد الدهني.
وعن طريق عملية تعيين التسلسل هذه، أُتيح للباحثين وضع أنماطٍ للتعبير الجيني داخل الخلايا العصبية التي نَشّطها عديد السكاريد الدهني، ثم عمدوا إلى مقارنتها بالأنماط المرصودة في الخلايا العصبية أثناء الظروف القياسية، أي دون وجود عديد السكاريد الدهني. وقد كشفتْ تلك المقارنة عن ثماني مجموعات من الخلايا العصبية يُنشّطها عديد السكاريد الدهني.
وعلاوة على ذلك، كشفَت المعالجةُ الانتقائية لهذه المجموعة من الخلايا العصبية عن دورٍ رئيسٍ لإحداها، وهي خلايا عصبية تتميز بقدرتها على التعبير عن جزيء ببتيدٍ عصبي يُطلق عليه: Adcyap1، وتلعب دور الوسيط للسلوكيات المرضيّة.
وقد أدّى تثبيط الخلايا العصبية التي تُعبّر عن الجزء Adcyap1 إلى تقليلِ أعراض المرض وحماية الفئران المحقونة بعديد السكاريد الدهني من حالة التوقف عن الأكل والشرب والحركة. وعلى النقيض من ذلك، أدى التنشيط الموجَّهُ لهذه المجموعة من الخلايا العصبية إلى إحداث سلوكياتٍ مرضيةٍ في الفئران السليمة التي لم تتعرض للعدوى أو لعديد السكاريد الدهني، ما يعني أن الخلايا العصبية التي تُعبّر عن الجزيء Adcyap1 هي المسؤولة عن توجيه السلوكيات المرضيّة.
ومن المثير للاهتمام أنّه على الرغم من أن عملية تثبيط الخلايا العصبية المُعبّرة عن الجزيء Adcyap1 قد خفضتْ حدّة بعض جوانب السلوك المرضي، فإنها لم تؤثر على درجة حرارة الجسم الداخليّة. وهنا يظهر سؤال آخر: هل تُسهم خلايا عصبية أخرى في هذا التأثير؟ حدّدَ إلانجاس ورفاقه العديدَ من مناطق الدماغ الأخرى التي نشطتْ استجابةً للحَقن بعديد السكاريد الدهني، ومن أبرزها الباحَةُ أَمامَ البَصَريَّة، التي تلعب دورًا أساسيًا في تنظيم درجة حرارة الجسم، وتقع في منطقة تحت المهاد بالدماغ.
النتيجة التي توصل إليها الباحثون تتفق مع نتائج دراسة أخرى، كانت جيسيكا أوسترهاوت وزملاؤها قد نشروها في دورية Nature.
وجدَتْ الدراسة الأخيرة أن مجموعة من الخلايا الموجودة في منطقة تحت المهاد – تحديدًا، في العضو الوعائي للصفيحة الانتهائية (اختصارًا: OVLT) وفي الباحة أمام البصرية البطنية الأُنسيّة (اختصارًا: VMPO) المحيطة به – تلعب دورًا محوريًا في تنظيم درجة حرارة الجسم، وفي سلوكيات طلب الدفء، وفقدان الشهيّة ونقص الحركة، التي تطرأ على الجسم استجابةً لحقنه بعديد السكاريد الدهني.
ويرى الباحثون أن من المحتمل أن يكون لهاتين المنطقتين من الدماغ: الباحة المنخفضة ونواة السبيل المُفْرَد في جذع الدماغ، والعضو الوعائي للصفيحة الانتهائية والباحة أمام البصرية البطنية الأُنسيّة في الوطاء؛ أدوارٌ متكاملة، أو متداخلة، في عملية التحكم في السلوكيات المرضيّة (الشكل 1)؛ إذ تُوجّه أولى هاتين المنطلقتين سلوكَ التوقف عن الحركة، أما الأخرى فتغيّر من درجة حرارة الجسم، بينما تتحكم المنطقتان معًا في سلوك فقدان الشهيّة.
والمثير في الأمر هو أنّ الباحة المنخفضة والعضوَ الوعائي للصفيحة الانتهائية تشكِّلان إحدى مناطق الدماغ القليلة التي تفتقر إلى بنية الحماية المعروفة بالحاجز الدماغي الدموي، الذي يمنع المواد الضارة وغير المرغوب فيها من الدخول إلى الدماغ عبر الجسم. وهكذا فإن الإشارات التي تنتجها العوامل الممرِضة في الجسم، مثل البكتيريا، بإمكانها الدخول إلى منطقة الباحة المنخفضة والعضو الوعائي للصفيحة الانتهائية، ومن ثم التفاعل مع الخلايا العصبية الموجودة فيها، ما يؤدي إلى تحفيز إشاراتٍ مناعيةً في الدماغ وحثّ استجابة مناعية يلعب فيها الدماغ دور الوسيط.
ويؤكد الباحثون أن الباحة المنخفضة والعضو الوعائي للصفيحة الانتهائية يلعبان دورين متداخلين في تنظيم النوم واستهلاك الطعام والشراب والوظيفة القلبية الوعائية ودرجة حرارة الجسم. وإضافةً إلى ذلك، تُحفّز الباحة المنخفضة شعور الغثيان، وتقلّل من استهلاك الطعام، أمّا العضو الوعائي للصفيحة الانتهائية فيتحكم في العطش وحرارة الجسم والحُمّى. ونتيجةً لذلك كله، لن يكون من المفاجئ أن نعرف أن منطقتي الدماغ هاتين تلعبان دورًا في تلك العمليات.
نأتي هنا على سؤال جديد: كيف يمكن للعدوى أن تُنشِّطَ خلايا عصبية متخصصةً. يعتقد إلانجاس وزملاؤه أنّ جزيئاتِ المناعةِ المحيطيةَ التي تُنْتَج في الجسم وقت اكتشاف الجهاز المناعي لوجود عاملٍ ممرض ربما تُنشِّط الخلايا العصبية المٌعبّرة عن الجزيء Adcyap1. وقد تَعْبُر هذه الجزيئات من الحاجز الدموي الدماغي غير الكامل، أو تنشط الأعصاب الحائرة الطرفية أو الشوكية، التي تنقل المعلومات إلى نواة السبيل المُفْرَد والباحة المنخفضة. وقد برهنَتْ أوسترهاوت وفريقها على أنّ الخلايا العصبية في الباحة أمام البصرية البطنية الأُنسيّة تُعَبِّر عن بروتيناتٍ مُسْتَقْبِلات للجزيئات، تُنتَج استجابةً لأحد العوامل المُمْرِضة. وقد وجد الباحثون كذلك أن الإشارات المناعية التي تُنتَجُ بسبب العدوى تعبر الحاجز الدموي الدماغي، وتؤدي إلى إنتاجٍ موضعي لجزيئات أخرى، تُسَهِّل تنشيطَ الخلايا العصبية في الباحة أمام البصرية البطنية الأُنسيّة والعضو الوعائي للصفيحة الانتهائية. وتُحَفِّز الخلايا العصبيةُ التي تعرضتْ لعملية التنشيط تلك مراكزَ الدماغ التي تليها، وتتصل بها عن طريق الدورة الدموية، وذلك لتنظيم الاستجابات الفسيولوجية والمرضيّة لعملية العدوى.
الخطوة القادمة سوف تتمثل في إجراء مزيد من البحث في مناطق الدماغ التالية، التي يحفّزها تنشيط الخلايا العصبية المُعبّرة عن الجزيء Adcyap1 في منطقتَي نواة السبيل المُفْرَد والباحة المنخفضة، وكيف تلعب هذه المناطق دور الوسيط في الاستجاباتِ الفسيولوجية التي تمنح السلوكيات المرضيّة شكلها المُميّز. وإضافةً إلى ذلك المسعى، فهناك سؤال مفتوح ينتظر الإجابة: كيف يمكن التحكم في مدة الاستجابة للمرض، وهل هذه الشبكات العصبية نفسها هي التي تلعب دور الوسيط في حدوث الأعراض المزمنة، التي تمتد لفترات طويلة من الزمن، في حالات العدوى الفيروسية مثل «كوفيد» طويل الأمد؟
اضف تعليق