في عام 2020، بينما كانت الأنظار مُسلَّطة على تطورات جائحة «كوفيد-19»، كان داء الدرن آخذًا في التفشِّي، إذ أصاب نحو عشرة ملايين شخص، على مستوى العالم، وقتل منهم مليونًا ونصف المليون؛ ليصبح ذلك العام هو الأول الذي ترتفع فيه أعداد الوفيات جراء الإصابة بهذا المرض منذ عام 2005...
بقلم: هيدي ليدفورد
في عام 2020، بينما كانت الأنظار مُسلَّطة على تطورات جائحة «كوفيد-19»، كان داء الدرن آخذًا في التفشِّي، إذ أصاب نحو عشرة ملايين شخص، على مستوى العالم، وقتل منهم مليونًا ونصف المليون؛ ليصبح ذلك العام هو الأول الذي ترتفع فيه أعداد الوفيات جراء الإصابة بهذا المرض منذ عام 2005، وهي زيادة ربما تُعزَى إلى تأثير جائحة «كوفيد-19» على خدمات الفحص والعلاج.
وفيما تنتظر بلدان العالم الثرية، على أحر من جمر، عودة الحياة لطبيعتها قبل اندلاع الجائحة، نجد أن ذاك النمط «المعتاد» كانت تغشاه رائحة الموت بالفعل قبل عام 2020، حسبما تُذكرنا فيديا كريشنان، مراسلة الصحة العالمية، في كتابها «الوباء الشبح» The Phantom Plague. فعلى أرض الواقع، نجد أن «كوفيد-19» ليس الوحيد من بين الأمراض المعدية التي تصيب الجهاز التنفسي، وتتحيّن الفرصة لمهاجمتنا، فشبح داء الدرن المقاوِم للعقاقير لا يزال يخيم على العالم بأسره. وعلى غرار ما شهدناه في جائحة فيروس كورونا، نلاحظ أن الأشخاص الأقل حظًا من رأس المال – الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي – هم من يتحملون القسط الأكبر من وطأة المرض. وهذا ما تصفه كريشنان بقولها: "الفقر هو المرض الحقيقي، والدرن ليس إلا عرضًا من أعراضه".
ما يُميز هذا الكتاب أنه يسلط الضوء على العوامل التي تجعل البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط في حاجة مُلحّة للدواء، وتبقيها رهينةً لبكتيريا المُتطِّفرة السُلية (عُصيّة كوخ) Mycobacterium tuberculosis، المُسببة لداء الدرن. غير أن الكاتبة تأخذ القاريء أولًا في رحلة بحثية، يتعرف خلالها على تاريخ بعض الأمراض المُعدية المألوفة، وإن كان بعضها غير ذي صلة وثيقة بالدرن، وفي الأثناء، يطُوف القارئ بمجموعة من الحكايات المثيرة، فنعرف أن دراكولا كان مهاجرًا، أصاب جسده مرضٌ، فانتقل منه ملوِّثًا دماء سكان لندن؛ وأن آرثر كونان دويل ربما يكون أحد أوائل الأشخاص الذين رأوا طيف مقاوَمة العقاقير لداء الدرن، أثناء إجرائه بحثًا لمقال يكتبه في جريدة من جرائد تلك الفترة.
لكنَّ الفائدة المحققة للقاريء، إذا ما تجاوز الفصول الأولى للكتاب، تستحق الانتظار؛ إذ تقفز كريشنان قفزةً عبر الزمن، وصولًا إلى السنوات الأخيرة، وتُولي تركيزًا كبيرًا للهند، بوصفها موطن عدد كبير من المصابين بداء الدرن المقاوِم للعقاقير على مستوى العالم. وتُصوِّر كريشنان، بأسلوب شائقٍ ومثير، قتامة المشهد في عشوائيات مومباي الفقيرة، وهوائها الملوَّث. في ذلك المكان، ترتفع المباني إلى سبعة طوابق، لا يفصلها عن بعضها إلا ثلاثة أمتار، ما يجعلها أقرب إلى بعضها (أو، إن شئتَ، ألصَقَ ببعضها) مما تنصُّ عليه قوانين الإسكان المعمول بها في مناطق بعيدة عن تلك المساكن العامة العشوائية.
تُشكل هذه المباني مرتعًا خصبًا لمرض الدرن؛ ففي كثير من الأحيان، يُضطر الأشخاص المصابون بهذا الداء، في مومباي أو أنحاء أخرى من الهند، للانتظار بضعة أشهر، قبل أن يحصلوا على تشخيص سليم للمرض. وفي أثناء الانتظار، يُعطَى المرضى خليطًا عشوائيًا من المضادات الحيوية، التي لا تُجدي نفعًا في بعض الأحيان، بل إن بعضها قد تترتب عليها آثار جانبية سامة، فضلًا عن أنها تعزز إمكانية مقاومة المرض للعقاقير.
وسط هذه الظروف الصعبة، تصل معدلات الإصابة بمرض الدرن إلى أقصى مدًى لها، فتستحيل خطرًا محدقًا يهدد حياة الفتيات، وتقف المضادات الحيوية القديمة المتوافرة في الهند، مثل «كاناميسين» Kanamycin، عاجزةً عن منعه من تدمير أجسادهن، بل ويسبب هذا العقار فقدان حاسة السمع في بعض الأحيان. إلى جانب ذلك، ترتفع تكلفة المضادات الحيوية الفعّالة في علاج داء الدرن المقاوِم للعقاقير في الهند، وتتوافر بكميات محدودة. زد على ذلك أنها كانت خاضعةً، حتى عام 2019، لعملية تقنين صارمة، جعلت صرفها مقتصرًا على أشخاص مصابين ممن يعانون شكلًا مُحددًا من المرض، ويعيشون بالقرب من أحد المستشفيات المتخصصة، قليلة العدد أصلًا.
توجه كريشنان انتقادات لاذعةً إلى السلطات الهندية على خلفية سياسات تقنين صرف العقاقير الجديدة لعلاج الدرن، مثل «بيداكويلين»Bedaquiline، وتسُوق الحجج المؤيِّدة لرأيها، من خلال عرض قصص مؤلمة لحالات واقعية. غير أن تسلسل أحداث الكتاب، في هذا الجزء، يعتريه بعض التشوُّش والتفكُّك. فعلى سبيل المثال، تتحدث الكاتبة عن تقنين صرف دواء «بيداكويلين»، وتدين ذلك في ثنايا الكتاب، بنبرة غاضبة مرتبكة، في حديثها عن أن صرف العقار كان مقصورًا، لفترة من الزمن، على المرضى الذين يعيشون على مقربةٍ من مستشفيات بعينها، لكنها لا تعرض بوضوح الأساس المنطقي الذي استندت إليه تلك الإجراءات إلا في فصول لاحقة؛ إذ تقول إن الباحثين كانوا لا يزالون في مرحلة إجراء التجارب لتقييم الآثار السامة المُحتملة لهذا العقار على القلب. ومن ثمَّ، فقد كان لترتيب ذكر المعلومات وعرضها على هذا النحو أثرٌ في إحداث نوع من التشوش عند القاريء.
ومع ذلك، تعلن كريشنان بحماس مؤثر معارضتها لتلك الحجة، التي ما تفتأ تظهر عند الحديث عن علاج أحد الأمراض المعدية في بلد فقير الموارد، وهي أن الجهات المختصة لا تثق في مرضى الدرن، عندما يتعلق الأمر بتناولهم لأدويتهم دون إشراف، وبالتالي لا يجب أن تُصرف لهم العقاقير التي يحتاجون إليها. وهي حجة باطلة، يلجأ إليها مَن يرغب في حجب هذه العقاقير الجديدة، والأكثر فعالية، ومنع صرفها للمرضى على جملتهم؛ متعللًا بأن سوء استخدامها قد يُكسب المُمْرضات قدرةً على مقاوَمة للعقاقير؛ ما يُهدد سلامة البلدان الأكثر ثراءً. وقد عارضت كريشنان هذا التحيز الجائر بقوة، واصفة إياه بالتوصيف الحقيقي: تمييز عنصري.
توجِّه كريشنان سهام النقد، بعد ذلك، إلى الجمعيات الخيرية التي تدعم بتبرُّعاتها الأدوية الأساسية، مشيرةً إلى أن هذه التبرُّعات تزيد البلدان الفقيرة اعتماديةً وتقاعسًا عن العمل على تأمين إمدادات الأدوية بصفة مستدامة. كما تُعلن المؤلِّفة اعتراضها على نظام براءات الاختراع، والهيئات المحتكرة للخدمات الطبية البيولوجية التي تحميه، موضحةً أن الباحثين المبتكِرين، في جامعات الغرب غالبًا، يقضون حياتهم العملية في تحليل بيانات براءات الاختراع، ومناقشة الأرقام والتكاليف النسبية اللازمة لإنشاء نظام براءات اختراع قوي ومتماسك، لكن كريشنان تستنكر ذلك كله، وترى ألا طائل تحته. فهي تصف الدعم المعني بإرساء براءات اختراع عالمية موثوقة بأنه واهٍ، ليس له ظلٌّ من واقع. وبحسب رأيها، فالحقيقة الوحيدة هنا هي السلب الكامل لبلاد تعوزُها الموارد، وتعجز عن دخول سجال قانوني.
إنني متعاطفةٌ مع انفعالها؛ فبحُكم عملها الصحفي، التقَتْ أشخاصًا فقدوا سمعهم، ومصادر رزقهم، وأحباءهم، نتيجة حرمانهم، كما تقول، من حقهم في الحصول على أدوية أساسية تُنتَج في بلادهم. غير أنني لم أستطع منع شعور الإحباط من التسلل لنفسي، لعجز الكاتبة على دحض الحجة المضادة لرأيها؛ وهي أن نقص هذه الأدوية ناتج بالأساس عن عدم وجود نظام ملكية فكرية يتيح للشركات التربح من ورائها. ووددتُ لو أنها أخذت هذه الحُجج على محمل الجد، وعملت على دحضها.
ومع ذلك، فإن الكتاب يستعرض، بصورة مؤثرة، العوامل الاجتماعية التي حددث ملامح الوضع الصحي، والأثر الراسخ للاستعمار وسياسة التفرقة العنصرية على حالة الصحة العامة. وبالتزامن مع حاجة البلدان الماسة لتوفير عقاقير جديدة لمكافحة داء الدرن المقاوِم للعقاقير، تأتي كريشنان لتذكرنا في الوقت نفسه بأن العقاقير الحالية لا تُستخدم بطريقة فعالة ولا عادلة من الأصل، وأن هذا التحيز الجائر لن يزيد داء الدرن المقاوِم للعقاقير إلا تفشِّيًا.
اضف تعليق