q
تحسبًا للمستقبل، المنذر بأن زمن الأوبئة لم ينتهِ ولن ينتهي، فإن التخلص من هذه البيروقراطية العلمية في الشأن الصحي بالغ الحساسية، ينبغي أن يقوم على أسس واضحة، أهمها: أن يتصدى لتقرير ما يخص العلم علماء مستقلون مشغولون بالبحث العلمي المتجدد، لا موظفون أبعدتهم توازنات الوظيفة الدولية وحساباتها...
بقلم: د. محمد المخزنجي

دراسة حديثة موسعة تؤكد ترجيح انتقال الفيروس المسبب لجائحة كوفيد-19 عن طريق الهباء الجوي.. فتدين بأثر رجعي ذلك التأخُّر الخطير لمنظمة الصحة العالمية في الاعتراف باحتمال هذا الانتقال وعواقبه!

في عدد 30 أغسطس 2021 من مجلة "للعلم"، قرأت مقالًا للزميل محمد السيد علي، عنوانه "الهباء الجوي لاعب رئيسي في انتشار كوفيد-19"، وكان السطر الشارح تحت العنوان كافيًا لإثارة تحفزي، إذ يقول: "الفهم الجيد لانتقال الهباء الجوي سيتيح وضع ضوابط مستنيرة لتقليل انتقال الفيروس عبر الهواء"، قرأت المقال الذي أوجز برشاقة محتوى دراسة موسعة نشرتها دورية "ساينس" تحت عنوان "انتقال الفيروسات التنفسية عبر الهواء"، وهو عنوان شديد الإيجاز لمحتوى ضخم من البحث المعمق، تضافرت فيه عدة تخصصات يتطلبها هذا المبحث الضخم، طبيًّا وهندسيًّا وفيزيائيًّا، وبينت هذه الدراسة تفاصيل دقيقةً مفيدةً في تقليل التعرُّض للعدوى بهذا الفيروس وما سيأتي على شاكلته، لكن ما أهاج تحفزي أنها أكدت ما كان مرجحًا وتم تجاهُله من منظمة الصحة العالمية لفترة خطيرة من عمر استشراء هذا الوباء، ولسبب يبدو بسيطًا لكنه خطير خطورة التسبُّب في قتل أناس يمكن أن يُعدوا بالآلاف، إن لم يكن بمئات الآلاف، وبأداة باردة تمامًا، مزمنة الوجود حيث لا ينبغي أن تكون: إنها البيروقراطية، وتحديدًا بيروقراطية العلم، وقد كان لي معها قصة سأمر بها، وثأر مؤجَّل، آن أوان نواله!

مأزق خاص ودراما عامة

مع اتضاح مدى استشراء جائحة كوفيد-19 وتوالي إعلان إجراءات العزل في كثير من بلاد العالم، ومنها مصر، أصابتني صدمة خاصة جدًّا، فأنا مشَّاء، يبهجني كثيرًا أن أمشي حيثما وجدت ظلال الأشجار ونسيم النيل، كما أنني أعثر على أقصى تركيزي عندما أجلس منفردًا في أماكن عامة لأكتب، وهكذا فقدت بضربة واحدة بهجة المشي ومنحة التركيز التي تُحقق لي أن أكون في "زحام ولا أحد"، فماذا أفعل؟

بقيت بضعة أماكن فسيحة أو مكشوفة أو قليلة الرواد يمكنني أن أقصدها للكتابة، مع الكمامة العادية والتباعُد المتاح، أما المشي إبان فترة منع التجول فاقتصر على الصباح الباكر أو قبيل المساء، وداخل الحي، وكان يكفيني استخدام الكمامة الطبية العادية لقلة عدد الموجودين في الشوارع في هذا الوقت، لكن ما العمل مع ضرورات المشي في أثناء النهار حيث لا يمكن تحاشي الزحام، ناهيك بحتمية إحضار ضرورات الحياة من طعام وغيره في أماكن مزدحمة في كل الأوقات؟ خاصةً وقد قرَّ في يقيني، من متابعة ما يُنشر عن الفيروس وانتشاره، أنه حتمًا ينتقل عبر الهواء، بشكل رئيسي، وبكل الطرق التي يستطيع فيها أن يوجد في الهواء، بين حاملٍ له يزفره ومتلقٍّ يستنشقه، وكان أكثر ما رسَّخ يقيني في ذلك، تراجيديا قصة الدكتور ليو جيان هون، طبيب الأمراض الصدرية الصيني، الذي عدَّته التقارير الصحية، ومقالات الصحافة، وبرامج الإعلام، "الناشر الفائق" super spreader الذي نقل عدوى فيروس سارس 2003، من بر الصين الجنوبي إلى هونج كونج، ومنها إلى العالم، لتشكِّل وباءً خاطفًا للأرواح التي كانت روح الدكتور "ليو" في طليعتها.

قالت القصة إن الدكتور ليو، البالغ من العمر 64 عامًا سافر من بر الصين إلى هونج كونج لحضور حفل زواج أحد أقاربه، ونزل يوم 1 فبراير 2003 في الغرفة 911 بالطابق التاسع بفندق ميتروبول، لكنه لم يحضر أي عرس ولم يلتق أي أقارب، فقد أحس من أول يوم له في هونج كونج بإعياء وحمى، فتوجه من فوره إلى أقرب مستشفى، وهناك طلب من الأطباء ألا يلمسوه وأن يبادروا بعزله لأنه مصاب بمرض خطير، وقد عزلوه لكن يبدو أنهم لم يتصوروا مدى خطورة مرضه، فأصاب بالعدوى عديدين في هذا المستشفى، كما أن الساعات التي قضاها في الفندق أفضت إلى إصابة 23 نزيلًا، وهؤلاء طاروا بما حملوا إلى بقاع عديدة في العالم، فتحولت إلى بؤر للوباء الجديد الغامض، سريع الانتشار، وسريع التفاقم وسريع قتل ضحاياه اختناقًا بأزمات تنفسهم وتراكُم سوائل الالتهاب الرئوي الحاد في رئاتهم.

لا تتنفس حتى تعبرهم أو يعبروك

ما كان يؤلمني على المستوى الدرامي في تلك القصة، سواء صح ذلك أو لم يصح، هو ما تردد عن أن هذا الطبيب ربما لم يكن مدعوًّا لحضور أي عرس في هونج كونج، بل ادعى ذلك التماسًا لعلاج كان يعرف أنه لم يكن متاحًا له في موطنه، كما أن التقارير المتسرعة تعجلت في وصمه بأنه الناشر الفائق للوباء، برغم ثبوت وجود خمسة ناشرين غيره، أما على مستوى المنطق العلمي، فإنني لم أصدق ما قيل عن أن عطسة واحدة من الدكتور "ليو" في أسانسير الفندق الهونج كونجي، كانت كافيةً لإصابة ذلك العدد من نزلائه الذين حملتهم الطائرات لينشروا الوباء في كندا وسنغافورة وتايوان وفيتنام، لم يكن ذلك معقولًا؛ إذ كان المصابون الثلاثة والعشرون ليسوا جميعًا من الطابق التاسع المشؤوم، وكان هذا يجعلني أتشبث بأن سارس-2019 (المستجد) شديد التشابه بسارس-2003 (السابق)، ينتقل مثله -على الأغلب- بما يتجاوز العطسة أو السعلة، بل أساسًا بزفير التنفس العادي، والذي -بالبديهة- يُسرِّعه ويزيد من اقتحام عدواه الزعيق، وما أكثر الزعيق في شوارعنا التي يتلاطم فيها المتزاحمون، والتي لا مفر لي من المشي فيها!

مع أوائل انتشار سارس-كوف- 2 المسبب لوباء كوفيد-19 الذي سرعان ما تحول إلى جائحة، التزمت بالكمامة، العادية في الأماكن المفتوحة، وN95 نانومترية الوقاية في السوبر ماركت وما شابهه، وابتكرت طريقتي الخاصة في تحاشي رذاذ الزفير والزعيق والجعير والغناء الذي يمكن أن أتقاطع معه أو يتقاطع معي، سواء كنت ماشيًا في سبيلي أو جالسًا في حالي، فكنت ما إن أرى أحدهم يقترب مني أو أقترب منه، حتى أكتم نَفَسي إلى أن يبتعد عني أو أبتعد عنه، وأظل على كتم نفسي هنيهةً تكفي لسقوط قطرات رذاذ الزفير الحامل المحتمل للفيروس على الأرض، أو تخفيف كثافة الفيروس بتبدد الزفير في الهواء مع اتساع مسافة الافتراق، وأوحى لي تكتيك هذه "الوقاية بكتم النفس" بفكرة قصة "شهيق عميق، زفير مرتاح"، وكان ضروريًّا مع إيماني بألا يتعارض هذا مع الحقيقة العلمية أن أقرأ كل ما يتاح لي في موضوع انتقال الفيروسات التنفسية عبر الهواء، محمولة على قطرات الزفير الكبيرة، أو تلك القطيرات الأدق، عندها اكتشفت باستغراب شديد موقف منظمة الصحة العالمية المُكرِّس لانتقال عدوى الفيروس محمولًا على القطرات الكبيرة التي يطلقها العطس والسعال، والتي سرعان ما تسقط على السطوح فتلوثها وتضيفها إلى مصادر العدوى، ومن ثم كانت توجيهات المنظمة للوقاية تكاد تكون مقتصرةً على غسل الأيدي بالماء والصابون والكحول، ورش الأرصفة والحيطان والمقاعد والأبوات بالمطهرات، مع الأقنعة العادية لإعاقة انطلاق هذه القطرات الكبيرة المعدية، بينما كان هناك ما يشبه الإنكار لانتقال الفيروس في الهواء على القطيرات الدقيقة لزفير التنفس المعتاد، أو ما يُعرف بالهباء الجوي.

عينة من هذا الإنكار عبَّرت عنها بينيديتا أليغرانزي، وهي عالِمة إيطالية متخصصة في الوبائيات وترأس المركز التقني والسريري للوقاية من العدوى والسيطرة عليها بإدارة الخدمات الصحية المتكاملة بمنظمة الصحة العالمية ( (WHO في جينيف، إذ قالت لصحيفة التايمز: "إن الدليل على انتشار الفيروس عن طريق الهواء لا يزال غير مقنع، وقد ذكرنا عدة مرات أننا نعتبر انتقال العدوى عبر الهواء ممكنًا، ولكنه بالتأكيد غير مدعوم بأدلة قوية أو حتى واضحة"!

فأي أدلة كانت تتشبث بها هذه المسؤولة الصحية الدولية؟ سؤال سرعان ما تكفلت بالإجابة عنه كوارث عدوى جماعية لم يكن ممكنًا تفسير حدوثها من خلال العدوى عبر قطرات الزفير الكبيرة في العطس والسعال وحدهما؛ إذ كان الهواء المتداول عبر التنفس العادي، والمطلق لقطيرات دقيقة من الهباء الحامل للفيروس متهمًا مرجحًا في حدوث مثل هذه الفاشيات، ففي مسلخ ألماني أصيب 1500 موظف بكوفيد-19 في وقت واحد، وفي سياتل الأمريكية اجتمع 61 عضوًا من جوقة Skagit Valley Chorale في بروفة استمرت ساعتين ونصف، وعلى الرغم من وجود معقم لليدين عند الباب، وامتناع أعضاء الكورال عن العناق والمصافحة، أصيب ما لا يقل عن 33 عضوًا بفيروس SARS-CoV-2، وتوفي اثنان في النهاية، وخلص المحققون إلى أن الفيروس يمكن أن يكون قد انتشر في الهباء الجوي الناتج عن الغناء.

فعلى أي قاعدة أقامت منظمة الصحة العالمية صنم إهمال احتمال انتقال الفيروس عبر الهباء، وخلال التنفس العادي للمرضى وحاملي الميكروب؟ سؤال يسوِّغ قسوة طرحه على هذا النحو أن مرجعية الرفض لم تكن قائمةً إلا على بحث عمره أكثر من ثمانين عامًا! أجراه في ثلاثينيات القرن الماضي بجامعة هارفارد، ويليم ولز W F Wells ، نشرته في نوفمبر 1934 دورية "علم الوبائيات" الأمريكية، وكان ذلك البحث معنيًّا بالبكتيريا لا بالفيروسات، وشتان بينهما!

صرخة 273 عالِمًا وأصداؤها

تكاثرت النداءات التي تطالب بالنظر في انتقال فيروس الجائحة عبر الهواء وعلى قطيرات الهباء الجوي، ولما أصرت منظمة الصحة العالمية على تصلُّبها في إنكار ذلك، دوت في 6 يونيو 2020 صرخة في شكل رسالة مفتوحة نشرتها المجلة الإكلينيكية للأمراض المعدية Infectious Diseases Clinical، بتحرير عالِمَي الهباء الجوي، الأسترالية ليديا موراوسكا والأمريكي دونالد ميلتون، وبدعم مجموعة علمية دولية من 32 بلدًا ضمت 237 من الأطباء المتخصصين في الأمراض المعدية وعلماء الأوبئة والمهندسين وعلماء الهباء الجوي، يحثون المجتمع الطبي وسلطات الصحة العامة، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، على الاعتراف بإمكانية انتقال العدوى عبر الهواء، كما يطالبون بإجراءات وقائية للحد من هذا النوع من المخاطر.

كان رد الفعل المبكر لمنظمة الصحة العالمية على هذه الصرخة أبعد ما يكون عن الفهم العلمي الحديث، وهو ما مثلته البروفيسورة "أليغرانزي" ذاتها؛ إذ تساءلت بما لا يُخفي تهكمها عن "مؤهلات أولئك الذين يقودون النقاش في هذه الحركة، والتي جعلت صوتهم مرتفعًا جدًّا بنشر أوراق رأي مختلفة!"، ثم أفصحت: "لمَ لا نسأل أنفسنا... لماذا تأتي هذه النظريات أساسًا من المهندسين وعلماء الأحياء الهوائية وما إلى ذلك، في حين أن غالبية الأطباء المعالجين ومتخصصي الأمراض المعدية وعلم الأوبئة والصحة العامة والوقاية من العدوى والسيطرة عليها لا يعتقدون بالشيء نفسه؟"، تصريح غريب يمكن اعتباره فضيحةً لمسؤولة الوقاية من الوبائيات والسيطرة عليها بمنظمة الصحة العالمية، إذ تهمل حقيقة أن وظيفتها فيما يخص الوقاية من وباءٍ تنفسي والسيطرة عليه لا تصح من دون إشراك مهندسي وعلماء دراسة ديناميات الهواء والهباء الجوي، وهذا ليس أمرًا مستحدثًا، فهو قديم قدم دراسة الدكتور ويليام ويلز، التي يُفترض أن تكون الدكتورة "أليغرانزي" تعرفها، فقد شارك فيها بدور أساسي مهندس دارس للدكتوراة بجامعة هارفارد، كما تذكر أوراق تلك الدراسة!

مسح ضوئي إلكتروني مجهري ملون لخلايا (أزرق) مصابة بجزيئات فيروس سارس-كوف-2 (حمراء)، معزولة من عينة مريض. تم التقاط الصورة في مرفق الأبحاث المتكاملة NIAID (IRF) في فورت ديتريك بولاية ماريلاند.Creadit:NIAID

المهم، انفجرت الرسالة الصرخة لمجموعة العلماء الدولية متعددة التخصصات ذات العلاقة الوثيقة بفهم انتشار الجائحة وما يترتب على هذا الفهم من وسائل وقائية، وسرعان ما نالت الرسالة اهتمامًا علميًّا وإعلاميًّا جارفًا، منه تغطية دورية نيتشر يوم 8 يوليو 2020، تحت عنوان هادئ وإن كان عميق الانتقاد للمنظمات الصحية وعلى رأسها المنظمة الدولية: "تشير الدلائل المتزايدة إلى أن الفيروس التاجي ينتقل عبر الهواء - لكن النصائح الصحية لم تلحق به!"، ثم أكدت الفقرة الأولى في هذه التغطية نقدها؛ إذ قالت بلذع واضح: في مدينة بريسبان، مسقط رأس البروفيسورة ليديا موراوسكا على الساحل الشرقي لأستراليا، تبث اللافتات الموضوعة على جانب الطريق رسالةً بسيطةً تقول: "اغسل يديك، أنقذ الأرواح"، و"ليديا" ليس لديها مشكلة في ذلك؛ فهي تعلِّق: "غسل اليدين هو دائمًا إجراءٌ جيد، لكن قد تكون الرسالة قديمة"، ثم، ومباشرة دخلت نيتشر إلى قلب الهدف: "تشير الأدلة المتقاربة إلى أن سارس–كوف-2، الفيروس التاجي المسؤول عن جائحة كوفيد-19، يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر في قطرات صغيرة تسمى الهباء الجوي وتتنقل عبر الهواء وتتراكم بمرور الوقت، لكن بعد شهور من الجدل حول ما إذا كان بإمكان الناس نقل الفيروس من خلال هواء الزفير، هناك قلقٌ متزايدٌ بين العلماء بشأن طريق الانتقال هذا، كما يشعر الباحثون بالإحباط لأن الوكالات الرئيسية -مثل منظمة الصحة العالمية (WHO)- لا تلتزم بنصائحهم"، فماذا قالت الرسالة الصرخة؟

مناشدة أم تقريع مؤلم ومتألم؟

لقد بدأت الرسالة بعنوان "حان الوقت لمواجهة الانتقال الجوي لفيروس كورونا المسبب لمرض كوفيد-19"، وبدأت بمناشدة المجتمع الطبي والهيئات الوطنية والدولية ذات الصلة للاعتراف بإمكانية انتشار فيروس كورونا 2019 عبر الهواء؛ لأن هناك احتمالية كبيرة للتعرض للعدوى عن طريق استنشاق الفيروسات في قطرات الجهاز التنفسي المجهرية على مسافات قصيرة إلى متوسطة (تصل إلى عدة أمتار، أو على نطاق الغرفة)، فقد أظهرت الدراسات التي أجراها الموقعون على الرسالة بما لا يدع مجالًا للشك أنه يتم إطلاق الفيروسات في أثناء الزفير والكلام والسعال في قطرات صغيرة بما يكفي للبقاء في الهواء وتشكيل خطر التعرُّض على مسافات تزيد على متر ونصف من شخص مصاب، فعند سرعات الهواء الداخلية النموذجية، ستنتقل قطرة قطرها 5 ميكرومترات بمقدار عشرات الأمتار، أكبر بكثير من مقياس غرفة نموذجية، بينما تستقر على ارتفاع 1.5 متر فوق الأرض، وقد أظهر العديد من الدراسات التي أُجريت بعد وباء فيروس كورونا 1 المسبب للمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة سارس-كوف-1 (SARS-CoV-1) أن انتقال العدوى عبر الهواء كان الآلية الأكثر احتماليةً للعدوى، وتأكد الشيء نفسه بالنسبة لفيروس سارس-كوف-2 (SARS-CoV-2) المسبب لمرض كوفيد-19، وأظهرت ذلك الدراسات العديدة التي أُجريت حول انتشار الفيروسات الأخرى، كمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية التاجية (MERS-CoV) والإنفلونزا، "فالفيروسات المحمولة جوًّا يمكن أن تكون قابلةً للحياة في الزفير وتُكتَشَف في البيئة الداخلية للمرضى، وهذا يمثل خطرًا على الأشخاص الذين يشاركونهم في مثل هذه البيئات ويستنشقون هذه الفيروسات".

ثم أضافت الرسالة: "لقد تم اكتشاف الحمض النووي الريبي للفيروس المسبب للمرض مرتبطًا بقطرات أقل من 5 ميكرومترات في الهواء، وبفاعلية جيدة في الهباء الجوي مقارنةً بالقطرات على السطوح، وبرغم ذلك فإن معظم منظمات الصحة العامة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية (WHO)، لا تعترف بالعدوى المحمولة على الهباء الجوي خارج أماكن الرعاية الصحية، وبرغم أن غسل اليدين والتباعد الاجتماعي يُعدان من الأمورالمناسبة إلا أنهما يظلان غير كافيين لتوفير الحماية من قطرات تنفسية دقيقة تحمل فيروسات تنطلق في الهواء من الأشخاص المصابين، وهذه المشكلة حادة بشكل واضح في البيئات المغلقة، خاصةً تلك التي تكون مزدحمةً وغير كافية التهوية لفترات ممتدة، ومن ثم يتضح أن انتشار الفيروس المحمول على الهباء الجوي هو التفسير الوحيد المعقول للعديد من أحداث الانتشار الفائق للعدوى، لهذا، وفي تقييمنا الجماعي، يجب تطبيق مبدأ التحوط من أجل السيطرة على الوباء بقطع جميع طرق انتقاله، ونحن قلقون من عدم وجود توصيات واضحة بشأن تدابير السيطرة ضد الفيروس المحمول جوًّا، مما سيكون له عواقب وخيمة".

منظمة الصحة العالمية تتزحزح

بعد نشر تلك الرسالة وترجيع أصداء صرختها على نطاق واسع، تحركت منظمة الصحة العالمية في يوم 7 يوليو 2020 (أي بعد أكثر من ستة أشهر من إبلاغ المكتب القُطري للمنظمة بانبثاق الوباء في الصين يوم 31 ديسمبر 2019)، وخرجت في مؤتمر صحفي، بينيديتا أليغرانزي -ذاتها- تقول: "علينا أن نكون منفتحين على هذه الأدلة، وأن نفهم آثارها فيما يتعلق بأساليب الانتقال، وكذلك فيما يتعلق بالاحتياطات التي يجب أن تؤخذ".

ثم، بعد تصريح "بينيديتا" بيومين، أصدرت المنظمة في 9 يوليو 2020 موجزًا علميًّا عن انتقال الفيروس، تعترف فيه بأنه لا يمكن استبعاد انتقال العدوى بالهباء الجوي قصير المدى في الأماكن المزدحمة وسيئة التهوية! ولذر الرماد في العيون أخبرت منظمة الصحة العالمية "نيتشر"Nature أنها كانت تعمل على هذا الموجز لمدة شهر! فكانت بهذا التملص من مسؤولية تأخير اعترافها بأهمية انتقال المرض عبر الهباء الجوي وخطورته، تدين تأخرها شهرًا كاملًا -فوق ما سبقه من شهور ستة، فكم روحًا أزهقها هذا التأخير البيروقراطي في هذا الشهر وما سبقه؟ كما ينبغي أن يلفت الانتباه إضافةً إلى ذلك، تصريح "بول هانتر" -عضو لجنة الوقاية من العدوى في المنظمة- المُتضمِّن: إن أسهل شيء في العالم أن تقول: "علينا اتباع المبدأ الوقائي وتجاهل تكاليف الفرصة البديلة لذلك"؛ فنهج الاحتياجات والقيم يمكن أن يضع عبئًا لا داعي له على المستشفيات الصغيرة أو على البلدان ذات الدخل المنخفض، والذي قد يَضطر بموجب المبادئ التوجيهية المنقحة إلى إعادة توجيه الموارد -المجهدة بالفعل- نحو زيادة استخدام أقنعة "N95"!

كلام يبدو شفوقًا بالدول الفقيرة من اللجوء إلى الاحتياطات الوقائية المكلفة ممثلةً في أقنعة N95، لكنه في عمقه ينم عن تجاهل قاتل للفارق الكبير بين نوعي الأقنعة، خاصةً عند استخدامها من أفراد الطواقم الطبية العاملين في بؤر المرض، والأفراد العاديين المخالطين لمرضى ينشرون العدوى؛ فالأقنعة الطبية العادية غايتها منع أو تخفيف نقل ميكروبات معدية تحملها أنفاس المعالجين -خاصةً الجراحين في غرف العمليات- للمرضى الذين تكون جراحهم مفتوحة، وهي كأداة وقائية في أزمنة الأوبئة والجوائح تقلل –أساسًا- نشر الميكروبات من حامليها إلى غير الحاملين، أما أقنعة N95 بنسيجها نانوي المقاييس فتمنع أو تقلل انتقال الميكروبات الدقيقة، كالفيروسات، من زفير مريض إلى شهيق سليم، وقد شاهدنا -بناءً على مثل هذا اللغو السياسي الاقتصادي غير العلمي- تقتيرًا في تزويد أطباء وأعضاء فرق طبية بأقنعة N95 بينما يعملون في بيئات معدية، ففقد كثيرٌ منهم حياته بفعل هذا التقتير المؤسَّس على الشفقة غير العلمية، والقاتلة في غير موضعها، مثلها مثل البيروقراطية العلمية التي عاقت منظمة الصحة العلمية عن الاعتراف المبكر بانتقال عدوى كوفيد-19 عبر الهباء الجوي، وكل ما ترتب على ذلك من أذى يرقى إلى مستوى القتل الخطأ، على الأقل!

ثم ماذا؟

تحسبًا للمستقبل، المنذر بأن زمن الأوبئة لم ينتهِ ولن ينتهي، فإن التخلص من هذه البيروقراطية العلمية في الشأن الصحي بالغ الحساسية، ينبغي أن يقوم على أسس واضحة، أهمها: أن يتصدى لتقرير ما يخص العلم علماء مستقلون مشغولون بالبحث العلمي المتجدد، لا موظفون أبعدتهم توازنات الوظيفة الدولية وحساباتها وأريحياتها عن تمتين علاقتهم بالبحث العلمي ومخرجاته المتجددة، وتبصراته المبدعة للاجتهاد في إنقاذ أقصى ما يمكن إنقاذه من شؤون الحياة وبأقصى المتاح، فإذا كانت البيروقراطية في أمور أخرى مؤذية، فهي في الشأن الصحي العلمي المتعلق بالحياة والموت: مجرمة.

اضف تعليق