يُعد الالتهاب الرئوي الحاد، الذي يصاحبه تلف شديد للأكياس الهوائية في الرئتين، أكثر المضاعفات خطرًا على حياة المصابين بمرض "كوفيد-19". ويلعب الالتهاب دورًا رئيسيًا في هذه العملية. فعلى الرغم من أنه جزء جوهري من دفاعاتنا المناعية الهادفة إلى السيطرة على العدوى، فإنه قد يتسبب في أضرار جانبية للأنسجة...
بقلم: كارا جيه. مولد، وويليام جيه. يانسن
يُعد الالتهاب الرئوي من السمات المميزة لحالات الإصابة الحادة بمرض «كوفيد-19»، غير أن العديد من التفاصيل حول طبيعة هذا الالتهاب لا تزال غير معروفة. وقد كشف تحليل خلايا الرئة لدى المصابين بهذا الالتهاب عن بعض خيوط ذلك اللغز.
اذ يُعد الالتهاب الرئوي الحاد، الذي يصاحبه تلف شديد للأكياس الهوائية في الرئتين، أكثر المضاعفات خطرًا على حياة المصابين بمرض "كوفيد-19". ويلعب الالتهاب دورًا رئيسيًا في هذه العملية. فعلى الرغم من أنه جزء جوهري من دفاعاتنا المناعية الهادفة إلى السيطرة على العدوى، فإنه قد يتسبب في أضرار جانبية للأنسجة. ونظرًا إلى ارتفاع معدلات الوفيات الناجمة عن مرض "كوفيد-19" وطول مدته الملحوظة في حالات الالتهاب الرئوي الناجمة عنه، فقد اقترح بعض الباحثين أن الالتهاب الذي ينشأ من الإصابة بفيروس "سارس-كوف-2" (وهو فيروس كورونا المسبِّب لمرض "كوفيد-19") يختلف إلى حد ما عن نوع الالتهاب الذي تسببه أنواع العدوى الأخرى التي تصيب الجهاز التنفسي. غير أنه كان ثمة نقص في البيانات التي تدعم هذا الزعم. وفي دراسة نُشرت حديثًا1، يسعى روجان إيه. جرانت وفريقه البحثي1 إلى سد تلك الفجوة المعرفية بعقد مقارنة مباشرة بين الخلايا المناعية المعزولة من رئات أشخاص مصابين بالالتهاب الرئوي الناتج عن "كوفيد-19"، والخلايا المناعية المأخوذة من أشخاص مصابين بالالتهاب الرئوي الناشئ عن أسباب أخرى.
كما هو الحال مع أغلب الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، يمكن لفيروس "سارس-كوف-2" أن يدخل الجسم عن طريق الأنف أو الفم، ويصيب الخلايا الظهارية التي تبطن جدار الجهاز التنفسي في الحلق والرئتين. وعندئذٍ، تطلق الخلايا المصابة به إشارات جزيئية تنبِّه الخلايا المناعية الموجودة في الدم للانتقال إلى الرئة لتعزيز الاستجابات المضادة للفيروسات2. وعلى الرغم من أنه يمكن معرفة معلومات مهمة من خلال دراسة تلك الخلايا المناعية الموجودة في مجرى الدم، فإن الوصول إلى فهم حقيقي ودقيق لالتهاب الرئة يتطلب عزل هذه الخلايا المناعية من الأكياس الهوائية (الحويصلات الهوائية) في الرئتين.
إن النهج القياسي المتَّبع لجمع الخلايا المناعية من الرئتين هو استخدام تقنية تسمى غسل القصبات الهوائية والأسناخ، إذ يجري حقن محلول ملحي في المسارات الهوائية والأكياس الهوائية الصغيرة بالجهاز التنفسي، ثم يُزال هذا المحلول بلطف باستخدام تقنية شفط؛ للحصول على الخلايا المطلوبة محل الدراسة. وقد جمع جرانت وفريقه البحثي خلايا مناعية بهذه الطريقة (الشكل 1) من 88 شخصًا مصابًا بالالتهاب الرئوي الناتج عن "كوفيد-19"، و211 شخصًا مصابًا بالتهاب رئوي ناتج عن أنواع أخرى من العدوى. وقد أُخذت جميع العينات من أشخاص أودعوا وحدات عناية مركزة وتطلبت حالاتهم استخدام أجهزة التنفس الاصطناعي. وفي أغلب الحالات، جُمعت العينات عدة مرات على فترات في أثناء المرض، وهو ما وفر تحليلًا شاملًا مع مرور الوقت (تحليلًا طوليًا) للاستجابة الالتهابية في رئات الأشخاص المصابين بالتهاب رئوي حاد ناتج عن "كوفيد-19".
حلل روجان إيه. جرانت وفريقه البحثي1 الخلايا المناعية المأخوذة من رئات أشخاص مصابين بالالتهاب الرئوي الناتج عن "كوفيد-19" أو عن حالات مرضية أخرى. فكان لدى الأفراد المصابين بمرض "كوفيد-19" نسبة أكبر من الخلايا التائية والخلايا وحيدة النواة في مجموع الخلايا المناعية لديهم، مقارنةً بالأفراد المصابين بأنواع أخرى من الالتهاب الرئوي. (أ) وأكد الفريق البحثي صحة التقارير5،4 التي أفادت سابقًا بإصابة خلايا الرئتين المناعية التي تسمى الخلايا البلعمية بفيروس "سارس-كوف-2" المسبب لمرض "كوفيد-19". ووجد جرانت وزملاؤه أن هذه الخلايا المصابة تعبر عن الجينات المرمِّزة لأنواع من جزيئات الجذب الكيميائي التي يمكنها تجنيد الخلايا التائية والخلايا وحيدة النواة في الدم وتوجيهها تجاه الرئتين. (ب) وعبَّرت الخلايا التائية التي دخلت الرئتين عن الجين المرمّز للجزيء الالتهابي إنترفيرون-جاما (IFN-γ). وقد يدفع إنترفيرون-جاما الخلايا وحيدة النواة والخلايا البلعمية إلى زيادة إنتاج جزيئات الجذب الكيميائي وغيرها من الجزيئات الالتهابية (غير الموضحة في الشكل). (ج) ويمكن أن تنضج الخلايا وحيدة النواة لتصبح خلايا بلعمية وتعيد بدء الدورة الالتهابية ذاتها إذا أصيبت بفيروس "سارس-كوف-2". ويمكن لهذه الدورة الالتهابية المفترضة وتجنيد الخلايا المناعية أن يفسرا الالتهاب طويل الأجل الذي يميز الالتهاب الرئوي الناتج عن "كوفيد-19".
وقد قام الفريق في الخطوة الأولى من دراسته بتحليل الفئات المختلفة من الخلايا الالتهابية المعزولة من الأكياس الهوائية بالرئتين. ومن المثير للاهتمام أنهم وجدوا أن الخلايا المناعية المأخوذة من الأشخاص المصابين بمرض "كوفيد-19" تحتوي على نسبة أكبر من الخلايا التائية والخلايا وحيدة النواة، مقارنةً بمجموعة الخلايا المناعية المأخوذة من الأشخاص الذين كان الالتهاب الرئوي لديهم ناتجًا عن أسباب أخرى. وتُعد الخلايا التائية ووحيدة النواة نادرة الوجود نسبيًا في الرئات السليمة3 لذا، يُفترض أن هذه الخلايا المناعية قد جرى توجيهها تجاه الأكياس الهوائية عن طريق بروتينات جذْب كيميائي مُنتَجة في الجسم. ومن الأهمية بمكان أن هذا الاختلاف في أنواع الخلايا الالتهابية لدى الأشخاص المصابين بمرض "كوفيد-19" عنه لدى الأشخاص المصابين بالتهاب رئوي لأسباب أخرى، لم يمكن تفسيره بعوامل إكلينيكية أخرى، مثل مرحلة المرض أو الإصابة بعوامل ممرضة أخرى في الوقت ذاته.
ولفهم آليات تجنيد الخلايا التائية والخلايا وحيدة النواة في الرئتين، قام جرانت وفريقه البحثي بإجراء اختبارات لمعرفة ما إذا كانت الخلايا المناعية مصابة بفيروس "سارس-كوف-2"، أم لا. وقد أكد الفريق صحة التقارير السابقة4 ،5 التي ذكرت أن الحمض النووي الريبي لهذا الفيروس يوجد في الخلايا البلعمية، وهي نوع من الخلايا المناعية المعروفة بابتلاعها للخلايا الميتة والمخلفات في الرئتين. ومن المثير للاهتمام أيضًا أن الباحثين اكتشفوا بهذه الخلايا حمض نووي ريبي ذي شريط "إيجابي" من الفيروس– أي ذي شريط يرمِّز البروتينات الفيروسية – فضلًا عن النسخة المرآتية من هذا الشريط (أي الشريط "السلبي" الذي لا يُرمِّز البروتينات الفيروسية). ووجود هذا الشريط السلبي يوحي بقوة بتكاثر الفيروس بشكل نشط في الخلايا البلعمية. وقد أظهرت هذه الخلايا أيضًا مستويات عالية من التعبير عن الجينات المرمِّزة لبروتينات جذب كيميائي، مثل البروتين CCL4 والبروتين CXCL10، اللذين يمكنهما تجنيد الخلايا التائية والخلايا وحيدة النواة. لذا، فقد استنتج الباحثون أن إصابة الخلايا البلعمية بفيروس "سارس-كوف-2" تحفز هذه الخلايا لإطلاق بروتينات الجذب الكيميائي تلك.
ولتحديد الأدوار التي قد تلعبها الخلايا التائية التي يجري تجنيدها وتوجيهها تجاه الرئتين، قام الباحثون بتقييم التعبير الجيني بكل من هذه الخلايا. ووجد جرانت وفريقه أن الخلايا التائية تعبر عن الحمض النووي الريبي المرمِّز لبروتين إنترفيرون-جاما (IFN-γ)، الذي يُعرف بتحفيزه للخلايا البلعمية والخلايا وحيدة النواة من أجل إنتاج الجزيئات الالتهابية6. وفي الواقع، وجد الباحثون أن الخلايا البلعمية المأخوذة من أشخاص مصابين بمرض "كوفيد-19" تُظهر تعبيرًا عن جينات مستجيبة للإنترفيرون بمستويات أعلى من الخلايا البلعمية المأخوذة من أشخاص غير مصابين بمرض "كوفيد-19".
إضافة إلى ذلك، فإن إحدى السمات الفريدة للالتهاب الرئوي الحاد الناتج عن "كوفيد-19" هي مدته الطويلة للغاية، مقارنةً بالمدة المعتادة للالتهاب الرئوي المرتبط بأنواع العدوى الفيروسية الأخرى. إذ يستمر التهاب الرئة الحاد والقصور التنفسي طويل الأجل في حالة الإصابة بمرض "كوفيد-19" حتى بعد اختفاء مؤشرات العدوى الفيروسية من التحاليل7. غير أنه لم يسنح تمامًا بعد تحديد الآليات التي تسبب هذه الاستجابة الالتهابية المستمرة وقتًا طويلًا. وأحد الاحتمالات وراء هذه الاستجابة هو وجود حلقة من التأثيرات المتبادلة – كما افترض جرانت وزملاؤه – حيث تؤدي إصابة الخلايا البلعمية بفيروس "سارس-كوف-2" إلى إنتاج بروتينات الجذب الكيميائي، التي تقوم بالتالي بتجنيد الخلايا وحيدة النواة والخلايا التائية وتوجيههما تجاه الرئتين (الشكل 1). وقد تنضج الخلايا وحيدة النواة حديثة التجنيد لتشكل خلايا بلعمية، وإذا أَنتجت الخلايا التائية بروتين إنترفيرون-جاما الذي يحفز الخلايا البلعمية لإنتاج المزيد من بروتينات الجذب الكيميائي، فإن هذا من شأنه أن يطيل استمرار دورة الالتهاب.
وعلى الرغم من أن البيانات التي تدعم الشكل النموذجي الذي وضعه الباحثون لهذه العملية لا تعتمد تقريبًا إلا على توصيف التعبير الجيني للخلايا المناعية، فإن هذا المخطط الذي وضعه الباحثون يخدم كإطار يمكن من خلاله طرح تفسير موحد ومقبول لتلك العملية. ولإثبات صحة هذا النموذج، يجب التحقق من صحة كل خطوة مفترضة من خلال دراسات وظيفية، ويجب التحقق من العلاقات السببية التي تربط بين جميع حلقات هذا المسار الالتهابي. وإضافة إلى ذلك، ينبغي إيلاء عناية خاصة للكيفية التي قد تتكامل بها وظائف هذه الخلايا المناعية مع وظائف الأنواع الأخرى من خلايا الرئة، مثل الخلايا الظهارية، وهي أهم أنواع الخلايا التي تُصاب بفيروس "سارس-كوف-2". وقد عُدت الخلايا الظهارية سابقًا4 المسبب الرئيسي للالتهاب لدى المصابين بمرض "كوفيد-19".
ومن الجدير بالملاحظة أن أنواع الخلايا والجزيئات، التي تشكل هذه الدورة الالتهابية المفترضة، ذاتية التجدد، والتي تظهر لدى المصابين بمرض "كوفيد-19"، توجد أيضًا إلى حد ما8في الخلايا المعزولة من أشخاص مصابين بالالتهاب الرئوي الناجم عن أنواع أخرى من العدوى البكتيرية أو الفيروسية. ويطرح هذا تساؤلًا بشأن ما إذا كان المسار الالتهابي الذي اكتشفه الباحثون خاصًا بمرض "كوفيد-19" وحده، أم أنه ينطبق أيضًا على أشكال أخرى من الالتهاب الرئوي الحاد. وسوف يكون تأكيد أي من الاحتمالين بمثابة خطوة كبير إلى الأمام، وذلك لأن مثل هذا الاكتشاف قد يسفر عن ابتكار مسارات علاجية تستهدف الخلايا البلعمية المصابة، أو الخلايا التائية الالتهابية، أو جزيئات التهابية معينة، كوسيلة لمنع الدورات الالتهابية ذاتية التجدد، ومن ثم، توفير وسيلة لمنع استمرار إصابة الرئة.
اضف تعليق