اليقين أشبه بقوس قزح: فهو حدث رائع لكنه نادر نسبيا. في أغلب الأحيان، نعرف أننا لا نعرف. وربما نسعى إلى علاج هذا النقص عن طريق التحدث إلى أشخاص ربما يعرفون ما نريد معرفته. ولكن كيف نعرف أنهم يعرفون؟ إذا لم يكن بوسعنا أن نتحقق ما...
بقلم: ريكاردو هوسمان
كمبريدج ــ إن اليقين أشبه بقوس قزح: فهو حدث رائع لكنه نادر نسبيا. في أغلب الأحيان، نعرف أننا لا نعرف. وربما نسعى إلى علاج هذا النقص عن طريق التحدث إلى أشخاص ربما يعرفون ما نريد معرفته. ولكن كيف نعرف أنهم يعرفون؟ إذا لم يكن بوسعنا أن نتحقق ما إذا كانوا يعرفون حقا، فيتوجب علينا أن نثق بهم.
تاريخيا، كنا نمنح ثقتنا على أساس الـعِـلـم، أو الخبرة، أو الإلهام السماوي. ولكن ماذا لو كانت المعرفة التي نسعى إلى الحصول عليها لا وجود لها بعد، وحتى الـعِـلم يعلم أنه لا يعرف ماهية المطلوب منه؟
هذا هو الوضع الذي نجد أنفسنا فيه حاليا مع مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) وفيروس SARS-CoV-2 الذي يحدثه. صحيح أن معرفتنا بفيروس كورونا الجديد تتزايد بسرعة، لكنها غير كافية على الإطلاق. فنحن لم نتعلم بعد الكثير عن كيفية علاج المصابين بعدواه، ناهيك عن التوصل إلى كيفية إنتاج لقاح فعّـال. نحن لا نعرف حتى كيف نتحكم في الجائحة بشكل يمكن التعويل عليه من خلال تدابير التباعد الاجتماعي.
صحيح أن بعض البلدان كانت ناجحة بشكل لافت للنظر في الحد من حالات الإصابة والوفاة بمرض فيروس كورونا 2019 بعد بلوغها قمم رهيبة. الدول الأربع التي سجلت حتى الآن أكبر عدد من الوفيات لكل مليون نسمة في أسبوع واحد هي بلجيكا، وإسبانيا، وفرنسيا، وأيرلندا. والآن انخفضت حالات الإصابة الجديدة في هذه الدول بأكثر من 95.5% من الذروات التي بلغتها (وبنسبة 99.1% في حالة أيرلندا)، مما يشير إلى أن عمليات الإغلاق في هذه الدول كانت ناجحة بالفعل.
مع ذلك، في حين تمكنت دول أخرى فرضت عمليات إغلاق أكثر صرامة من الناحية القانونية (وفقا لقياسات مدرسة بلافاتنيك في جامعة أكسفورد) وقلصت الحركة بدرجة أكبر (وفقا لقياسات جوجل) من تجنب ذروات قاتلة مبكرة، فإن حالات الإصابة لديها استمرت في النمو بشكل هائل. تشمل البلدان في هذه الفئة الهند، وشيلي، وبيرو، وكولومبيا، والسلفادور، والكويت، وجنوب أفريقيا، والمملكة العربية السعودية. وشهدت مجموعة أخرى من البلدان، بما في ذلك إسرائيل وألبانيا، استئناف نمو حالات الإصابة بأعداد هائلة بعد أن أنهت عمليات الإغلاق الناجحة.
لا يستغرق الأمر وقتا طويلا لوضع العديد من الفرضيات ــ من البسيطة إلى التكهنية ــ في تفسير هذه الفوارق. ومن الواضح أن تحديد أفضل التفسيرات لنجاح الدول المتفاوت في السيطرة على الجائحة أمر عظيم القيمة عند تصميم استراتيجيات الصحة العامة التي سيترتب عليها عواقب ربما تكون بالغة الضخامة.
على سبيل المثال، ربما يكون انتقال عدوى الفيروس بين أفراد الأسرة الواحدة سهلا في الأسر الكبيرة، في حين قد يضطر الناس في بعض الدول بسبب نقص مبردات الطعام إلى الذهاب إلى السوق بوتيرة أكثر تكرارا. وقد يمنع عدم توفر المياه الجارية غسل اليدين بشكل متكرر. وربما يتفاوت استعداد عامة الناس لارتداء أقنعة الوجه. وقد يكون حجم الاقتصاد غير الرسمي في أي بلد، وقدرة الأسر المالية على الالتزام بتدابير الإغلاق، وسخاء التحويلات الاجتماعية، من العوامل المساهمة. من العوامل المهمة أيضا، مدى جدية فرض تدابير الإغلاق، ومستوى الثقة في الحكومة، بل وحتى السمات الشخصية الوطنية لأي بلد.
لكن المعرفة لا تتقدم بمجرد صياغة فرضيات معقولة. بل يتعين علينا أن نعرف أي هذه الفرضيات تصمد تحت الاختبار. يمكننا تقصير القائمة من خلال تطبيق القول المأثور الذي جاء على لسان العالِم البريطاني توماس هكسلي في القرن التاسع عشر: "العديد من النظريات الجميلة قتلتها حقيقة قبيحة".
لإنجاز هذه المهمة، لا نحتاج إلا إلى جمع المزيد من البيانات وإتاحتها للتحليل. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يبدو أن نحو 40% من الوفيات بسبب كوفيد-19 حتى الآن ترتبط بدور رعاية المسنين. على نحو مماثل، وجدت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة تل أبيب في أكثر من 30 دولة أوروبية علاقة بين سعة دار الرعاية الرسمية والوفيات بسبب كوفيد-19.
الواقع أن هذه التحليلات ليست معقدة ولا تحتاج إلى عالِـم صواريخ. بل هي في الحقيقة شديدة البساطة، لأنها تستخدم بيانات وطنية عامة وليس البيانات الأكثر دقة القائمة على الرمز البريدي. علاوة على ذلك، لم تظهر هذه الدراسات إلا بعد وفاة عشرات الآلاف من الأشخاص بالفعل بسبب كوفيد-19.
وعلى هذا، فبدلا من كونها انتصارا علميا، توضح مثل هذه النتائج إلى أي مدى كانت سياسات الصحة العامة في مكافحة الفيروس غير علمية. لو كنا افترضنا منذ اندلاع الجائحة أننا نعرف أننا لا نعرف، فإننا كنا لنعمل على إنشاء حلقات تغذية مرتدة سريعة للتعلم بأسرع وقت ممكن من التجربة.
على وجه التحديد، كنا لنركز على جمع بيانات بسيطة حول كل حالة من حالات الإصابة بعدوى كوفيد-19 ــ تاريخ تأكيد الإصابة، وعمر المريض، ونوعه الاجتماعي، وعنوان بيته ومحل عمله، ووسيلة النقل التي يستخدمها، والمخالطين له ــ واستكمال هذا ببيانات إضافية حول الرعاية في المستشفيات والنتائج مع تقدم المرض. هذه البيانات موجودة بالفعل في العديد من الحالات، لكنها مخفية عن المجتمع وغالبا عن المسؤولين من قِـبَـل وزراء صحة مفرطي الحماسة أو محدودي الاطلاع، ولا تتاح للعديد من المحللين المدربين القادرين على المساهمة في صنع السياسات. وكما اقترحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تستطيع الحكومات أن تتبنى أيضا أساليب تستخدم بيانات الهاتف المحمول الفردية، والبحث على الإنترنت، والاستطلاعات السريعة عبر الهاتف، مع مراعات المخاوف بشأن الخصوصية.
تعتقد العديد من الحكومات أن هذا النوع من الاستراتيجيات التي تعتمد على البيانات للتصدي للجائحة يتجاوز قدرتها، فتقرر الاستعانة بما تعلمته بلدان أخرى من خلال تبني أفضل الممارسات. وهذا نهج خاطئ. إن تأثير الجائحة على البلدان المختلفة يتفاوت ويتباين بطرق لا نفهمها حاليا ونحتاج إلى اكتشافها. فهل الأشخاص الذين يعيشون في بيرو في منازل بدون مبردات طعام، على سبيل المثال، أكثر عُـرضة للإصابة بالعدوى حقا؟
علاوة على ذلك، كل نظام للإغلاق والتباعد الاجتماعي يختلف عن غيره، مما يعكس الدرجات العديدة من الحرية في تصميم هذه الأنظمة. الآن، يشكل التعرف على الأساليب الناجحة والفاشلة والتمييز بينها على أساس يومي أمرا بالغ الأهمية، وخاصة ونحن نحاول إيجاد طرق لفتح الاقتصادات مع الإبقاء على معدلات الإصابة عند مستوى منخفض.
لا تزال المعركة ضد كوفيد-19 في مراحلها المبكرة، ولم يفت الأوان بعد لبدء هذا الجهد. قال سقراط: "أن تعرف أنك لا تعرف شيئا لهو تناقض اصطلاحي". علينا إن أن نجعل معرفتنا بجهلنا بالفيروس، وقدرتنا على التغلب عليه، مصدر قوة. وينبغي لنا أن نوطن النفس على التعلم.
اضف تعليق