مضار التهويل تقابلها مساوئ التهوين من الوباء والتي قد تثني همم الناس عن حماية أنفسهم من المرض وعن إتباع النصائح والإرشادات المنصوص عليها. مهما كانت مبررات من يهوّن من خطورة الوباء، فمبرراته لا ترتقي الى شدة الضرر الذي قد يحدثه هذا التهوين، وهكذا فوباء كوفيد19...
أعلن مدير منظمة الصحة العالمية الدكتور "تيدروس أدهانوم غيبريسوس" في 11 آذار الجاري أن وباء كورونا فايروس الجديد "كوفيد 19" قد أصبح وباءا عالميّا، فلم يستغرب منه أحد نظرا لسرعة إنتشار الوباء وكثرة عدد الإصابات فيه بين دول العالم والتي كانت على مرأى ومسمع الجميع.
الهدف الأول المطلوب من هذا الإعلان هو وضع حكومات العالم أمام الأمر الواقع كي تتخذ الإجراءات الضرورية اللازمة لصد هذا الوباء ومنع مضاعفات إنتشاره، حيث أصبح الوباء مشكلة العالم كله وليس مشكلة محليّه محصورة في مكان واحد. الإحصائيات الواردة والصادرة عن منظمة الصحة العالمية تشير الى أن عدد الإصابات في "118" بلد من بلدان العالم قد وصلت بتأريخ 12 آذار الجاري الى 125,000 إصابة، أي تضاعف عدد الإصابات خلال فترة إسبوعين الى "13" مره وتضاعف معها عدد الدول التي وصلها الوباء الى "3" أضعاف!.
رغم إرتفاع عدد الإصابات المعلنة غير أن العدد الحقيقي للإصابات، وعلى الأغلب، يفوق العدد المعلن منها، وهذا لا يعني بالضرورة غبش في الشفافية أو الإخفاء المتعمد، إنما هناك عوامل كثيرة لا تسمح بإعطاء أرقام دقيقة للإصابات منها : عدم توفر وسائل الفحص المختبري الكافية لتغطية الطلب، عدم وجود أعراض مرضية عند الإصابة لدى البعض، وبساطة وجود هذه الأعراض عند البعض الآخر يجعل المصابين بالفايروس يعتقدون بأنهم مصابون بوعكة برد عابره أو زكام أو إنفلونزا بسيطة مما لا يجعلهم يستشيرون أطباءهم وحتى لو إستشاروهم ليس كل المصابين يرسلون لإجراء الفحص المختبري الخاص، ومن المصابين أيضا من يخشى الإعلان عن حالته خوفا من العزل والحجر الصحي، كذلك التهاون وعدم الإكتراث عند البعض، يجعل أعدادا كبيرة من المصابين خارج نطاق التعداد المعلن للحالات.
حصلت تناقضات محسوسة في سياسات الدول إزاء التصدي لهذا الفايروس الجديد فتباينت الرؤى والأفكار وتباينت معها الأفعال والإجراءات وتمخضت عنها النتائج والمعطيات المختلفة. حينما أعلنت الصين وهي مسقط رأس هذا الفايروس الجديد عن إكتشافها للوباء الجديد انتقدها البعض بأنها تغاضت للوهلة الأولى عن حقيقة الوباء وتباطأت في الكشف عنه وإحتوائه والسيطرة عليه حينما كان في مهده.
غير أن الحقيقة ربما غير ذلك، فحينما ظهر كوفيد19 لأول مره للوجود، كان بصفات وأعراض وعلامات الإنفلونزا الموسمية الفصلية الكلاسيكية، وبقي هذا الفايروس ينتشر بين الناس في مدينة " ووهان" الصينية متخفيا بأعراض الإنفلونزا العادية ومستغلا وقت الظهور المشابه لوقت ظهور الإنفلونزا الموسمية أي في أشهر الشتاء. من الصعب جدا التكهن بأن هذه الإنفلونزا ناشئة عن فايروس جديد غير الفايروسات المتوطنة المعروفة، بل أن تدارك الأمر بالسرعة المحسوبة والكشف عن حقيقة هذا الفايروس الجديد وحل لغز شفرته الجينيّة وتعريف العالم عليه، يعتبر خطوه متميزة حققها الصينيون في هذا المجال.
بنفس إسلوب تشخيص هذا الوباء الجديد إستطاع الصينيون السيطرة على إنتشاره من خلال الإجراءات الجدية الرادعة، حتى بانت إمارات التلاشي التدريجي للوباء وبدأ النزول من قمة المنحني لمسار الوباء. الخطوات الناجعة التي اتبعتها الصين في إسلوب التحكم والسيطرة على الوباء كانت نموذجا صالحا إقتدى به عدد لا بأس به من دول آسيا ومن ضمنها دول عربية وعلى الأخص دول الخليج العربي. إستطاعت هذه الدول أن تتبع النصائح الصحية الرائدة والإجراءات اللازمة بهذا المجال من أجل السيطرة على إنتشار الوباء وكبح جماحه. على الطرف النقيض الآخر، يكتشف المراقب للأحداث أن الدول الغربية وخصوصا دول الإتحاد الأوربي إتسمت بالتهاون وقلة الإكتراث أمام خطورة هذا الوباء، حيث لم تلتزم بشكل صحيح بالأصول المفروضة للتصدي له، وهذا ما يفسّر الإنتشار السريع للوباء فيها!.
خلافا للالتزامات التي تحددها الأمور المبدئية الثلاثة للتصدي للأمراض الوبائية والمعدية والتي تعتمدها منظمة الصحة العالمية وتتلخص بـ (الكشف عن الوباء، منعه، ومعالجته)، فقد واجه معظم الأوربيين هذا الوباء بعدم الإكتراث وبالتهاون! لقد بثوا ثقافة عدم الإكتراث بين الناس حينما أشاعوا بينهم فكرة أن هذا الوباء غير خطير وأنه ليس أخطر من الإنفلونزا العادية، وقد جاءت هذه التوجيهات من خلال التعليمات الرسمية الصادرة عن السلطات الصحية الى دوائر الدولة ومؤسساتها التعليمية والمهنية. كما أن السلطات الصحية لم توقف السفرات السياحية المتوجهة الى بؤر الوباء في شمال إيطاليا على سبيل المثال، بل ولم تراقب من عاد منها بل تركتهم أحرارا ينشرون ما كسبوه في سفرهم بين الناس! بل ولم تحجر المصابين الذين أكدت التحاليل المختبرية إصابتهم الأكيدة بالوباء، إنما تركتهم في بيوتهم!.
يعتبر أهل الإختصاص وباء كوفيد19 وباءا مجتمعيّا، أي يسري بين أبناء المجتمع المتصلين مع بعضهم وهكذا فقد تحتم فض الإتصال بين أبناء المجتمع من أجل قطع سلسلة إنتشاره، غير أن هذه الإجراءات لم تتخذ بوقتها في أوربا حتى غدت خطواتهم بهذا الشأن متأخرة! حيث أبقت السلطات المدارس والجامعات مفتوحة أبوابها، وأبقت دور السينما وأماكن الإزدحام والتجمع قائمة حتى حصلت القفزات النوعية في أعداد الإصابة.
فوق هذا وذاك، لم تفلح معظم دول أوربا في تجهيز المختبرات بأدوات الفحص والتشخيص الكافية حيث تباطأت عملية الكشف عن الإصابات. من الأمور الأخرى التي قد لا تصدق في ظل ظروف العدوى من الوباء هي منع بعض المستشفيات أطباءها وكادرها الطبي من إرتداء الكمامات الوقائية والضرورية لعدم توفرها بالشكل الكافي للجميع!. وهكذا فالخرق يبدو واضحا لمبادئ التصدي للوباء وهي الكشف والمنع والعلاج!.
إنتشار الوباء في أوربا بشكل سريع وحاد هو تحصيل حاصل حيث تضاعفت اعداد الإصابات بشكل ملحوظ ومميز كنتيجة حتميه لخرق أسس التصدي المفروضة. إن أخطأت أوربا في إجراءاتها ربما بدوافع إقتصادية، فقد أخطأت معها أيضا بعض الدول السياحية الأخرى التي تغاضت أو أخفت أو قللت من العدد الحقيقي للإصابات فيها، خوفا على مردوداتها الاقتصادية المتعلقة بالسياحة. هذه المنافع المالية المؤقتة ربما تكلف المجتمعات خسائر ومضاعفات لا تحمد عقباها فالمثل يقول "قيراط وقايه خير من قنطار علاج"!.
جميع السلطات الصحية في دول العالم تدرك بأن وباء كوفيد19 ليس له دواء وليس له لقاح حتى هذه الساعة، بل ربما يطول وقت الإنتظار للحصول عليهما، كما يدرك الجميع بأن الثقافة الصحية ومعرفة أساليب تجنب العدوى هي السلاح الوحيد الآني أمام هذا الوباء. رغم هذه الحقائق نجد تقصيرا من بعض السلطات الصحية في نشر المستجدات من النصائح والمعلومات المنبعثة من مصادر البحوث المختصة بين الناس من جهة، والتأكيد على المعلومات الصحيحة وتفنيد المعلومات الخاطئة الواردة عن هذا الوباء من جهة أخرى.
بل نجد العكس حيث تتسرب المعلومات الخاطئة عن الوباء من خلال وسائل التواصل الإجتماعي والتي قد تحمل بين طيّاتها أما تهويلا للوباء مما يبعث حاله من الخوف والهلع في نفوس الناس، أو تحمل روح التهوين والتخفيف من شدة الوباء بما يجانب الحقيقة، فتجعل الناس في تراخٍ مستمر وعدم إكتراث. هذه الأمور قد تمر وتنتشر بين الناس دون رادع ملموس وتصدي من قبل الإعلام الصحي في بعض الدول.
المعلومات التي تهوّل من شدة الوباء وتنذر بمحو البشرية جمعاء يقابلها حقيقة أن هذا الوباء لا يقتل أكثر من 4 بالمائة من المصابين فيه، حيث أن 80 بالمائة من المصابين لا يعانون إلاّ من أعراض إنفلونزا بسيطة لا تستحق تدخل الأطباء. بينما 15 بالمائة فقط من المرضى يستحقون مراجعة الطبيب أو المستشفى و5 بالمائة يحتاجون الى العناية الصحية المركزة. رغم أن غالبية المصابين لا يحتاجون العلاج غير أنهم يحتاجون الفحص المختبري من أجل التشخيص لكي يتم عزلهم عن الأصحاء من أجل ألاّ ينشروأ إصاباتهم بين أهلهم وذويهم ومن على صلة معهم. تكمن في هذا الوباء الخطورة عند كبار السن ومن يشكو من أمراض مزمنة في الرئة والقلب أو يعاني من مرض السكري والبدانة أو السرطان أو من نقص المناعة. بينما لا خطورة تذكر عند الأطفال ومن هم في مقتبل العمر، رغم هذا فالأطفال يعتبرون مصدر قوي لنقل العدوى للآخرين.
مضار التهويل تقابلها مساوئ التهوين من الوباء والتي قد تثني همم الناس عن حماية أنفسهم من المرض وعن إتباع النصائح والإرشادات المنصوص عليها. مهما كانت مبررات من يهوّن من خطورة الوباء، فمبرراته لا ترتقي الى شدة الضرر الذي قد يحدثه هذا التهوين، وهكذا فوباء كوفيد19 لا يتقبل التهويل ولا يرتضي التهوين في التعامل معه أبدا!
اضف تعليق