من ابرز ما واجهته تجربة أحزاب الاسلام السياسي في دولٍ عدة، مسألة التعددية في الاحزاب والتنظيمات، السياسية منها او الجماهيرية، لاسيما وانها تعد نفسها البديل الافضل للأنظمة التي لم تقدم للشعوب سوى الكبت والقمع والتخلف والحرمان، لذا تجد في الحزب "الإسلامي" المتنفّذ في هذا البلد او ذاك، ما يكفي لقيادة دفّة الامور، لما يحمله من افكار وقراءات عن الدين والعقيدة، وأنها الأقرب الى الديمقراطية من غيرها، وبالنتيجة؛ هي وحدها القادرة على ترجمة مطالب الشعب وتحقيق ما يصبو اليه.
وفي عديد التجارب، لاحظنا صعوبة بالغة في تقبّل هذه الاحزاب لمجرد وجود أحزاب أخرى الى جانبها، بل حتى وجود الجمعيات والنقابات والاتحادات، لسبب أنها ربما تتفوق عليها في مساحة القاعدة الجماهيرية، حتى وإن كانت هذه الجماعات والتنظيمات هي الاخرى تتبنى الاسلام السياسي، او تحمل الهوية الدينية ايضاً، او هي ليبرالية وعلمانية معتدلة ومتفهمة للوضع الاجتماعي. فالمشكلة في الحكم والسلطة، تبقى كما هي، لا أحد يجرؤ على المساس بها او حلّها! مما يضع هذه الاحزاب "الإسلامية" أمام تحدي فكري خطير، ربما يهددها بالسقوط في منحدر الديكتاتورية.
الفوائد للتجربة الاسلامية ذاتها
ربما تتظاهر احزاب الاسلام السياسي بانها تحترم التعددية السياسية، وتفتح الابواب على مصراعيها للتنظيمات والجمعيات الاخرى، تجسيداً لحرية الرأي والعقيدة التي أقرّ بها الاسلام منذ البداية. وهنا؛ يذهب سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "من عوامل الاستقرار في العراق"، الى أبعد من هذا وهو يستشرف مستقبل العراق منذ سنين، ليؤكد أن حرية الاحزاب السياسية يمثل أحد ثلاث أركان في الدولة يجب ان تتوزع عليهم مصادر القوة، وما بدوره يحقق الاستقرار للعراق، الى جانب الفقهاء والمراجع، والعشائر. كما يؤكد سماحته مبدأية فكرة التعددية الحزبية، في اشارته الى تجربة الاحزاب السياسية في العهد الملكي بالعراق، فحتى وإن "لم تكن هذه الاحزاب حرة، أو انها لم تكن اسلامية، إلا انها كانت تتنافس بينها مما سبب الاستقرار وتحقيق الامن للبلاد نسبياً، فكل حزب كان يترصّد للحزب الآخر أي خطأ صغير حتى يريه للناس ليجلب الناس الى نفسه، وبذلك سلمت – إلى حد ما- العتبات المقدسة والحوزات العلمية، وسلم الزائرون وسلم الاقتصاد والاجتماع والسياسية في نطاق محدد".
أما كيف تخدم التعددية السياسية، فكرة او نظرية "الاسلام السياسي" وتجعله على الطريق الصحيح، فان سماحته في "فقه السياسة" عندما يبين "موقف الاسلام تجاه الاحزاب"، فانه يحدد المواصفات الدقيقة لنجاح التجربة، عندما تكون الاحزاب السياسية في طريق واحد لتحكيم النظام الاسلامي في الدولة، على الاصعدة كافة، فبعد تأكيده عدم جواز الاستبداد الحزبي من الناحية الشرعية، فانه يقول: "لا يقال إن كان الحزب الآخر يريد الاسلام تشريعاً وتطبيقاً فلا داعي الى تنظيم حزب ثان، بل ينضمّ من يريد ذلك، الى هذا الحزب الواحد...". ثم يجيب سماحته على الاشكال بوجود اكثر من حزب في الاتجاه الواحد، "...ان الحزب الثاني يريد اقامة الاسلام، لكن له رأي خاص في كيفية التأطير وكيفية التطبيق، فمثل الحزبين في ذلك، مثل المجتهدين الذين كلاهما يستنبط في دائرة الادلة الاربعة، لكن يختلف استنباط هذا عن ذاك، فكلا الحزبين يعملان استنباطاً وتطبيقاً في دائرة الاسلام".
لا لذريعة الفوضى
في الوقت الذي يبين سماحته الفوائد الجمّة للتعددية الحزبية وضرورة تشكيل الجماعات والتنظيمات في الدولة الناجحة، فانه يفنّد الأقوال باحتمال شيوع الفوضى السياسية بوجود احزاب وتكتلات متعددة وعشوائية، نعم؛ ربما يكون ذلك عندما تفتقد الدولة للمعايير الاساس في هذا الجانب، وايضاً للقوانين التي تنظم عمل الاحزاب والجماعات. ولا أدلّ على ما نقول، من الدول الناجحة التي تتميز دائماً بتعدديتها الحزبية ووجود مساحة مفتوحة ومسموحة لعمل الاتحادات والنقابات، فالجميع يصبّون جهدهم وعملهم لتقدم البلاد وتطور الاقتصاد وحماية المجتمع.
لنأخذ مثالاً؛ الاتحادات الطلابية؛ من شأنها ان تتابع نشاطات الطلاب وتهتم بأمورهم، بما يعزز الثقة لدى الطلاب في المراحل كافة، من أنهم قادرون على فعل شيء لبلدهم، لا أن يكونوا أداة سياسية بيد هذا الحزب او ذاك الكيان السياسي، كذلك الحال بالنسبة للنقابات المهنية، مثل الفلاحين والعمال والمحامين وهكذا... فكما أن الاحزاب السياسية تعمل وفق منهج سياسي معين، فان هذه الاتحادات تعمل ايضاً وفق مجالها الخاص وتركز جهدها لانجاح مشروعها ضمن دائرة تخصصها، فتكون لدينا مجموعة دوائر ترتقي سلم التطور والنجاح. وهذا من شأنه ان يتمخض عن أمرين هامّين من جملة أمور؛ الاول: الارتقاء بمستوى الوعي والثقافة لدى افراد المجتمع. والثاني: لجم نزعة الفوضى والانفعالية غير المنضبطة التي ربما تستفحل لدى شريحة من الناس لاسباب ودوافع عديدة.
والى ذلك يشير سماحة الامام الراحل عندما يتحدث عن التنظيمات الناجحة ويصفها بـ "التوعوية"، فاذا لم تكن كذلك "لم تنجح في التخطيط والعمل والسلوك أولاً، ثم تقع ألعوبة بيد المستعمرين والمستبدين ثانياً".
ويوجه سماحته هذا النوع من التنظيم الى اتجاهين:
الاول: التوعية العامة، وهي التي تعمل على إعطاء الرشد الفكري لألف مليون مسلم.
الثاني: التوعية الخاصة، وهي التي تعمل على إعطاء الوعي المركز العميق لكل افراد التنظيم.
من هنا يتضح لنا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق أحزاب الاسلام السياسي، اذا ما ارادت حقّاً الإسهام في بناء الدولة وحماية المجتمع وتقدمه، وإلا فان غلق باب التعددية، أو حتى التضييق على التنظيمات والجماعات وحرمانها الظروف المطلوبة من خلال سنّ قوانين تعجيزية، ، يفتح الابواب على مصراعيها على حالة الفوضى الشاملة في المجتمع والدولة، حيث تضيع بوصلة الفكر والثقافة، ثم تلتبس الاهداف مع الوسائل، ونرى "كلٌ يدّعي وصلاً بليلى..."! ولا يرى الحق إلا في جانبه، وأنه الافضل والمحق ولا غبار عليه، ولا يجب ان يتهم بفساد او انحراف.
اضف تعليق