كثيرا مايعزف مستشرقو الغرب ووسائل اعلامه برمي الإسلام بالعدوانية واللاحضارية والنأي عن القيم الإنسانية. فتاخذ بعدا في مفاهيم شعوبهم ومساحة في تفكيرهم ونتيجة لتنوع الاثنيات والثقافات ودواعي الاختلاط بين الجاليات فتطرح من قبلهم فتحرج الكثير من المسلمين وبالخصوص شبابنا في الغرب... ويزداد عمق تلك الإشكاليات وترتفع وتائرها وتتأصل مصداقيتها بجرائم مايرتكبه اوباش التطرف والتكفير ووحوش الإرهاب من اذناب الوهابية. فتجد فيهم قوى الظلام والهيمنة ضالتها فتحركهم وفق اجندتها... !!!
والملاحظ من خلال الاستقراء والتحقيق والنظرة الواعية في حوارتنا مع مفكريهم وكهنوتهم يتكشف ان جل ما يطرحونه من دعاوى وأفكار واشكاليات تتسم بالسطحية او بالتأويل المخل او التحريف الممج او التمحل الفج وبخلط الأوراق والسفسطة: بان الإسلام تصنيع بشري والقرآن خليط من اخبار الأديان واعراف الاعراب ويحض على العدوان والاستعباد وانتشار الإسلام بالسيف ومحمد نزوته الجنس والتسلط والاسلام دين التخلف والتطرف وامتهان المرأة... الخ
وبحوله سبحانه سنطرح تلك المزاعم تباعا ونناقشها بموضوعية وببيان مكثف يجمع بين الاصالة والحداثة ومستند على الدليل والبرهان ولعل فيها مقدارا من الفائدة للصدور الواسعة والعقول النيرة والقلوب المنفتحة.
واغتنم فرصة مولد الانوار والرحمة الإلهية المهداة المصطفى محمد(ص) وحفيده المجدد امام الائمة الامام جعفر بن محمد الصادق لطرح هذه السطور المتواضعة لتفنيد مزاعم ان الإسلام مصنع للعبودية ومبتدعها او بإثارة شبهات تشجيعه السبي واتخاذ الخدم...
وهذه التهم والشبهات والاشكاليات ستتهاوى امام الدليل وتتساقط بالبرهان والإسلام براء من تلك التهم الباطلة وما هي الا غشاوة العمى او التطرف والحقد.
قال تعالى: (يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين) يوسف:88
الرق في اللغة والاصطلاح
الرِّقُّ في اللغة هو العبودية. وأصل العبودية: الخضوعُ والذلّ. ابن منظور: (لسان العرب) مادة (رقق).
والرِّق، كما عرّفهُ فقهاء الإسلام: عجز حكمي، يصيب من يقع أسيراً في حربٍ مشروعة، وهو عجز مؤقت، يزول بالفداء والعتق. د. عبدالوهاب أحمد الرحمن: (بريطانيا وتجارة الرقيق في الخليج العربي وشرق أفريقيا)، مجلة كلية الآداب، جامعة الإمارات، العدد الأول 1405هـ - 1985م، ص10
الحرية حق رباني واصل انساني
الحرية اصل إنساني، فكل إنسان يولد حرا، وهو ما يستدعي عدم التسلط عليه وإلغاء إرادته، وهذا اصل يدين كل أشكال الاستبداد والاستعباد الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمكن لنا من خلال هذا الأصل التأكيد على أن تفجير الطاقات الكامنة بداخل الإنسان تعتمد بشكل كبير على عودته لأصل خلقه وهما (الحرية) و(الكرامة)، فكلما تمتع الإنسان بحرية في ممارسه أنشطته وفاعلياته في هذه الحياة كلما زادت قدرته على الإبداع، على العكس من ذلك فان التسلط عليه يفقده - بنسبة التسلط -القدرة على الإبداع، وهذا ما هو واضح لكل ذي عينين اليوم، ونحن نرى الأثر الواضح لهذا المبداء الإلهي والقانون الإنساني على مختلف الشعوب. والاسلام بشر بالمبادىء الانسانية بل وطبقها وحتى حث عليها واثاب فاعلها. ورسول الله محمد(ص) كان الاسوة والقدوة
جذور العبودية والطبقية
العبودية او استرقاق الانسان معضلة إنسانية قديمة، أفرزتها سُنَّةُ الصراع، والتدافع الإنساني عبر التاريخ، في غياب أي قانون إلهي، أو وضعي، يمكن أن يضبط (حق القوة) أو يضع له حدا يقف عنده، فضلا عن أن يمده بِبُعد أخلاقي إنساني يهذبه، والمتتبع لتاريخ الحضارات البشرية القديمة، البابلية والفرعونية، والفارسية، والاغريقية والرومانية والهندية وغيرها يهوله تواطؤها على ممارسة الرق على نطاق واسع وبدون أي ضوابط باعتباره عملا أخلاقيا، وتطورا إنسانيا عندهم لكونه يعني نجاة الأسير من القتل والإكتفاء باستعباده، بالنظر إلى أن السماح للإنسان بالعيش –ولو بأوطأ درجات الحياة– أفضل من قتله، فعلى أكتاف العبيد بنى البابليون الجنائن المعلقة والفراعنة الأهرامات، والفرس هيلبولس والمعابد في الهند وسور الصين حتى أضحى الرق عندهم نظاما عرفيا، وأداة لتنمية رأس المال، وكان للفقر دور كبير في نشر، وتجذير هذه الظاهرة على مستوى حضارات أخرى، حيث كان الشخص في الهند مثلا يضطر لبيع نفسه، وأولاده، تَخَلٌّصا من الفاقة الشديدة، والفقر المدقع، حيث نشأت في الهند ولازالت طبقة عليا وطبقة سفلى (المنبوذين) التي لا يحق لها التملك. كما وسار الغرب على هذا المنوال فطبقة النبلاء والاقطاع وطبقة العبيد اوالاقنان حيث كان في روسيا القيصرية تباع الأرض مع (الاقنان)الفلاحين. !
الطغاة جعلوا العبودية مبدأ الإلهي
فقد صاغ الفرس، نظرية الحق الإلهي التي صارت عندهم عقيدة مرعية بمقتضاها يرون أن دماء الآلهة تجري في عروق الملوك، مما جعلهم فوق طبقة البشر العاديين، وجعل غيرهم عبيدا لهم مما قسم سكان فارس إلى آلهة، وعبيد.
عمالقة الفلاسفة أثينا: خسة البشر خلقهم الله عبيدا
وكان الرِّقُّ نظاماً شائعاً في اليونان، وكان أهل (أسبرطة) قُساة في معاملة أرقّائهم، حتى أنّ عددهم إذا زاد عند سيِّدهم من الأسرى، كان من حقّه أن يقتلهم ولا يُبقي إلَّا على من يحتاج إليهم.
ومن الغريب أن فلاسفة اليونان، وفي المقدمة منهم (أفلاطون) و(أرسطو)، أقرّوا الرق وعدّوه ضروريًّا، ونظروا إلى الرقيق على أنهم صنف خسيس من البشر، خلقهم الله ليكونوا عبيداً.
قانون روما يجيز تعذيب العبيد وقتلهم
ثم جاء القانون الروماني وأباح الاسترقاق، كما أباح للدائن أن يستولي على مدينه، وأن يسترقّه؛ إذا كانت أملاكه لا تفي بالدين. كذلك جرى الفُرس على نظام الاسترقاق، وأباحوا للسيد أن يُعذِّب عبده، أو يقتله إذا هفا للمرة الثانية.
تعامل اليهودية والمسيحية مع العبيد
وبَنَى اليهود فكرهم السياسي والديني على نظرية (الشعب المختار) والحق في استعباد غيرهم، حيث زعموا أن النبي نوح عليه السلام قد دعى على ابنه حام بأن يكون ولده عبدا لأعمامه: سام، ويافث كما جاء التوراة: (ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم) سفر الخروج 9:20-27
ثم جاءت المسيحية؛ فأقرّت الرِّقّ، وأوصت الأرقّاء بالصبر على العبودية والرضا بها!
العبودية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام
كانت العبودية سائدة في حواضر وقبائل العرب قبل الإسلام، لا فرق عندهم بين أن يؤخذ الرقيق في حرب مشروعة، أو عدوان ظالم، أو احتيال على أخذ الحر غدراً وخيانة وأكل ثمنه. وكان العرب يستخدمون العبيد في الأعمال، ويبيعونهم، ويتزوجون السبايا بغير صَداق، ويستولدونهن.
كما وكانت أسواق العرب في الجاهلية معارض لعرض الرقيق المجلوب من خارج الجزيرة العربية. واكثراهل اليمن باستعمال الرقيق واستعان اهل الحجاز من ملاك المزارع بالعبيد للتوسع بالاستصلاح للأراضي والاعتناء بالمحاصيل واستفاد اهل المدن من العبيد للعمل في الحرف والخدمة في المنازل. انظر سعيد الافغاني أسواق العرب في الجاهلية والإسلام دار الكتاب الإسلامي في القاهرة بلا تاريخ.
ويبقى هناك سلوك استعلائي في المجتمع على مر التاريخ الانساني تقريباً ينظر الى طبقة المستضعفين ومن بينهم المماليك نظرة ازدراء، ويعاملهم من فوق الابراج العاجية..
الإسلام بزوغ فجر التغيير
كان الرق شائع في أمم الأرض كلهم عند بزغ فجر رسالة الإسلام الربانية في بيئة متخلفة جاهلية، تعرف الكثير من العادات الظالمة التي يتطلب تصحيحها –جذريا– وضع أسس لتصور إنساني شامل لبناء بيئة إنسانية حقيقية لمكارم الاخلاق والعدل، والمساواة، لبسط سيادة “قوة الحق” من جديد، وبناءً استيراتيجية مستقبلية تضمن تحقيق النقلة النوعية في المسيرة البشرية، ويؤسس لبناء العلاقة الإنسانية على أساس تكريم الأخوة،، والعدالة، والإحسان وصولا إلى المساواة، مرورا بتغيير المعتقدات الجاهلية وتصحيح التصورات الحضارية، حتى لا نغير ظلما بظلم، أو نحاول بناء واقع جديد –ولو كان فاضلا– على أسس الإكراه، لأن ما أقيم على الإكراه لا يستمر، وإنما يكتب البقاء لصحيح التغيير للواقع المبنيِّ على تغيير وعي القناعات، وترشيد التصورات، فتغييرٌ المفاهيم وتطبيقها من خلال الاسوة يسبق تغيير السلوك المجتمعي، لأجل تٌثميره.
شتان بين المستعبد القاهر والمحرر المؤدب
مما لامشاحة فيه ان الإسلام ما كان مؤسسا للعبودية على الاطلاق وان الغاء ارث متراكم قديم متداول على نطاق واسع ويعتبرامرا طبيعيا جدا يحتاج الى ترويض من خلال احكام قاعدة ذلك التصور الشامل الذي يشكل إطارا ملائما لكل الصياغات الانسانية الجزئية، وموجِّها رئيسيا لكل سلوك جزئي حتى لا يناقض الأصول الثابتة في الأخوة، والتكريم، والعدل، والمساواة، ان الإسلام جاء فرغب الناس لعتق العبيد في الوقت الذي كانت فيه سوق بيعهم رائجة، سواء عن طريق جلبهم من المناطق غير الخاضعة لحكم الإسلام، أو عن طريق الحروب التي كانت تخلف وراءها عددا من الأرقاء.
الإسلام فتح أبواب الخروج من نظام الرق
1- ان الاسلام اكد تاكيداً عظيماً على تحرير العبيد، ورسم ما لفاعله من الجزاء الوافر والاجر الجميل ومن ذلك قوله تعالى: (وما ادراك ما العقبة * فك رقبة)البلد:13.
2- أمر القرآن الكريم بتسريح الأسرى والسبايا بغير مقابل، وأباح تسريحهم مقابل الفدية بالمال أو المبادلة بالأسرى. ومثال على ذلك أن رسول الله (ص) أطلق سبي هوازن (حنين)، وأسرى بني المصطلق، وأسرى فتح مكة.
3- أباح الإسلام للأرقّاء أن يكاتبوا سادتهم، أي يتفق العبد مع سيِّده على مالٍ يؤدِّيه له مقسَّطاً عليه، فإذا أدَّاه فهو حُرٌّ. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)النور: 33.
4- سَهَّل الإسلام على الأرقّاء الحصول على المال الذي يفتدون به حرّيتهم؛ عن طريق الزكاة. قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ). النور: 33
5- وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)التوبة: 60. قسمت الزكوات الى ثمانية اقسام واحد منها قوله: «وفي الرقاب» فهو متعلق بمدر و التقدير: والمصرف في الرقاب أي في فكها كما في المكاتب الذي لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه أو الرق الذي كان في شدة.
6— ترشد الاية في قتال المشركين تخيير بين المن اوالفداء قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد: 4.
الطبيعة الإنسانية تتلائم بالتدرج بالاحكام
ضَيًّق الإسلام مصادر الاسترقاق وشدد في حرمة بيع الحر واسترقاقه، وحصر دائرة الرق فيما أخذ من طريق الجهاد المشروع، ثم سعى لتحرير الأرقاء، ورغب في ذلك ترغيباً ظاهراً بفتحه وتكثيره لمجالات العتق، ككفارة اليمين والظهار والقتل، مع حثه وتأكيده على الإحسان إلى الرقيق وتعلميهم وتأديبهم وإكرامهم وإعانتهم بهبات الأموال.
حيث لم يترك له من الأسباب الشرعية إلا الجهاد في سبيل الله، وجعله في هذا السبب خيارا من أربع خيارات، لم يصرح في القرآن إلا باثنين منها، ليس من بينهما الاسترقاق مما يوحي بتأخر رتبته بين تلك الخيارات.
العتق التطوعي واحد وجوه صرف الزكاة لتحرير العبيد
فقد فتحت كل الأبواب، والنوافذ للخروج من حالة الرق (كالعتق الطوعي) المرغب فيه! لحديث: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) (متفق عليه)، والعتق عن طريق الكتابة: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) النور: 32، ففي بداية الآية الأمر الإلهي بالاستجابة لرغبة مبتغي الحرية وفي نهايتها الأمر للسيد وللحاكم وللمجتمع بتقديم يد العون المادي له كي يسترد ما التزم به مقابل حريته.
كما جعل التحرير (بندا من بنود صرف مداخيل الزكوات) قال تعالى:(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة: 60
كفارة ضرب العبد عتقه
جعل العتق كفارة للطم العبد، أو ضربه: فعن أبي مسعود الأنصاري قال:
كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا: (اعلم، أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه)
فالتفت فإذا هو رسول الله (ص).
فقلت: يا رسول الله ! هو حر لوجه الله.
فقال: (أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار) (صحيح مسلم)
وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله (ص) يقول: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) (صحيح مسلم).
كفارة القتل تحرير رقبة
حيث جعل الإسلام كفارة القتل تحرير عبد: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ..) النساء: 45.
وكفارة للحنث في اليمين: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ..) المائدة: 89.
الإسلام ينفي العبودية بتأسيس قاعدة الاحسان (الاخوة الإنسانية)
الملاحظة الجليلة هي تأكيد الإسلام على الاخوة الإنسانية فقد حث النبي (ص) على حسن معاملة العبيد على قاعدة الأخوة الإيمانية، ولشدة حرصه على الإحسان إليهم كان آخر كلامه، وهو ينتقل إلى الرفيق الاعلى: “الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم”، وقد تسامت عناية الله بهم، وتأكيده القاطع على الارتقاء بمستوى التعامل معهم حين نقلهم من دائرة الحقوق، إلى دائرة الإحسان، وجعلهم في مقام مع الوالدين من خلال وصية قرآنية صريحة:(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) النساء: 36.
وقال (ص): «أيَّما رجل كانت له جارية أدّبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، وأعتقها، وتزوجها، فله أجرُ الله».
انصاف العبيد
اكد الطبري ان الرقيق كانوا يعملون مع اسيادهم جنبا الى جنب في المزارع ويتقاضون اجورهم عينا من المحاصيل الزراعية. وكان منهم يعمل في الري واستصلاح الأراضي والتقنيات الزراعية... الخ انظرمؤلفات ابن اصال وابن الاعرابي وابن العوام.
وعندما لم يراع احد الصحابة مقتضى الأخوة، والمساواة الإنساية في حق أحدهم خاطبه رسول الله (ص) في عتاب واضح له قائلا: إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم” (متفق عليه).
وقد نهى (ص) عن التطاول عليهم بالقول، أو الفعل: “لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي، فكلكم عبيد الله. ولا يقل العبد لسيده مولاي، فإن مولاكم الله”(متفق عليه).
النبي (ص) اغلق الأبواب بوجه العبودية
لقد شدد النبي(ص)في غلق الباب أمام أي خيار آخر حيال الاسترقاق حيث قال (ص): (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي، ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجرأجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) صحيح البخاري.
فما أشد الموقف الذي يتحول فيه شفيع الأمة إلى خصم لفرد منها! ثم قال: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، من تقدم قوما، وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا – بعد خروج وقتها-، ورجل اعتبد محررا) رواه أبو داوود
النبي الاسوة ينفض غبار الاستعلاء
كانت سيرة النبي(ص)تحقق أهدافا أخلاقية. كالتواضع و البراءة من الكبرأوكان المقصود منها تعليم الآخرين، كما يروى عن الرسول (ص) انه قال:خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد و ركوبي الحمار مؤكفا و حلبي العنز بيدي و لبس الصوف و التسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي. انظر مكارم الاخلاق: 100
وقبل تحريم التبني لم يكتف الرسول (ص) بعتق زيد وتبنيه بل زوّجه حاضنته (أم أيمن) التي كان قد أعتقها بدورها... وحتى انه (ص)يزوجه من ابنة عمته الحسيبة النسيبة (زينب بنت جحش) في كسر للأعراف الجاهلية القبلية وتحطيم الفروق الطبقية وتطبيق المساواة بين العبيد والاسياد على ارض الواقع وفي بداية الدعوة وفي ظل طغام قريش واجواء الجاهلية فهل عامل أحد عبدًا بأنبل وأكرم من هذا التحدي ؟
وهكذا رفضت (زينب) وأهلها الأسياد بنو الأسياد مصاهرة عبد سابق، فأنزل الله تعالى آية خالدة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) الأحزاب:36 قال جمهور المفسرين – فيما يرويه ابن كثير والقرطبى والطبرى وغيرهم – أن هذه الآية نزلت بسبب رفض زينب وقومها تزويجها من زيد بن حارثة، فلما نزلت الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها: (إذا لا أعصي الله ورسوله قد أنكحته نفسي) وقال أخوها عبد الله بن جحش رضي الله عنه: (يا رسول الله مُرْنِي بما شئت)، فتزوّج زيد زينب رضي الله عن الجميع. انظر تفسير ابن كثير – سورة الأحزاب وكذا تفسير القرطبي والنسفى والطبرى والبغوى والشوكانى.
وكان (ص) يمر على الصفوة وهم يعانون أشد ألوان التعذيب تحت لهيب شمس مكة الحارقة، وهم ياسر وزوجته سميّة مولاة بني مخزوم وابنه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر مولى بني مخزوم أيضا وروى الطبراني والهيثمي والحاكم – وصححه الذهبي – أن الرسول (ص) قال لهم " صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ". وهي شهادة نبوية ثابتة لهم بالجنة.
ويعد المولى في طبقة المملوكين، وللفظة "مولى" معانٍ عديدة، منها المعنى الذي نقصده منها في هذا المكان، وهو "العبد". ولا يشترط في المولى أن يكون أعجميا
ونزلت في عمّار الآية الكريمة (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، فقد عَذّبَه الكفار حتى سبّ النبي تحت الإكراه خشية القتل، وذهب بعدها يبكي فسأله النبي: "فكيف تجد قلبك ؟"، أجاب عمّار: مطمئن بالإيمان، فقال له النبي عليه السلام: "فإن عادوا فعد"، يعني أنه لا إثم عليه فقد فعل هذا مضطرًا مكرهًا. أخرجه الطبري وأبو نعيم وابن سعد والحاكم.
وروى الحاكم أن الرسول (ص)قال: "إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحق". وأخرج أحمد والحاكم والذهبي: "ما خُيِّر ابن سميّة بين أمرين إلا اختار أيسرهما". وأخرج مسلم وأحمد وابن سعد: أن عمّارًا كان يحمل لبنات من الطوب لبناء المسجد النبوي أكثر مما يحمل أصحابه، فجعل النبي (ص) ينفض رأسه ويقول: "ويحك يا ابن سميّة تقتلك الفئة الباغية". وبالفعل استشهد عمّار يوم صفين، قتله جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وكان عمّارُ في جيش الإمام علي بن أبي طالب.
وكانت بين خالد بن الوليد وعَمَّار بن ياسر مشادة، فأغلظ له خالد القول، فشكاه عمار إلى النبي (ص)، فقال (ص): (من عادى عمّارًا عاداه الله، ومن أبغض عمّارًا أبغضه الله) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، فخرج خالد مسرعًا حتى لقي عمّاراً واعتذر له واسترضاه حتى رضي.
هل رأيتم ؟ الله عز وجل يعادي من عادى عمّارًا العبد السابق والرب يمقت من يمقته ؟!. هل يطمع أحد من الأحرار في منزلة أعلى من تلك التي بلغها عمَّار ؟!!.
النبي(ص) يكرم (المرأة) بتحرير الاماء ورفع مقامهن
وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى كذلك أن النبي (ص) كان يقول لأم أيمن: (يا أمّه).. أي تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي الله عنها ؟ لقد رفعها النبي (ص) إلى مقام أمه، فهل هناك من هي أرفع منزلة من أم سيد ولد آدم أجمعين ؟! طبقات ابن سعد ج8 تراجم أمهات المؤمنين
وكان بلال بن رباح رضي الله عنه من العبيد السابقين إلى الإسلام، وهو ممن تعرّضوا للتعذيب المروّع بمكة لإجبارهم على ترك الدين الحق. وكان الرسول (ص) يتألم من أجلهم، وقال (ص): (لو كان عندنا شيء ابتعنا بلالا) (أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب وهو في أسد الغابة 1/243)، وسمع بذلك أبو بكر فاشتراه بسبع أواق وأعتقه (ابن سعد 3/1/165).
القرآن يكرم ولايقايض بين العبيد والاسياد
وأخرج مسلم في فضائل الصحابة أن قوله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم...) الانعام 52 – 53 نزل في بلال وآخرين من الضعفاء، قال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء عنك حين نجلس معك حتى لا يتجرأون علينا !! ولكن الله تعالى أنزل أمرًا سماويًا للنبي بألا يطرد أولئك المؤمنين من أجل المتكبرين من المشركين.. لأنه لا فضل لأحد على أحد في الإسلام إلا بالتقوى، ولا قيمة لأموال المشركين ولا أحسابهم في ميزان الله رب الجميع. وثبت عن النبي (ص) أنه قال: (بلال سابق الحبشة) (رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم 3/285 وأقره الذهبي). وكان بلال رضي الله عنه مع الرسول في كل الغزوات..
وتولى بلال الآذان طوال حياته لعذوبة صوته. على رغم قلبه للشين سينا. وشهد له النبي بالجنّة في حديث رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم
النبي (ص) يكرم (المرأة)السبية جويّرية فحرّرة قومها من العبودية
كان الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق عدوًا شديد الضراوة للمسلمين. ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرًّا من تجريد جيش لكف بأس بني المصطلق، وبالفعل لحقت بالحارث هزيمة ساحقة، وقع فيها كل قومه في الأسر. وكان من بين الأسرى ابنته جويّرية. فجاءت إلى النبي عليه السلام تطلب معونته في فك أسرها مقابل تسع أواق تدفعها لثابت بن قيس الذي وقعت في نصيبه. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أو خير من ذلك" ؟ فسألت: ما هو ؟. أجاب صلى الله عليه وآله وسلم: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" يعني أن يدفع عليه السلام المتفق عليه لثابت بن قيس مقابل تحريرها ثم يتزوجها صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم يا رسول الله. قال عليه السلام: "قد فعلت". وبهذه الزيجة المباركة تحرّر كل بني المصطلق من الأسر، إذ انتشر الخبر بين الصحابة فقالوا جميعًا: أصهار رسول الله في الأسر ؟! أي استنكروا أن يستبقوا بني المصطلق في الأسر بعد أن صاهرهم النبي، وانطلقوا فحرّروهم جميعا بلا مقابل. وكان رد فعل هذا الكرم النادر من قبل النبي وأصحابه أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم. تقول عائشة "أعتق بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها". أسد الغابة – ج7
وهكذا حرّر النبي قبيلة بأكملها بهذه الزيجة.. فهل فعل هذا سواه ؟
نبي الرحمة (ص) حرر رقاب ستة آلاف اسير
ونلاحظ هنا أن الرسول (ص) قد اتبع هذا الأسلوب الحكيم لتحرير الأسرى بطريقة غير مباشرة أيضا مع أسرى هوازن وثقيف وكانوا ستة آلاف نسمة. فعند ما جاءه وفد القوم مسلمين، وناشدوه إخلاء سبيل أسراهم قال لهم: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"، وأرشدهم إلى أن يأتوا وقت الصلاة، ويستشفعوا بالنبي إلى المسلمين. ففعلوا، فقام النبي وسأل الناس أن يخلوا سبيل الأسرى، ولكل رجل لا تطيب نفسه بالتخلي عن أسيره ستة من الإبل من أية غنائم تأتى إلى النبى فى أقرب وقت ممكن، تعطى له مقابل كل نفس يطلق سراحها. فقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله، وقال الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله، وهكذا حرّر النبي كل الأسرى، ولكن بأسلوب غير مباشر كما حدث في غزوة بني المصطلق.
والدعوة إلى الخير تحتاج إلى مثل هذه الأساليب البارعة، لأن كثيرا من الناس يمقتون الوعظ المباشر، والأمر أشدّ عندما تطالبهم بالتخلي عما يملكون بلا مقابل.
اضف تعليق