إن لدينا اليوم الطاقة والعمر، ولكنهما سينفدان يوماً ما، ولانستطيع حينئذ أن نضيف حتى حسنة واحدة (فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل) فلنستثمر أعمارنا إذاً بكسب المزيد، ولنحاول بلوغ المراتب المعنوية العالية بفعل المستحبات والمندوبات والتوجه إلى الله تعالى. وهذه الحالة المعنوية كانت فيما مضى...
"الذكرى السنوية السادسة عشر لرحيل الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي"
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين(1).
ينقسم بحثنا الذي سنعرض له ـ بعون الله تعالى ـ إلى قسمين، يدور الأوّل منهما حول المعنوية والتوجّه المعنوي، بينما نتناول في القسم الثاني من البحث قضية تحويل القوة المعنوية إلى قوة مادية.
المراتب المعنوية
أمّا البحث الأوّل، فالمعنوية حقيقة مُشكّكة ـ حسب اصطلاح العلماء ـ أي ذات مراتب، وينبغي علينا السعي لبلوغ هذه المراتب بمقدار الإمكان.
المرتبة الأولى من المراتب المعنوية: هي فعل الواجبات وترك المحرمات، وهي مرتبة مهمة جداً، وإن كان بلوغها أمراً صعباً. لقد توجّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسؤال إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فأجاب (صلى الله عليه وآله): (الورع عن محارم الله)(2). وتنبع صعوبة الورع من أنّ كثيراً من المحرمات متشابكة مع حياة الإنسان، كالغيبة مثلاً، فإنّ احتمال سماعها يواجه المرء أينما ذهب. فعدم الاغتياب وعدم الاستماع إلى الغيبة طيلة عمر بأكمله ليس بالأمر الهيّن، بل يتطلّب عزيمة قوية، وهكذا الحال مع كثير من المحرّمات. وعلى كلّ فترك المحرمات ـ ومثله الإتيان بالواجبات ـ أمر عظيم، وهو يمثّل المرتبة الأولى من المراتب المعنوية.
أمّا المرتبة الثانية: فهي فعل المستحبات والفضائل، وترك المكروهات والرذائل، إضافة إلى فعل الواجبات وترك المحرمات.
يُنقل أنّ المحدّث القمي (رحمه الله) مؤلف كتاب (مفاتيح الجنان) قد عمل بكل ما ورد في كتابه. كما يُنقل أن السيد عبد الهادي الشيرازي (رضوان الله عليه) سُئل عن الميرزا مهدي الشيرازي (رضوان الله عليه) فقال: عشت معه خمساً وعشرين سنة ـ أو نحو ذلك ـ فلم أرَ منه مكروهاً قط. وعندما سُئل الميرزا مهدي عن السيد عبد الهادي أجاب بمثل ذلك. وهذا يدلّ على الروح المعنوية العالية التي كان هذان المرجعان الكبيران يتمتعان بها.
إن أحدنا قد يرتكب في اليوم الواحد عشرين ذنباً أو أكثر، فالغيبة ذنب، والاستماع إليها ذنب، والتهمة ذنب، والنظر إلى الأجنبية ذنب، وسوء الخُلق ذنب، والتعامل مع الزوجة بغير المعروف ذنب، قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3).
فلو أن أحداً استطاع أن يتجنب المحرمات ويأتي بالواجبات، وأن يتجنب مع ذلك ما أمكنه من المكروهات ويأتي بما وسعه من المستحبات، فقد بلغ مرتبة رفيعة وفاز فوزاً عظيماً.
لقد سخّر الله تعالى الجن والإنس والطير لسليمان (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) واستجاب دعاءه إذ قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنـبَغِي لأحَد مِن بَعْدِى)(4)، فقال بعض رعيّته: (هل رأيتم ملكاً أعظم من هذا؟ فنادى ملك من السماء: لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم)(5).
ولا عجب في ذلك، فإن ملك سليمان (عليه السلام) زال ولم يبق منه شيء، أما قول: (سبحان الله) فباق على مرّ الدهور والأيام.
وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك ـ فإن تسبيحة واحدة أعظم من ملك سليمان (عليه السلام) حقاً. فلنستفد من أعمارنا الغالية إذاً، ولانبيعها بالتافه، ولنستثمر كل فرصة من أجل كسب المزيد. عندما كان السيد الوالد (رضوان الله عليه) يدخل المطبخ ويرى أشخاصاً مشغولين بالطبخ أو إعداد الطعام يبادرهم بالقول: لماذا تتركون أوقاتكم تذهب هدراً؟ استفيدوا من أوقاتكم واذكروا الله تعالى وصلوا على محمد وآل محمد، وأنتم مشغولون بعملكم؟
وهذه هي المرتبة الثانية من المراتب المعنوية.
أما المرتبة الثالثة فصعبة جداً وبعيدة المنال، ولكن لا بأس بالتعرّف عليها لنعرف جانباً من مراتب أولياء الله تعالى.
تتمثّل المرتبة الثالثة من المراتب المعنوية في ترك المباحات; فكيف يُتصور ذلك؟ وهل يمكن للمرء أن يترك المباح كالنوم والأكل والشرب والمشي مثلاً؟ نعم، هكذا كان أولياء الله تعالى الكبار، فإنهم كانوا يفعلون كل شيء من أجل الله سبحانه، وكما قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل)(6).
فلو نويت أن تفعل مباحاً من المباحات لئلاّ تقع في الحرام، فإن عملك هذا يعدّ عبادة وتؤجر عليه، وإذا أردت أن تنام ليلاً وكانت نيّتك أنك تنام لكي تتقوى على العبادة، فإن نومك هذا سيحسب لك عبادة تثاب عليها. يقول الله تعالى مخاطباً أنبياءه (عليهم السلام): (يَـا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا)(7). وكأنه تعالى جعل أكل الطيبات مقدّمة للقيام بالأعمال الصالحة.
ونقرأ في دعاء كميل: (حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً)(8).
اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل
إن لدينا اليوم الطاقة والعمر، ولكنهما سينفدان يوماً ما، ولانستطيع حينئذ أن نضيف حتى حسنة واحدة; (فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غداً حساب ولا عمل)(9)، فلنستثمر أعمارنا إذاً بكسب المزيد، ولنحاول بلوغ المراتب المعنوية العالية بفعل المستحبات والمندوبات والتوجه إلى الله تعالى.
وهذه الحالة المعنوية كانت فيما مضى أقوى وأوسع نطاقاً، لكنها ضعفت اليوم، ولم نعُد نسمع تلك التضرّعات والأدعية المنطلقة في جوف الليل بذلك المقدار! لم يكن آباؤنا الأبرار يتركون صلاة الليل حتى في الليالي الباردة، وقد كان بعض أهالي كربلاء المقدسة يخرجون قبل أذان الفجر لأداء صلاة الليل في جوار سيد الشهداء (عليه السلام) وعند باب صحنه المبارك قبل أن تُفتح الأبواب، لا تثنيهم حرارة ولا برودة ولا فراش وثير.
آثار الحالة المعنوية
وكان لتلك الحالات الروحية والمعنوية آثار كبيرة، فللمعنويات آثار دنيوية وأخروية، وروحية ونفسية، وبدنية ومادية، ومن تلك الآثار أنّ الله تعالى قد يجعل مقاليد الكون بيد المتحلى بها، ففي الرواية: (يابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون)(10). ينقل آية الله الكوكبي وهو من كبار علماء الحوزة العلمية بقم المقدسة بعض الحالات المعنوية التي امتاز بها والده (رحمه الله)، وكذلك بعض الآثار التي لاحظها نتيجة لذلك، يقول:
لم يكن والدي يأكل من أيّ طعام فيه شبهة، ولو دُعي لضيافة ولم تحصل له الطمأنينة بحلية الطعام المقدم يأخذ معه قليلاً من الخبز يلفّه في قطعة قماش نظيفة يكتفي به أو مع قليل من الإدام، ولا يتذوق من ذلك الطعام المشبوه.
أما عن آثار ذلك فيقول السيد الكوكبي أيضاً:
كنت أيام طفولتي أفكر في أمر والدي ولِمَ لا يتناول من كل طعام يُقدم له حتى كنت معه في سفر، وعندما حان وقت الأذان طلب والدي من سائق السيارة أن يتوقف لأداء الصلاة المفروضة لكن السائق لم يعتنِ وواصل سيره، ثم بلغنا موضع ماء آخر، وكرر والدي الطلب ولم يلتفت السائق أيضاً، حتى بلغنا موضعاً لم يكن بعده ماء إذا تجاوزناه، وهنا أصرّ والدي على السائق، ولم ينفع الكلام معه أيضاً، واستمر في سيره، ولكن لاحظنا فجأة أن السيارة توقفت عن المسير، فنزل والدي ونزلنا وصلّينا ولم تتحرك السيارة إلا بعد أن أتم والدي صلاته وعاد وركبها.
وهكذا كان أولياء الله تعالى الكبار حيث إنه سبحانه كان يُسخِّر لهم الكون. ونقل السيد الكوكبي قضية أخرى عن والده تبيّن آثار الحالة المعنوية التي كان عليها (رحمه الله)، يقول: بعد بضع سنوات من وفاة والدي قمنا بنقل جثمانه إلى العراق ليُدفن عند العتبات الطاهرات، وعندما كُشف عن الجنازة على الحدود كان المرحوم وكأنه نائم وليس ميتاً إذ لم يظهر عليه أيّ تغيير، فقد كان جسده غضاً طرياً، وتعجب مأمور الجمارك وقال لنا: إن جوازه يقول إنه متوفى منذ أربع سنين ولكن يبدو أنه قد مات منذ قليل. فهذا جانب من الحالات المعنوية وآثارها في الحياة الدنيا.
تحويل الحالة المعنوية إلى قوة مادية
أما الموضوع الثاني، أي تحويل القوة المعنوية الموجودة في مجتمعنا إلى قوة مادية; فلنقدم له بمثال يذكره علماء الاقتصاد فإنهم يقولون: إن البناء الذي نراه اليوم قائماً على قواعده كان في يوم من الأيام قوة معنوية في عضلات العمّال الذين قاموا بتحويلها إلى هذا البناء المشيد. فهذا البناء هو نفسه تلك الطاقة، لكنها أصبحت اليوم متجسدة، ولو أن العمال لم يعملوا لبقيت الطاقة في حالة القوة ولم تصل إلى مرحلة الفعلية.
وكذلك الحال مع المجتمع، ففي مجتمعنا الإسلامي طاقات معنوية هائلة مع اختلاف في المراتب طبعاً.
هل سمعت قصة عمرو بن الجموح الصحابي الأعرج الذي كان عازماً على الجهاد رغم أنه مرفوع عنه ـ كما هو واضح في الكتب الفقهية ـ ومع ذلك روى أنه: (لما كان يوم اُحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبى (صلى الله عليه وآله) المشاهد أمثال الأسد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبي (صلى الله عليه وآله). قال: بخ يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم؟ فقالت هند بنت عمرو بن حرام امرأته: كأني أنظر إليه مولّياً قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلّمونه في القعود فأبى، وجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له: أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك، فأبى، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لقومه وبنيه: لاعليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلَّوا عنه فقُتل يومئذ شهيداً)(11).
فأية طاقة معنوية هذه التي تدفع بصاحبها إلى الشهادة؟! إن هذه الطاقة موجودة فينا ولكن بدرجات متفاوتة، ولو استطعنا أن نحوّل هذه القوة المعنوية إلى قوة مادية لاستطعنا أن نحقق الكثير.
نقل السيد العم(12) (حفظه الله تعالى): إن رجلاً لا يملك شيئاً من متاع الدنيا يُعتدّ به، وفّق لبناء ثمانين مسجداً، كيف؟
كان هذا الرجل أينما يذهب يلاحظ هل تحتاج المنطقة إلى مسجد أو لا، فإذا تبيّن له الاحتياج يبدأ بذكر ذلك لكل مَن يقابله سواء كان يعرفه أم لا، وسواء كان في السيارة أو الطائرة، أو العرس أو المأتم، أو ضيافة يُدعى إليها، أو مجلس عام أو خاص، لا فرق....
كان يقول لجليسه: إن المنطقة الفلانية ليس فيها مسجد، فهلاّ شاركت في بنائه؟ فكان يتّفق أن يكون من بين من يذكر لهم ذلك من لديه القدرة المادية والدافع الديني فكان يصغي إليه ويستجيب له، وربما أصغى له واحد من بين العشرات وربما المئات الذين يفاتحهم بالأمر، ولبى طلبه، فتبرع ببناء المسجد في المنطقة التي أخبر بافتقارها له، أو شارك في ذلك.
ولقد نجح هذا الشخص في بناء ثمانين مسجداً بهذه الطريقة، وكثير من المساجد التي تقع في طريق طهران ـ مشهد، وطهران ـ خوزستان بُنيت بجهود هذا الرجل!
أفلا يكون هذا الرجل حجة علينا يوم القيامة؟
بماذا نعتذر إلى الله تعالى؟ هل نقول: إننا لم نملك المال الكافي لكي نبني مسجداً؟ ألا يقال في جوابنا: إن هذا الرجل بنى ثمانين مسجداً مع أنه كان رجلاً عادياً ولم يكن شخصية اجتماعية بارزة ولم يكن يملك أية قوة، سوى همّه وهمّته في هذا الطريق؟ أفتبقى لنا حجة بعد ذلك؟
إذن كل منا يستطيع بإذن الله تعالى أن يقدّم خدمةً حتى الشاب ذي الخمسة عشر ربيعاً، لكن الأمر بحاجة إلى همة وعزيمة وتوكل على الله سبحانه، والناس مستعدون، لأن مَن هم على استعداد لتقديم دمائهم في سبيل الله تعالى أيبخلون ويقصّرون في دعمك لبناء مسجد مثلاً ؟!
إن استطعت أن تبني مسجداً فافعل، وإن استطعت أن تنشر كتاباً فبادر أيضاً، فهو عمل عظيم وهو من الباقيات الصالحات، وكم له من الأثر.
ينقل أحد الإخوة المؤمنين أن رجلاً سورياً كانت له امرأة فلسطينية تكره الشيعة وترفض أن يحدثها زوجها عنهم وتأبى أن تقرأ كتبهم أو الكتب التي تتحدث عنهم(13)، حتى كانت إحدى الليالي حين أتى الزوج بكتيّب ليصفّ حروفه على الكومبيوتر ولكنه لم يستطع لعارض ألمّ به، فطلب من زوجته أن تصفّه بدلاً عنه إن استطاعت ثم أخلد إلى النوم.
وكان الكتيّب يدور حول عاشوراء وما جرى فيها، وقد شرعت المرأة بإنجاز العمل باعتباره شغلاً يتقاضون عليه أجراً.
وفي الصباح فوجئ الزوج عندما رأى عيني زوجته محمرتين، وعندما سألها عن ذلك تبين له أن زوجته كانت منذ أول الليل حتى الصباح تطالع قضايا عاشوراء وهي تطبعها وتبكي.
حقاً إن قضايا عاشوراء مشجية جداً، إنها مشجية لنا نحن الذين سمعناها منذ الصغر فكيف بالنسبة للآخرين؟!
قالت الزوجة: لم أكن أعلم بكلّ هذا الظلم الذي لَحِق بأهل البيت (عليهم السلام)، وإنني قد تشيعت على أثر قراءتي لهذا الكتيّب.
هكذا يفعل كتيب صغير إذا وجد الأرضية المناسبة.
فلنشمّر عن سواعد الجد ولنسعَ في تأليف الكتب وطبعها ونشرها، ولنسعَ في سائر الأعمال الخيرية فإنها ذخيرة لآخرتنا ووسيلتنا التي نرجو بها شفاعة نبينا وأئمتنا وسيدتنا الصديقة الكبرى (سلام الله عليهم أجمعين).
ولنصمم على تحويل القوة المعنوية العظمى التي تتوفر في أمّتنا إلى قوة مادية في طريق خدمة الإسلام والتشيع وأهل البيت (عليهم السلام).
وصلّى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق