من هذه الارض تعلم الثائرون دروس الانتصار على الطغاة، وأن ينتصروا بدمائهم على سيوف الحكام الظلمة، وما نعيشه اليوم من أمان وحرية ورفاهية، إنما يعود بفضله الى هذه المدرسة المتميزة، ليس هذا فقط، فقد أغدقت هذه المدرسة على الشباب وعلى الشابات بما لم يشهده أحد بالعالم...
لمن يقرأ الاحداث التي جرت على أرض كربلاء سنة 61 للهجرة بين الامام الحسين وأصحابه وأهل بيته، والجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد، يستشعر أنه يتجول بين الرؤوس المتدحرجة والأيدي المقطوعة، والنبال المتناثرة، والسيوف المتكسرة، ثم الأشلاء المقطعة، وعلى مسافة من كل ذلك؛ الخيام المحترقة التي عبرت عليها النسوة والاطفال مسرعين، وقد افقدهم الفزع، الشعور بحرارتها الملتهبة.
بطولات، ومآثر، وتضحيات، ومعاناة، وبكاء، وعطش، يقابله؛ خذلان، وخيانة، وجُبن، وجرائم سلب ونهب، وقتل بشع. كل هذه المشاهد اختزلتها أرض كربلاء خلال ساعات الظهيرة من يوم العاشر من شهر محرم سنة 61 للهجرة، ولكن حفظتها ذاكرة الزمن في قلب الاجيال المتعاقبة لتصلنا اليوم بحراراتها التي لن تبرد.
ليست كربلاء الوحيدة بهذه الخصوصية التاريخية والوجدانية، انما تشترك معها بقاع متعددة بالعالم، تحيط بالزائر مشاعر الاعجاب مما أنجزه الفراعنة من الاهرامات والمعابد، وما أنجزه الفرس في قصر "تيسفون" بالعراق، من إيوان يرتفع سقفه الى علّوٍ شاهق غير مسبوق في العالم، وايضاً ما شيّده الصينيون من سور طويل وضخم، وغيرها من منجزات عمرانية مذهلة للانسان تدعو الزائر اليوم لأن يعيش أجواء تلك الازمان الغابرة رغم الفارق الزمني بقرون عديدة.
لا رائحة الموت ولا طعم الألم ولا لون الدم
رغم إجماع المفكرين والعلماء حول العالم على محورية القضية الحسينية في معركة الحق مع الباطل، والخير مع الشر عبر التاريخ البشري، وأن الامام الحسين، ايقونة فريدة للحرية، والعدل، والمساواة، والكرامة الانسانية، بيد أن كربلاء التي احتضنت جثمان الامام الحسين، وأخيه أبي الفضل العباس، وسائر الاصحاب، لم تتحول الى مدينة رعب وأشباح، ولا موطناً للبكاء والنحيب على طول الخط، لم يعلمنا الأئمة الاطهار هكذا، ولاسيما؛ الامام الصادق، عليه السلام، الذي يعود الفضل اليه في تدوين معظم –إن لم نقل جميع- الزيارات الخاصة بالإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، عليهما السلام، وهي اليوم تمثل مدرسة للتحدي والبناء الذاتي، والقيم والفضائل، ثم أسس الأئمة الاطهار المنبر الحسيني الحامل للواء العلم والمعرفة؛ "أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا"، وذلك من خلال: "أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا"، يقول الامام الرضا، عليه السلام.
من هذه الارض تعلم الثائرون دروس الانتصار على الطغاة، وأن ينتصروا بدمائهم على سيوف الحكام الظلمة، وما نعيشه اليوم من أمان وحرية ورفاهية، إنما يعود بفضله الى هذه المدرسة المتميزة، ليس هذا فقط، فقد أغدقت هذه المدرسة على الشباب وعلى الشابات بما لم يشهده أحد بالعالم!
للشباب؛ فرص العمل المختلفة، لاسيما في ايام الزيارات المليونية، حتى أضحت كربلاء المدينة الاكثر توفراً على فرص العمل الحُر بين سائر مدن العراق، هذا من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية، لدينا التغيير الذاتي المذهل في ايام عاشوراء والاربعين، وما يفعله الشباب دون الاخرين من افراد المجتمع بما لا يجهله أحد.
أما الشابات فان التجارب والشواهد أكدت امكانية تحول المجالس الحسينية النسائية الى فرصة للتعرّف على الفتيات الصالحات للزواج، فالمجلس الحسيني هذا يضخ الوعي ويصنع الثقافة الدينية والاخلاقية، وفي الوقت نفسه يكون فرصة لتكوين أسرة سعيدة ومؤمنة، فالقضية تبدو تكاملية بشكل رائع.
من كربلاء تنبعث رائحة الحياة الكريمة، ويحلو طعم الأمل بالتغيير والإصلاح والبناء الانساني عند الطامحين للتقدم، فمن اين جاءتنا كل هذه المفاهيم الايجابية؟ هل قرأناها في كتاب مترجم –مثلاً- او وصلتنا من برامج ثقافية تعدها منظمات او هيئات تنموية قادمة من الخارج؟!
إنه الامام الحسين، عليه السلام، الذي حمل كل هذه المفاهيم الايجابية على قلبه، وكان حُلم الاعداء التخلّي عنها فقط، كما قال ذلك الرجل: "ألا تنزل على حكم بني عمّك فانه لن يروك إلا ما تُحب"، فهم ارادوا التنازل عن الحق والكرامة والفضيلة، لكنه فضّل الموت بتلك الطريقة البشعة لتبقى هذه المفاهيم والقيم حيّة نابضة يعيش في ظلها الاجيال المتعاقبة الى يوم القيامة.
أفلا يستحق الامام الحسين –والحال هكذا- التوقف عنده للاستماع الى ما يقوله ويوصي به، ثم اجراء مقارنة بين كلامه ومنهجه وما نحن عليه لمعرفة نسبة التطابق، تكريماً له وعرفاناً للجميل؟!
لا ينفع الجمع بين التناقضات في كربلاء
هذا ليس اجتهاداً او وجهة نظر بين وجهات نظر متعددة في الساحة الثقافية، إنما هي قاعدة أرسى دعائمها الامام الحسين نفسه، عندما هتف بوجه والي النظام الأموي في المدينة رداً على طلبه البيعة ليزيد بأن "مثلي لا يبايع مثله"، فالقضية محسومة من تلك الساعة، وقبل ان تقع المعركة بفترة طويلة، وقبل ان تسقط قطرة دم واحدة.
فالجدير بمن تقع عليهم مسؤولية التأثير على الواقع الاجتماعي أن يشمروا عن ساعد الجدّ في تكريس ثقافة الامام الحسين في مدينة كربلاء لتكون مقدسة، قولاً وعملاً، فالخطباء والأدباء والكتاب والتربويون وعموم شريحة المثقفين، من جهة، والمختصون في أمر القانون والتشريع من جهة أخرى مدعوون للعمل على إجراء التطابق بين منهج الامام الحسين وبين الواقع الحالي لمعرفة حجم الخلل وما نحن عنه متخلفون.
أما الكيفية، فهي مسألة فنية تبحث في مجالها الخاص، وبالامكان اقتراح افكار ابداعية جميلة لا تكلف الكثير، تجعل من يعيش في هذه المدينة الرائعة، ومن يفدها من الخارج، أجواء القضية الحسينية بكل تفاصيلها وأبعادها الانسانية والمعنوية.
لهذه العملية اهمية حيوية واستراتيجية تكشف لنا المعارض للإصلاح والتغيير والتطور من خلال تضييع تمييع المفاهيم الحسينية، وإبعاد بصمات الامام الحسين عن هذه المدينة بشكل او بآخر، بحيث تكون لا طعم ولا لون ولا رائحة خاصة بها، إنما الطعم واللون والرائحة لاشياء أخرى لا علاقة لها بالقضية الحسينية مطلقاً.
لقد خبرنا هؤلاء المعارضين في سني الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولابد من العمل اليوم للتحقق مما لو كان لهؤلاء امتداد في الزمن الحالي أم لا؟!
اضف تعليق