نحن نعيش في ظل أنظمة القائد الأوحد، فكل شيء يدور حول فرد واحد ومحور واحد
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [1] صدق الله العلي العظيم.
الحديث حول العمل المشترك في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الضرورة.
الفصل الثاني: القاعدة.
الفصل الثالث: المظاهر.
ونبدأ بهذه المقدمة قبل الدخول في صلب الموضوع..
إن العمل يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: العمل الفردي.
النوع الثاني: العمل الجمعي.
النوع الأول: العمل الفردي
لاشك أن العمل الفردي له قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، ولاشك أن كثيراً من التحولات التاريخية حدثت على أثر أعمال فردية، ولاشك أن الأعمال الفردية لها دور كبير في الحياة الراهنة، وربما يكون العمل الفردي ضرورة من الضرورات في بعض الحالات، وذلك مما لا شك فيه، ولكن هنالك قاعدة عامة في الحياة ذكرها القرآن الكريم في مواضع متعددة، وهي أن المؤمن ينبغي عليه دائماً أن يتحرّى الأفضل، ويجب أن نفكر هل هذا الوضع الذي نعيش فيه هو أفضل الأوضاع؟ أم هنالك وضع أفضل؟ وهل هذه الخطة التي ننتهجها هي أفضل الخطط؟
نحن عندنا نزعة إبقاء ما كان على ما كان، نظل نعيش في الماضي، فإذا كانت ثمة خطة جيدة يوماً ما، فلا يُعلم أن هذه الخطة ستبقى جيدة إلى النهاية، لعلها يوماً ما تتبدل، أو لعله توجد ما هو أفضل منها، فالمؤمن دائماً يعيش حالة تطلع نحو الأفضل.
الله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، مثلاً في سورة الكهف يقول الله تعالى: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) [2]، ولعل معنى الآية الكريمة كما يشير إليه بعض المفسرين إنه إبحث عن الأقرب رشدا، فإذا مشيت على خط، إبحث عن الأفضل، وقبل هذه القطعة من الآية يقول الله تعالى: (ولا تقولنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غدا إلا أن يشاء الله) [3]، ولعل معنى الآية كما يذكر بعض العلماء أنه لا تحتم أني سأعمل هذا الشيء، لعله جاء الغد ولم يكن هذا الشيء الذي فكرت فيه هو الأفضل، بل إن الله تعالى يشاء لك الأفضل (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، وهنالك تفسيرات أُخر في معنى هذه القطعة، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) [4]، فالشريعة هي شريعة الله، وهل في شريعة الله تعالى حسن وأحسن؟ نعم، لأن الشريعة لها مجال عريض، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)، ويقول الله تعالى في آية أخرى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [5]، أما أن يجلس الواحد منّا في الغرفة المغلقة ويقول: إن ما انتهى إليه تفكيري هو الصيغة النهائية التي لا نهاية ورائها، فهو أمر مرفوض، بل اجلس مع الآخرين وإستمع إليهم ولاحظ الأفضل وخذ به، وربما يكون هذا الشيء أفضل، ولكن يأتي غداً بأفضل منه.
بعض المتديّنين اليوم غالباً ما تكون حركة أعمالهم فردية، يولدون أفراداً ويعيشون أفراداً ويموتون أفراداً، هذه الحالة قد تكون جيدة في بعض الاحيان، ولكن قد يوجد هنالك أفضل من العمل الفردي وهو العمل الجمعي، وهذا لا يختص فقط بالمجالات العلمية، إنما يشمل المجالات العلمية والمجالات العملية والاقتصادية والاجتماعية، فكيف يجب ان نعمل؟
الفصل الأول: ما هي ضرورة العمل الجمعي؟
نذكر هنالك ثلاث ضرورات:
الأولى: مواجهة التحدي
نحن نعيش اليوم في مواجهة تحديات ضخمة في المجالات كافة، هذه التحديات لا يوجد وراءها أفراد وإنما قوى عالمية ضخمة مترابطة ومتكاتفة، فالصهيونية العالمية لا تمثل أفرادا، هنالك مثال معروف يقول إذا اجتمع ثلاثة يهود كوّنوا ثلاثة تشكّلات، لأن من طبيعة اليهود التفرق، والله تعالى يقول: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [6]، اذهبوا إلى المجتمع اليهودي في الدولة المحتلة، لتروا هناك أبشع أنواع التمييز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، فقد كُتبت كتبٌ حول هذه الظاهرة، فاليهود طبقتان تحتقر إحداهما الأخرى، (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) فقد أخبرنا القرآن الكريم بذلك، ولكنهم مع ذلك في قبال (العدو المشترك) أو ما يتصورونه عدواً مشتركاً، يكونوا كتلة واحدة.
سأل سائل الوالد [7](رحمه الله) أنه لماذا في حرب 1967 إنتصر اليهود على المسلمين مع إن اليهود حكومة واحدة والمسلمون عشرون حكومة [8]؟ فقال الوالد (رحمه الله): قد أجبت على سؤالك بنفسك، هذا السؤال يحتوي في داخله على جواب، فاليهود حكومة واحدة ولكن المسلمين عشرون حكومة مشتتة ومتباعدة ومتفرقة، ثم ذكر الوالد (رحمه الله) هذه القضية التي تعود الى عام 67:
خرجت قافلة من بلد إلى بلد آخر للتجارة، ثم بعد فترة قصيرة عادت القافلة، فقالوا لماذا عدتم؟ قالوا: لقد داهمنا قطاع الطرق وسلبوا ما معنا ولم يبق معنا شيء، قال: وكم كان عدد اللصوص قالوا: إثنان! قالوا: كيف انتصر إثنان على مئة؟! فقال أحدهم وكان حكيماً: نعم؛ لأن أولئك الإثنان كانا متحديَن ونحن مئة متفرقين.
نحن اليوم أمام تحديات ضخمة وهذه التحديات قد دخلت بيوتنا، أحد المتديّنين يقول: لا أتمكن بعد اليوم أن أحفظ أولادي في بيتي! فقد إنقطعت العلاقة بيني وبينهم، وليس لديّ سلطة عليهم، ولا أتمكن من التحكم فيهم، لأن قوى الكفر تعمل.
حدثني أحد المطلعين أن قمرا واحداً من الأقمار تبث عبره ألف وثلاثمئة قناة فضائية، ففي غرفة واحدة تتصارع فيها القنوات الفضائية بالمئات، إن لم تكن بالآلاف، وأبناؤنا يعيشون في ظل هذه الأجواء، فهل يمكن لعمل فردي محدود، أو أن يجلس الانسان في غرفته المغلقة ويبدأ بعمل معين، ويواجه هذا التحدي؟ هل هذا معقول؟ من الذي يحكم العالم اليوم؟ المؤمنون أم الكفار؟ وبعد ثلاثين عاما من اليوم، من الذي يحكم العالم؟ المؤمنون أم الكفار؟
ان قوى ضخمة وشركات متعددة الجنسيات ومراكز دراسات عجيبة تصنع الفكر وتوجّهه، وتوجه القادة، وقوى الضغط العالمية الضخمة المترابطة، لا يسمحون بأن يهان أحدهم في العالم، فهل يمكن لعمل فردي أن يواجه هذا التحدي؟
الثانية: إستمرارية العمل الفردي
يولد مع الفرد ويموت مع الفرد...
نحن نعيش في ظل أنظمة القائد الأوحد، فكل شيء يدور حول فرد واحد ومحور واحد، كل الخيوط بيد الفرد الواحد، وكل شيء يجب أن يمر عبره، هذا يرضي الذات ويرضي الأنانية ويرضي الكبرياء، فالفرد يعجبه أن يكون أنانياً وأن يكون كل شيء بيده، لا يحدث هنالك عمل إلا بمشورته، وما من صغيرة ولا كبيرة إلا تكون بمشورته ورأيه، وعندما يتمرض تتعطل كل الاعمال، أو بعد فترة يموت، فيموت معه العمل، ويأتي هنالك فرد آخر ويبدأ من حيث بدأ الآخر.
يقول علماء الحضارة: إذا كل انسان يبدأ من حيث بدأ الآخرون، لكنا نعيش في عهد الكهوف الأولى - كما يدّعون- بينما الحضارة التي نعيشها مبنية على عنصر التراكم، لأن كل واحد بدأ من حيث انتهى الآخرون، وليس من حيث بدأ الآخرون، أما نحن فطبيعتنا في العمل، كل واحد يأتي ويبدأ من حيث بدأ الآخرون، لأن الأول جمع الخيوط في يديه واختزن التجارب لنفسه، وعندما يأتي الثاني يكون بدون تجربة فيبدأ أيضاً من نقطة البداية.
الثالثة: الرؤية المستوعبة
في العمل أبعاد متعددة، فيه زوايا مختلفة، فعندما تنظرون إلى قضية، إنما تنظرون إليها من زاوية معينة، فقضية الزاوية في النظرة، أو من مجموعة زوايا قضية مهمة، بينما الظاهرة الواحدة تحتوي على زوايا متعددة وكثيرة ومتنوعة، فالظاهرة الواحدة فيها زوايا سياسية، وزوايا إقتصادية وزوايا إجتماعية، فهل يمكن للعقل الواحد أن يحيط بكل هذه الزوايا؟
إن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفله شأن عن شأن، نحن ننظر إلى زاوية معينة ونغفل بقية الزوايا، وعندما تكون هنالك مجموعة وعمل مشترك، فأنتم تنظرون من هذه الزاوية، فيما الآخرون يرشدونكم إلى بقية زوايا العمل التي غفلتم عنها، في حديث عن الإمام الرضا (صلوات الله عليه) وارد في بحار الأنوار، مضمونه أن أبي - الإمام الكاظم صلوات الله عليه، والإمام متصل بالوحي، ولكن ربما جاء الحديث للتعليم - ربما شاور الأسود من غلمانه [9] - واليوم ظاهرة الخدم موجودة في كثير من البلاد، وما هي قيمة الخادم؟ لا قيمة له في كثير من الأعراف، فهل رأيتم شخصاً يتشاور مع خادمه؟! والعبد أدنى رتبة من الخادم، لكن الإمام الكاظم وهو حجة الله المتصل بالوحي - ربما شاور الأسود من غلمانه، فقيل له أنت تشاور هذا؟ فقال ربما فتح الله على لسانه، وفي هذه الرواية المذكورة في البحار أن الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) أحياناً كان يأخذ بآرائهم، نعم؛ يمكنكم أن تتشاوروا مع الخادم، فهو ربما يرى القضية من زاوية لا ترونها.
أحد الرؤساء في العالم يُقال إن له أكثر من أربعمئة مستشار خاص يتشاور معهم، هذا الرئيس ذهب إلى منطقة من المناطق لتوقيع إتفاقية أو إتفاقيات ومعه جيش من الخبراء وقد ذكروا عددهم.
الفصل الثاني: القاعدة:
العمل المشترك يحتاج إلى قاعدتين: الأولى: القاعدة الفكرية، والثانية: القاعدة النفسية.
أما القاعدة الفكرية التي يحتاج إليها العمل المشترك فهي ثقافة العمل الجمعي، وهي الثقافة المفقودة عند الكثير منّا، فهل رأيتم مجموعة من العلماء أو من الفضلاء أو من المتديّنين يجتمعون ويؤلفون كتاباً مشتركاً...؟
قد تفرض الظروف أحياناً العمل الفردي، فالواحد منّا يكون مجبراً أن يعيش في ظروف إستثنائية، لكن نجد هذه الثقافة موجودة في الغرب، وهي التأليف المشترك، والعجيب أنه اذا تراجعون معاجمنا الرجالية تجدون أن هذه فكرة التأليف المشترك كانت عندنا في التاريخ، مع أنهم كانوا يعيشون في تلك الظروف الضاغطة، عندنا أحد الرواة وهو جميل بن درّاج، وللمزيد عنه راجعوا (رجال النجاشي)، وهو من أضبط ما كُتب في علم الرجال، يُذكر في أحواله انه من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يُصح عنهم وهو من الستة الثانية [10]، ويقول فيه بحر العلوم: جميل الجميل مع أبان والعبدلاني ثم حماداني جميل بن درّاج ألّف كما يقول النجاشي كتاباً مشتركاً، جميل بن درّاج من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم (صلوات الله عليهما)، ثقة وجه الطائفة، وله كتاب إشترك مع محمد بن حمران أو حُمران في تأليفه، والنجاشي له طريق إلى هذا الكتاب المشترك يذكره في رجاله، ونفس هذا جميل بن دراج له كتاب آخر ألّفه مع راوٍ آخر هو مرازم بن حكيم، والنجاشي له طريق إلى هذا الكتاب الثاني المشترك يذكره في رجاله.
وأما القاعدة النفسية، وهي المشكلة الكبرى عندنا، وهي القدرة على التعايش، العم [11] (حفظه الله) يكرر هذه الكلمة كثيراً -ثقافة التعايش- نحن لا نستطيع أن نعيش مع الآخر، الرجل لا يستطيع أن يعيش مع زوجته، إلا في البعض، يقول الله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) [12]، وبيت العنكبوت لا تعايش فيه، لان الأنثى تأكل الذكر في تفصيل، ونحن أيضاً فان كثيراً من بيوتنا هي بالحقيقة بيوت العنكبوت، كلها نزاع وخلاف وخصام، كما ان سلطانان في الكرة الأرضية لا يتمكنان من العيش معاً، لأن هذا يقول: أنا، وذاك يقول أيضاً: أنا، ويشنّ أحدهما الحرب على الآخر، أما فقيران فيتمكنان من العيش على سجادة واحدة.
إن ذاتنا هي المحور في هذ الوجود، وليس بالضرورة أن نعبّر عن ذلك، لكنه في الواقع ننظر إلى جميع الأمور من خلال أنفسنا.
جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) كما في الروايات وقال: اللهم إرحمني وارحم محمداً (صلى الله عليه وآله) ولا ترحم معنا أحداً، فابتسم النبي (صلى الله عليه وآله) وقال يا هذا! لقد ضيّقت واسعاً [13]، إن رحمة الله واسعة، فنحن حتى في أدعيتنا هكذا، اذا عندنا مشكلة صغيرة في حياتنا فهي تؤرقنا ونفكر فيها دائماً، بينما الملايين يموتون في العالم جوعاً وعطشاً.
ربما تقولون أن الزوجة هي المقصّرة، فلتكن... فالذي يصمم على التعايش يتمكن من ذلك، فبدل أن يخرب البيت ويشرد أطفاله وأولاده، يلتزم خيار التعايش، لأن البيت المتوتر يربي أفراداً متوترين وقلقين، إذن، ليتعايش ويرتاح ويريح، وكذلك المرأة عندها نفس المشكلة، يقول بعض الأفراد إذا كان الشريك جيداً وحسناً، كان الله قد اتخذ شريكاً، مع ان إتخاذ الله للشريك محال عقلي، أما إتخاذنا للشريك فهو ليس بمحال.
عندنا تجار صغار كل واحد يدور في فلكه الخاص، ثم تأتي الأيدي التي تعبث وراء الستار وتجعل السوق يعلو ويهبط، وتتلاعب بالبورصة، بحيث ترمي الكثيرين على الرمال، وهو ما حصل عند الكثير من التجار الذين كان الواحد منهم تاجراً بالأمس واليوم عند درجة الصفر، والسبب لأنه فرد يواجه قوة إقتصادية كبرى متماسكة، فيعجز عن مواجهتها، إنه الفكر المنغلق عند البعض، فهل نحن قادرون على العيش في هذا العالم المتحرك والمتطور بسرعة مذهلة؟!
إن القاعدة الفكرية عبارة عن ثقافة العمل المشترك، والقاعدة النفسية عبارة عن القدرة على التعايش مع الآخر، لكن التعايش مسألة صعبة للغاية، وتحتاج إلى تربية وإلى تمرين.
الفصل الثالث والأخير: مظاهر العمل المشترك
نذكر مظهرين من مظاهر العمل المشترك:
الأول: المظهر العلمي:
كما ذكرنا في مسألة التأليف آنفاً؛ فان الحاج آغا حسين القمي [14] (رحمة الله عليه) الذي كان من كبار علمائنا الأتقياء، كان لديه لجنة مكونة من مجموعة من فطاحل الفقهاء الكبار، فأي مسألة كانت تأتيه كان يتشاور معهم بشأنها، مع إنه مجتهد وعنده قدرة إبداء الرأي والاستنباط، لكنه كان يسألهم فرداً فرداً عن رأيهم، وأولئك الفقهاء معروفون.
الثاني: المظهر العملي:
لنحاول أن نجعل أعمالنا مشتركة، فإذا ذهبتم إلى منطقة ما، لا تكونوا فرداً وإنما حاولوا أن تبدأوا مع مجموعة، وحاولوا أن تنمّوا مجموعة، حاولوا أن تفوضوا الأعمال إلى مجموعة، حتى تنطلقوا، لأن الواحد إذا بقي في دائرة عمل معين سيبقى محدوداً، وعلى الواحد دائماً أن يرفع نفسه مثل النبتة التي تزرعونها في الأرض فانها ترفع نفسها شيئاً فشيئاً.
الختام
أحد العلماء في أصفهان يُقال له الفشاركي [15] كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنزعج منه ظل السلطان، فكتب إلى ناصر الدين شاه في طهران، والقضية تعود الى قبل حوالي مئة وثلاثين عاماً، بأن وجود الفشاركي في أصفهان خطر على الدولة، فأمر الملك بإبعاده إلى طهران، وفي طهران كان يعيش عالمان، وكان بينهما نوع من إختلاف الاجتهادات، وهو إختلاف طبيعي، كما هو سائد بين الأطباء أيضاً، فاذا تذهبون بالمريض إلى الطبيب الأول ثم إلى الطبيب الثاني، في كثير من الأحيان تجدون الاختلاف في اجتهادهما، والإختلاف في الاجتهاد طبيعي.
في إحدى الليالي حيث كان العالم الأول نائماً في بيته وإذا بالباب تُطرق، يذهب الخادم ويرى العالم الثاني، فيُسرع إلى العالم الأول ويقول له: إن العالم الثاني بالباب، يسرع إليه العالم ويدخلان البيت ويقول له: تفضل ما الذي جاء بك في هذ الليل؟ يقول: إن فشاركي في الطريق وغداً يصل إلى طهران، فإذا تجرأ الشاه على هذه الخطوة الأولى سيتجرأ على الخطوة الثانية والخطوة الثالثة، ومدينة طهران بيني وبينك، ويجب أن نتخذ الموقف، وهذه في الحقيقة ليست قضية تاريخية، إنما هي قضيتنا نحن أيضاً، فأنتم غداً وكلاء في مدينة ما، كيف تتعاملون في هذه المدينة، ابتداءً من القضايا الصغيرة - كقضية رؤية الهلال التي تُعد صغيرة، لأنها منوطة باقتناع المكلف، فأي مكلف يتمكن أن يعمل بقناعته وبالعلم الوجداني، وإن شككتم فلا تنقضوا اليقين بالشك، احكموا ببقاء شهر رمضان، لا أن تكونوا كل مجموعة من المتديّنين في فلك، أو أن يكون هنالك رأي مشترك وتواصل وعمل مشترك، كما كان يفعله السيد أبو الحسن الأصفهاني [16] (رحمة الله عليه) - وانتهاءً إلى القضايا الكبيرة، فهل اجتمعنا وفكرنا و تواصلنا في القضايا الكبيرة؟!
فقال العالم صاحب البيت: ماذا نفعل؟ قال الطريقة بسيطة، غداً نبعث أفراداً يجوبون طهران ويقولون بأمر العالم (لفلاني...) والعالم (الفلاني...) يجب إغلاق الدكاكين والذهاب جميعاً إلى استقبال الفشاركي على أبواب طهران، فقال حسناً ذلك.
وبالفعل؛ عند الصباح أخذ المنادون ينادون بأمر العالمين يجب إغلاق الدكاكين والخروج إلى خارج طهران لاستقبال الفشاركي وإذا بالناس يعطّلون الدكاكين ويخرجون زرافات، زرافات إلى خارج طهران، فبلغ الخبر الشاه، فصعد فوق القصر ورأى الناس يتجهون خارج المدينة، قال لوزيره الصدر الأعظم ماذا نفعل؟ فهؤلاء إذا عادوا ربما يهاجمونني في قصري وينزلونني من عرشي، فماذا أفعل؟! الصدر الأعظم فكر قليلاً ثم قال: الطريقة هي أنه أنت وأنا وجميع الوزراء نركب العربة ونذهب جميعاً لاستقبال الفشاركي ونتجاهل الموضوع ! وفعلاً تحرك الشاه والصدر الأعظم وجميع الوزراء بعرباتهم وذهبوا إلى خارج طهران لاستقبال الفشاركي، ثم جاء الشاه واحتضن الفشاركي واستقبله وقال له: سيدنا لماذا أتيت إلى طهران؟! وما الذي أزعجك من أصفهان إلى طهران؟! فقال الفشاركي: إن أمرك أنت هو الذي أزعجني، قال ومن بلّغك هذا الخبر الكاذب؟! قال ظل السلطان في أصفهان، قال: كلا، إن ظل السلطان مخطئ، وأنا لم أقل هذا الشيء، فأنت اليوم ضيفي في طهران، ولنذهب إلى القصر ما دمت في طهران، وأي أمر عندك فأنا في خدمتك، وبعد مدة الضيافة إنصرف إلى حيث أحببت، فقال الفشاركي: لا أحتاج إلى المجيء إلى قصرك، هنالك بيت معد أو يُعد، وأنا أبقى في طهران لاستقبال العلماء وزيارتهم والتشاور معهم ثم أعود إلى أصفهان، قال الشاه: ذلك شأنك، وانتهت القضية، وقد زاد المتديّنون قوة على قوة.
إن التشرذم والتبعثر والتسقيط يضعف الجميع، وأول ضعف ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [17]، يقول بعض العلماء: (تفشلوا) بمعنى: الضعف النفسي، فأنتم عندما تشعرون بأنكم مسنودون من الخلف، تشعرون بالقوة والإنطلاق، أما إذا (فلان) تكلم عليكم و(فلان) شكّك في نواياكم وفي جدوائية عملكم، ولم يتعاون معكم، فان الانسان يضعف من الناحية النفسية، ولن تبقى عنده إرادة العمل، ولا المحرك أو الباعث، وهي الأزمة الكبرى التي نعيشها اليوم.
لا بأس أن ننقل هذه القضية أيضاً: كان هنالك شخص يمشي مع شخصية غربية لامعة وكبيرة، قال له أنتم خمسون مليوناً تقريباً وأنتم الآن مسيطرون على ألف مليون في العالم، كيف حصل ذلك؟ وهل هذا معقول؟ قال نعم، لأننا نفرق بينهم، الأخ يرفع الرشاش في صدر أخيه ويقتله، وهم من مدينة واحدة ودين واحد ومذهب واحد، إننا لا نحكم ألف مليون انسان، وإنما مليون أو ربع مليون، لأن ذلك العدد قد تفرق، وأصبحوا شيعاً، فكل قبيلة فيها أمير ومنبر، فنحن نحكم شراذم صغيرة، بعد أن نفرق بينهم، ونحرك بعضهم ضد بعض.
قال: وكيف تقدرون على ذلك؟! قال له: سأريك ذلك...! وكانوا يمشون في الشارع في عهد تلك الامبراطورية التي لم تكن لتغيب عنها الشمس [18] - كما يقولون- فرأوا في الطريق فقيرين مكفوفي البصر، وقد جلس الواحد مقابل الاخر، فسأل أحدهم: كم مدة أنت هنا؟ قال – مثلاً - خمسة وعشرين عاماً، ثم قال: وذاك الذي يجلس قبالتك، كم مدة هنا؟ قال: أيضاً تقريباً خمسة وعشرين عاماً وهو صديقي من البداية، هذا الرجل أو الشخصية الغربية اللامعة، قال لأحدهما: خذ هذه الليرة الذهبية وأعطِ نصفها لصديقك، ولم يعط لأي منهما شيئاً، فقال الأول للثاني: اعطني نصف الليرة، قال الآخر: أنت اعطني نصف الليرة، ثم تطور الجدل بينهما إلى عراك بالأيدي! فقام الفقيران المكفوفان من مكانهما وأخذا يشتبكان بالأيدي والعصي حتى جرت الدماء بينهما! قال ذلك الرجل الغربي: هكذا نفرق بين الناس.
من هنا ينبغي علينا أن نتخذ هذه الآية الكريمة منهجاً في حياتنا (وَتَعَاوَنُوا...)، والتعاون على رأي بعض العلماء يختلف عن مفهوم الإعانة، فالإعانة يعني واحد يعمل و أنت تمده، وهذا إعانة، بينما التعاون يعني العمل المشترك، وليس العمل الفردي (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، فالتقوى هو الجانب السلبي والبر الجانب الإيجابي، (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، ولعل الإثم هي المعصية الفردية غير المتعدية إلى الآخرين، والعدوان يعني التعدي على الآخرين، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق