عقد مركز الإمام محمد الباقر(ع) لإحياء التراث ندوته الفكرية التخصصية والتي حملت عنوان (مرجعية الفقهاء في عصر الحضور والغيبة – الشيخ المفيد أنموذجا)، ألقاها على الحاضرين سماحة آية الله الشيخ محمد السند أستاذ البحث الخارج في الفقه وأصوله والتفسير وعلم الكلام في حوزة النجف الأشرف. في مكتبة الإمام الحسن(ع) العامة، يوم الثلاثاء التاسع من ربيع الأول.
وقد استهل الشيخ السند محاضرته بقوله تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
إذ افتتحت الآية الكريمة بقوله عز وجل (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)، وتضمنت أصلا عقلائياً، وهو عدم استقامة النظام الاجتماعي وقدرته على مواصلة الحياة لو كان البناء على ذهاب الجميع الى النبي (ص) وأخذ جميع المسلمين للأحكام الشرعية من النبي مباشرة، فإن ذلك يسبب فراغا في بقية المهن والاختصاصات والحرف وغيرها من الأمور التي يعتمد عليها المجتمع الإنساني في تلبية رغباته وسد احتياجاته المختلفة، وهو تعبير آخر عن كون الإنسان اجتماعيا بالفطرة.
وكما أن توجه جميع المؤمنين الى التفقه في الدين أمر غير ممكن، فإن ترك التفقه في الدين من قبل الجميع أمر مرفوض أيضا من قبل الشرع، بل المطلوب هو برزخ بينهما، وهو قوله تعالى (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
فالمطلوب في الآية الكريمة – على هذا – انتخاب طائفة من الناس من كل تجمع بشري وتوجههم نحو النبي (ص)، ليس لأجل سماع الحديث ونقله وروايته فقط، بل لأجل فهمه واستنباط الحكم الشرعي منه، بدلالة كلمة(تفقه) وهي تعني الفهم.
ومن الطبيعي أن القدرة على فهم الرواية والجمع بين الروايات وحل حالات التعارض والتنافي والتزاحم بينها، واستنباط الحكم الشرعي منها إنما يكون من قبل صاحب الاختصاص في ذلك، وهم الفقهاء. فإن الأئمة (ع) كانوا يرجعون شيعتهم الى مثل زرارة ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ونظرائهم لأنهم يحملون علوم الأئمة (ع)، بالإضافة الى وثاقتهم وشدة تثبتهم في أحكام الدين، وإرجاع الأئمة شيعتهم الى هؤلاء الفقهاء الرواة هو على مقتضى القاعدة العقلائية، إذ لا يعقل أن تتوفر لدى الجميع المقدرة العلمية، والتفرغ، والقابلية الجسدية والعقلية للقيا المعصوم وسؤاله والتزود من علومه، إلا لطبقة الفقهاء المؤتمنون. وقد رويت – بالإضافة الى ذلك - روايات كثيرة عن المعصومين توصي الشيعة بالرجوع الى الفقهاء سواء في أيام حضورهم أو غيبتهم.
ومن هذا يظهر جليا أن الحاملين للواء تسقيط المرجعيات الدينية الشيعية، في هذا العصر وفي كل عصر، ليس غرضهم تسقيط الفقهاء بما هم أشخاص، بل تسقيطهم بما هم حملة علم وفكر وفقه أهل البيت(ع)، فإن المجتمع اذا انعدمت فيه طبقة العلماء الثقات المدافعين عن حياض الشريعة المقدسة، والمتخصصين بعملية الاستنباط الفقهي، سوف يصبح لقمة سائغة بيد الأعداء يوجهونه حيث شاءوا، وذلك لأن مخاطبة الجميع بدراسة الرواية، بالإضافة إلى استلزامه توقف الحياة وعدم إمكانية استمرارها، فأنه أمر متعسر أو متعذر إلا من قبل أصحاب الفكر والرأي والاختصاص.
ويتضح من ذلك أن نفس الآية الكريمة التي تليت في صدر المحاضرة، تكفي بنفسها دليلا على وجوب التفقه في الدين على نحو الوجوب الكفائي، ومن جهة أخرى وجوب العمل على وفق رأي الفقيه الذي يأخذ علمه من أمناء الشريعة المقدسة محمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين). بالإضافة الى وجود أدلة أخرى قرآنية وروائية في هذا السبيل، فضلا عن سيرة العقلاء الممضاة من قبل الشارع الأقدس في وجوب رجوع الجاهل العالم من ذوي الاختصاص والعلم والوثاقة في مسألة الأخذ بأحكام الدين والفتيا.
وقد حضر الندوة العديد من علماء وفضلاء وطلبة حوزة النجف الأشرف العلمية، والأساتذة والأكاديميين، وكان لهم مشاركة فاعلة في الحضور والنقاش.
اضف تعليق