قوَّة المجتمعات تكمن في قدرتها على تجاوز الخلافات بروح الحكمة والرَّحمة، مستنيرةً بتعاليم ديننا الحنيف الذي يدعو إلى الوحدة، ويرفض الفرقة، ويحثّ على التعايش السلمي؛ ومن هذا المنطلق، لتكن دعوتنا صادقة نحو نبذ الخلافات التدميريَّة، وتفعيل الاختلاف البنَّاء الذي يجمعنا على قيم الخير، ويرسّخ أواصر الإخوة والوفاق؛ لأننا...
الاختلاف السَّلبي من أشدِّ الآفات التي تجرُّ المجتمعات إلى هاوية الانقسام والتفكك، مهما بلغت من قوَّة وعمران؛ فهو كالسرطان الخفي الذي ينخر في الجسد من الدَّاخل حتَّى يتركه هشًّا لا يقوى على الصمود أمام الأزمات.
ولقد شهدت مسيرة البشريَّة عبر العصور أنَّ أعظم الانهيارات كانت ثمرة مرَّة لهذا الاختلاف، بدءًا من قصص الأنبياء (عليهم السلام) الذين واجهوا انقسامات بين أقوامهم، وانتهاءً بما تعرَّضت له أمتنا الإسلاميَّة بعد استشهاد نبيِّها الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) من صراعات داخليَّة وخلافات أضعفت وحدة الصف، وعلى الرَّغم من الجهود العظيمة التي بُذلت لإقامة مشاريع نهضويَّة شامخة، إلَّا أنَّها انهارت على عتبة التنازع والفرقة؛ فالاختلاف السَّلبي هو الجذر الخفيّ لأغلب ما نعانيه اليوم من محن وأزمات مستمرة، وعائق كبير أمام كلِّ مساعينا نحو الإصلاح والبناء؛ ولهذا، نجد أنَّ الإسلام يولي أهميَّة قصوى لتعزيز روح الوحدة والتلاحم، ويغرس في النفوس مفاهيم الإيثار، والتآزر، والمحبَّة. ولقد رسمت تعاليم الدِّين منارات واضحة للحفاظ على وحدة المجتمع، من خلال شعائر جماعيَّة راسخة كصلاة الجماعة، والدعاء المتبادل للمؤمنينَ، وتحريم الغيبة والنميمة والبهتان؛ لتكون الروح الاجتماعيَّة قويَّة متماسكة لا تفتتها الخلافات السطحيَّة أو التصنيفات الضيِّقة.
وفي هذا المقال، سنغوص في معاني الاختلاف وأقسامه، ونستعرض مآلاته الإيجابيَّة والسلبيَّة، مستنيرينَ بحكمة الإسلام التي ترفض الفرقة وتؤكِّد أنَّ قوَّة الأمَّة في وحدتها وتماسكها حتَّى لو كانت تعيش حياة التنوع والتعدد.
المحور الأوَّل: الاختلاف وأقسامه
1. الاختلاف لغة:
"ضدُّ (الاتِّفاق)، ومعناه فكُّ الارتباط، وجعل الشَّيء في الخلف؛ أي وراء الظهر، ممَّا يؤدِّي إلى حالة التَّقابل من ناحية، والتَّدابر من ناحية أخرى.
والاختلاف والمخالفة، أن يأخذ كلُّ واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعمُّ من الضدِّ؛ لأنَّ كلَّ ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدَّين، ولما كان الاختلاف بين النَّاس في القول قد يقتضي التَّنازع أستعير ذلك للمنازعة، والمجادلة"(1).
2. أقسام الاختلاف.
الاختلاف في الرَّأي ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ وكلُّ قسم منها يمكن معالجته بالحكمة والحوار البنَّاء من دون حاجة إلى التشنج أو رفع الصَّوت أو استخدام العنف؛ فالرَّأي مهما تباين لا يبرر القسوة، وإنَّما يستدعي رحابة صدر وعمق فهم؛ فبالحوار الهادئ تُثمر العقول، وتُبنى الجسور. والأقسام هي:
القسم الأوَّل: الاختلاف في الاجتهاد
وهو من أرقى صور الاختلاف العلمي المشروع؛ إذ يبني كلُّ مجتهد رأيه على أسس من الدَّليل والتَّأمل الفقهي العميق. فمثلًا، قد يرى أحد الفقهاء أن الكرّ يساوي (36 شبرًا مكعبًا)، بينما يجتهد آخر فيحدده بـ(27 شبرًا مكعبًا)، وثالثٌ يرجِّح أنَّه (43 شبرًا مكعبًا)، وكلّ واحد منهم وصل إلى هذه النتيجة بعد بحث وتحقيق وتدقيق في الأدلة.
واللافت أنَّ هؤلاء العلماء قد يكونون قد تتلمذوا معًا، ودرسوا في بيئة واحدة، وربما عاشوا في المدينة نفسها، ومع ذلك اختلفوا في نتائجهم الاجتهاديَّة. وهذا من سنن العلم، ومظاهر عمقه وحيويته؛ لأنَّ تعدد الآراء في ظلِّ المنهج العلمي هو دليل على رحابة الشَّريعة ومرونة الفهم فيها.
القسم الثَّاني: الاختلاف في المصالح
وينشأ هذا النوع بفعل تباين احتياجات النَّاس وتضارب أولوياتهم في الحياة اليوميَّة. وهذا النوع من التفاوت ينبع من طبيعة الحياة ومتطلباتها المتغيرة؛ فمثلًا، قد يضطر الطبيب إلى استقبال مريض في ساعة متأخرة من الليل، بينما يكون في أمسِّ الحاجة إلى الرَّاحة بعد يوم طويل من العمل، فتتعارض هنا مصلحتان مشروعتان: مصلحة المريض الذي يتألم ويبحث عن العلاج، ومصلحة الطبيب وعائلته الذين يحتاجون إلى السَّكينة والرَّاحة.
وهذا النَّوع من الاختلاف لا يعبِّر عن نزاع بقدر ما يعكس واقع التفاعل الإنساني، وهو أمر طبيعي، وضروري لفهم توازن الحياة. والمهم هو أن يُدار هذا التعارض بتفاهم واحترام، بعيدًا عن الانفعال أو تحميل الآخر فوق طاقته؛ لأنَّ هذه الاختلافات إذا عُولجت بروح التَّعاون تحوَّلت من صراع إلى تكامل.
القسم الثَّالث: اختلاف العالم والجاهل
وهو من أبرز أنواع الاختلاف التي نلمسها في واقع الحياة؛ إذ يظهر جليًّا في طريقة التَّفكير، واتِّخاذ المواقف، والتَّعامل مع شؤون الحياة اليوميَّة؛ فالعالم يتحرك ضمن إطار من الوعي، والرؤية المتَّزنة، ويزن الأمور بميزان العقل والمعرفة، بينما الجاهل كثيرًا ما تصدر عنه تصرفات طائشة، وردود أفعال عفويَّة لا تستند إلى علم ولا بصيرة.
ويكفي أن ننظر إلى تباينهم في أبسط الأمور: كالرأي في قضايا المجتمع، أو طريقة التَّعامل مع النَّاس، أو حتَّى في أسلوب المأكل والملبس، لندرك الفارق الكبير بين من ينطلق من وعيٍ وفهم، وبين من تحكمه الأهواء وردود الفعل؛ فالعالم حين يتحدَّث أو يتصرف، يعكس رؤيته العميقة وتحليله المتزن للحياة، بينما الجاهل قد يغرق في السطحيات ويتخبَّط في الانفعالات.
ومن الطبيعي أن يقع الاختلاف بين هذين الطرفين؛ لكن الخطورة تكمن حين يُستَصغَر صوت العالم، ويُستبَدَل بسطحيَّة الجاهل، فحينها تفقد المجتمعات بوصلتها، وتتراجع عن طريق الرشاد. ومما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "الْجَاهِلُ يَسْتَوْحِشُ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ الْحَكِيمُ"(2).
والعالم مكلَّف شرعًا بأن يكون هاديًا ومعلِّمًا، لا خصمًا ولا منازعًا، فهو يحمل أمانة العلم، ويُنتظر منه أن يتعامل مع الجاهل برحمة وصبر، لا بحدة أو تصادم؛ فوظيفته أن يرفع الجهل، لا أن يزدري الجاهل، وأن يغرس النور في مواضع الظلمة، لا أن يزيدها عتمة.
وقد رسم لنا القرآن الكريم هذا المنهج الربَّاني حين خاطب نبيّه الأكرم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) بقوله (تعالى): (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(3)، ليكون العالم مرآةً لهذا النهج، فيقدِّم العلم برفق، ويوصل الفكرة بمحبَّة، ويصبر على الجهل حتَّى يتحوَّل إلى فهم، وبذلك تثمر الدعوة، وتزدهر المجتمعات. وممَّا ورد في مسؤوليَّة العالم تجاه الجاهل عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَا أَخَذَ اللَّه عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا"(4).
3. الاختلاف السَّلبي والايجابي
ليس بالضرورة أن يكون الاختلاف حالة سلبيَّة، وإنَّما يمكن أن يكون قوَّة دافعة نحو التطور والازدهار؛ إذ يفتح آفاقًا جديدة أمام الإنسان لاختيار السبيل الأمثل، ويتيح الاستفادة من تنوع وجهات النَّظر وتجارب الآخرين. والاختلاف في الرَّأي، هو أمر طبيعي وفطري في حياة الإنسان، وسنَّة من سنن الله (تعالى) في الكون؛ فالتنوع والتعدد حكمة بديعة تزين خلقه وتثري حياة البشر؛ ويؤكِّد الله (تعالى) هذا المعنى في محكم تنزيله بقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)(5)؛ ولكن، ونتيجة لضعف الوعي وضيق الصدر، يتحوَّل هذا الاختلاف الطبيعي إلى مصدر للنزاع والتَّصادم بين النَّاس، فتتبدَّل روح التفاهم إلى عداوة، ويصبح الإنسان أسيرًا للعنف في أقواله وأفعاله.
إذاً، يمكننا تصنيف الاختلاف إلى قسمينِ رئيسيينِ:
القسم الأوَّل: الاختلاف السَّلبي؛ وهو الذي يفضي إلى الصراع، والتقاتل، والانقسام؛ حيث تتحوَّل وجهات النَّظر إلى مصادر نزاع تزرع الفتنة والخصام بين النَّاس.
القسم الثَّاني: الاختلاف الإيجابي؛ ويكون دافعًا للتنافس الشَّريف والبنَّاء، ويقوم على احترام القواعد السَّليمة، وروح الاحترام المتبادل، ممَّا يفتح آفاقًا جديدة للإبداع والتطور، والتعاون والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات؛ وبهذا الفهم، يصبح الاختلاف أداة للنمو والتقدم حين يُدار بحكمة، وشرارة للدمار والخراب إذا ترك بلا ضوابط.
4. الاختلاف لا يستلزم البغضاء.
الاختلاف جوهري في طبيعة البشر، فهو نابع من فطرة الإنسان التي تجعله يفكر ويتأمَّل وينظر الأمور من زوايا متعددة. ومن المستحيل أن يمنع أحد النَّاس عن التفكير أو فرض رأي موحد على الجميع. ولعلَّك إذا نظرت إلى أكثر دول العالم تحضرًا وتقدمًا، سترى الاختلاف قائمًا بوضوح في مجالس البرلمانات وبين الأحزاب السياسيَّة، وحتَّى في النقاشات الاجتماعيَّة والثقافيَّة.
وهذا يؤكِّد أنَّ الاختلاف ليس من المنكرات، ولا هو سبب بالضرورة للبغضاء أو القطيعة بين النَّاس، وهو جزء طبيعي وضروري من الحياة البشريَّة، يعبر عن تنوع الأفكار والرؤى التي تغني المجتمع وتساعده على التطور والتقدُّم، شرط أن يُدار باحترام وحكمة.
المجدد الشيرازي (قدس سره) واتِّحاد الأمَّة
"لما أقدم المجدد الشيرازي (رحمة الله عليه) على تحريم استعمال التنباك(6) بسبب احتكار البريطانيين لهذا المنتوج. فقد توسل الإنجليز بكلِّ الوسائل الممكنة لإفشال التحريم، ومن جملة أساليبهم أنَّهم حاولوا إلقاء الفتنة بين العلماء الأعلام؛ حتَّى ينقض بعضهم فتوى المجدد، ويكون ذلك حجة لدعاية مضادَّة ضد المجدد ولإلقاء البلبلة في صفوف المسلمينَ.
فقد حاول الاستعمار البريطاني أن يشعل الفتنة بين المجدد الشيرازي وأحد كبار المراجع هو الشيخ زين العابدين المازندراني الذي كان له مقلدون كما للمجدد الشيرازي وكلمته مسموعة عند النَّاس، يومها كان الشيخ المازندراني في مدينة كربلاء المقدَّسة، بعث إليه السفير البريطاني رسالةً خاصَّةً، يبدي فيها رغبته في زيارة الشيخ، في الوقت نفسه أوعز السفير البريطاني إلى جماعة من رجالاته المرتبطين بالسفارة الحضور في بيت المازندراني وتأييد ما يقوله السَّفير.
وبالفعل حضر السفير في اليوم المقرر للزيارة إلى بيت الشيخ المازندراني وبعد المجاملات الدبلوماسيَّة، توجَّه السفير إلى الشيخ قائلًا له: "إنِّي سمعت أنَّ هناك حديثًاً عن رسول الإسلام محمَّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول فيه: "إنَّ حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة"(7) فهل هذا الحديث صحيح؟
قال الشيخ: نعم، ومؤكَّد أيضًا.
عند ذلك قال السفير منتهزًا الفرصة: فهل التنباك حلال أم حرام، فإن كان حلالًا في الشريعة الإسلاميَّة فكيف يحرَّم اليوم، وإن كان حرامًا فكيف حلّل قبل ذلك؟
فانبرى المرتزقة الذين أحضرهم السفير، فأيَّدوا كلام السفير؛ ليؤثِّروا في جواب الشيخ المازندراني. ولم تنطلِ الخدعة على الشيخ المازندراني، فقد كان أذكى من السفير البريطاني، فقد أجابه بهذا الجواب:
إنَّ الحديث صحيح، والتنباك كان حلالًاً إلى ما قبل فتوى المجدد، أمَّا بعد الفتوى فهو حرام؛ ذلك، لأنَّ هناك حديثًا آخر عن الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) وهو أن "لا ضررَ ولا ضرارَ في الإسلامِ"(8)؛ فإذا صار الواجب أو الحلال ضرريًا، ارتفع حكمه، ومثاله: أنَّ الصوم واجب لكن إذا صار ضرريًا، سقط وجوبه، والوضوء والغسل والحج كلُّها واجبات ما لم توجب الإضرار، والتنباك قبل الانحصار كان حلالًا، لكن بعد منح الامتياز للبريطانيين، صار مضرًا للمسلمين، ولذا أصبح حرامًا، وأفتى بذلك المجدد، ونحن نؤيده ومتى ما تمَّ إلغاء الامتياز، عاد الحكم إلى حالته السَّابقة من الحلية.
وبهذا الجواب القاطع ألقم السفير ومرتزقته حجرًا، وسكتوا ولم ينبسوا ببنت شفة. وهكذا فشلت محاولات البريطانيين في إيجاد ثغرة بين العلماء ببركة اتحادهم وتعاونهم وتآزرهم، وبهذا الاتحاد العظيم والامتثال لفتوى الشيرازي اضطر الإنجليز أخيرًا إلى الانسحاب وإلغاء الامتياز(9).
المحور الثَّاني: من آثار الاختلاف السلبي
الاختلاف السَّلبي هو شرارة لكثير من المفاسد، ومنبع للأضرار والمشاكل التي تمزق نسيج المجتمع، وتزرع فيه العداء والبغضاء؛ فعندما يتحوَّل الاختلاف إلى تعنُّت، ويُدار بروح التعالي والتجريح، فإنَّه لا يخلِّف إلَّا الفوضى، وتعطيل مسيرة البناء، وضياع الجهود، مهما كانت النوايا صادقة؛ ومن هذه المفاسد:
أوَّلًا: البعد عن الله (تعالى)
وهو من أخطر نتائج الاختلاف السَّلبي؛ لأنَّه يُعبِّر عن انحراف عن جوهر الهداية الإلهيَّة، ورفض عملي لما أنزله الله (تعالى) من نور وحق، وقد نبَّه القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله (تعالى): (ذَٰلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(10).
فالله (سبحانه) أنزل كتابه ليكون مرجعًا جامعًا، ودستورًا للحقِّ، لا ساحةً للخصام والتفرُّق؛ لكن حين يُؤوّل الكتاب لأهواء متفرقة، وتُغفل روحه الواحدة الجامعة، يتحوَّل الاختلاف إلى "شقاق بعيد"؛ أي ابتعاد عن الله (تعالى)، وعن الصراط المستقيم، وتمزُّق في الولاء والوجهة؛ وكلُّ اختلاف يُنتج فرقة ويضعف الارتباط بالله (تعالى)، لا يُعدّ اختلافًا محمودًا؛ وهو انحراف عن غاية الدِّين، وتفريط في مسؤوليَّة الوحدة التي أرادها الله (سبحانه) لعباده.
ثانيًا: يؤدِّي أحيانًا إلى سفك الدماء
وهي من أبشع نتائج الاختلاف السلبي حين يتحوَّل من مجرَّد تباين في وجهات النظر إلى نزاع دموي يهدِّد الأمن والاستقرار؛ فالقرآن الكريم يكشف عن هذا الخطر بوضوح في قوله (تعالى): (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(11).
إنَّ القتال والاقتتال لم يكن نتيجة جهل أو غياب حجة؛ وإنَّما جاء "من بعد ما جاءتهم البيِّنات"، أي بعد وضوح الطريق وظهور الحق؛ لكنهم "اختلفوا"، فكان هذا الاختلاف سببًا في الانقسام، ثمَّ الانفجار الدموي.
وهكذا نرى أنَّ الاختلاف إذا لم يُضبط بضوابط الحكمة، وانفلت من ميزان العقل والتقوى، يتحوَّل إلى شرارة للفتنة وساحة للدماء، وتلك من أعظم الكوارث التي تهدِّد المجتمعات، وتشوّه وجه الرسالات.
ثالثًا: الخروج عن أمر الله (تعالى)
قال الله (عزَّ وجلَّ): (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(12).
والآية الكريمة كما هو واضح للعيان فيها تحذير شديد من أن يكون الإنسان ممَّن يسلك طريق التفرقة بعد أن جاءه العلم والهدى؛ لأنَّ هذا المسلك خروج واضح عن طاعة الله (سبحانه)، واستبدال للهدى بالهوى؛ ولذلك استحقّ أصحابه الوعيد بـ(عذاب عظيم)؛ فحين يختار الإنسان سلوك الاختلاف السلبي، ويزرع الفتنة في جسد الأمة، فإنَّه يُعاند أمر الله (تعالى)، ويضع نفسه في مواجهة مع من أمر بالاعتصام بحبله، والوقوف صفًا واحدًا، ويُخالف قيم التعايش.
رابعًا: الشك والريب
وهو أثر سلبي آخر ينبع من الاختلاف والتنازع في القضايا الدينيَّة والاعتقاديَّة، ممَّا يولّد حالة من الحيرة والارتباك في نفوس النَّاس، وقد بيَّن الله (سبحانه وتعالى) هذه الحقيقة في محكم تنزيله بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(13).
من الطبيعي أن يختلِف الناس في فهم النصوص؛ ولكن هذه الاختلافات، إذا تفاقمت من دون هدى من الله (تعالى)، تترك أثرًا مقلقًا يتمثَّل في الشكوك التي تعصف بالعقول، وتزرع الريبة في القلوب.
وهذا الشك هو بمثابة جسر مهتز بين الإنسان وربّه (جلَّ جلاله)، يقوده إلى التردد وعدم الاستقرار؛ فيفقد الأمن والطمأنينة التي هي روح الإيمان؛ لذا كان من رحمة الله (تعالى) أن يرسل الرسل ويهيئ الحكمة لتسدَّ هذه الفجوات، وترشد النَّاس إلى اليقين والثبات.
خامسًا: العذاب
وهو الجزاء الأليم الذي يترتب على الاختلاف والفرقة بين أفراد الأمة؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "والْزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَمَ؛ فَإِنَّ يَدَ اللَّه مَعَ الْجَمَاعَةِ، وإِيَّاكُمْ والْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ"(14).
إنَّ هذه الكلمات العميقة تبرز أهميَّة الوحدة والتلاحم في حياة الإنسان والمجتمع، إذ تكون يد الله (عزَّ وجلَّ) مع الجماعة التي تتكاتف وتتعاون، فتسير على طريق الحقِّ بقوَة وثبات. وأمَّا الشذوذ عن الجماعة والابتعاد عنها، فهو يشبه الغنم المنفردة التي تقع فريسة سهلة للذئب المفترس؛ فالوحدة حماية إلهية ومصدر للسداد، بينما الفرقة تترك الإنسان معرضًا لهجوم الشيطان وأهوائه، فتجعله ضعيفًا وهشًا أمام الفتن والضلال؛ لذا، علينا الحذر من الفرقة، والسعي الدائم إلى ترسيخ روح الجماعة والمحبَّة بين النَّاس.
سادسًا: البراءة واللعنة
من النتائج المؤلمة التي قد تترتب على الفرقة والاختلاف السَّلبي نزول اللعنة؛ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ رَفَعَهُ، قَالَ: فِي وَصِيَّةِ الْمُفَضَّلِ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: "لَا يَفْتَرِقُ رَجُلَانِ عَلَى الْهِجْرَانِ إِلَّا اسْتَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءَةَ وَاللَّعْنَةَ، وَرُبَّمَا اسْتَحَقَّ. فَقَالَ لَهُ مُعَتِّبٌ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ، هذَا الظَّالِمُ، فَمَا بَالُ الْمَظْلُومِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَايَدْعُو أَخَاهُ إِلى صِلَتِهِ، وَلَايَتَغَامَسُ(15) لَهُ عَنْ كَلَامِهِ؟
سَمِعْتُ أَبِي عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ، فَعَازَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلْيَرْجِعِ الْمَظْلُومُ إِلى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: أَيْ أَخِي أَنَا الظَّالِمُ، حَتّى يَقْطَعَ الْهِجْرَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- حَكَمٌ عَدْلٌ، يَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ"(16). ومن هذا الحديث نعرف أنَّ الصلح والسعي لرفع الخلاف هو مسؤوليَّة، وأنَّ الاستمرار في الفرقة من دون محاولات الصلح يُورّث غضب الله (تعالى)، ويورّث اللعن، ما يؤكد خطورة الهجران والتنافر بين المؤمنين، وأهميَّة الرَّحمة والمسامحة في معالجة الخلافات.
المحور الثَّالث: الاختلاف في فتاوى الفقهاء
يبذل الفقهاء المجتهدون كلٌّ منهم أقصى جهده العلمي، مستعينين بقدرتهم الاجتهاديَّة الفريدة، لاستخلاص حكم الله (تعالى) في كلِّ مسألة شرعيَّة تواجههم. وهذا الاجتهاد المتنوع يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف في الفتاوى، وهو أمر مشروع وطبيعي في مسيرة البحث العلمي والفقهي. وتتنوع الأسباب العلميَّة لهذا الاختلاف؛ ومن أهمِّ الأسباب التي تدعو إلى الاختلاف في الآراء الفقهيَّة بين العلماء، هي:
1ـ البعد الزَّمني وظروف التقيَّة:
إنَّ مرور الزمن عن حقبة التشريع الأصليَّة، وتتابع الفتن والحروب التي اجتاحت المجتمعات الإسلاميَّة، قد عرضا كنوز الحديث الشريف لكثير من التحريف وتحريف معانيه، وفي الوقت نفسه تسريب الأحاديث المكذوبة بين النَّاس.
وهذا الواقع المرير كان نتيجة لصراعات وأهواء دفعت البعض إلى التلاعب بالنصوص النبويَّة، ممَّا زاد من الالتباس والحيرة بين الأجيال، وأصبح من الضروري بذل جهد مضاعف في التحقق والتدقيق العلمي لاستعادة نصوص الحديث الصحيحة، وحماية السنة النبويَّة من التشويه والزيغ.
وعمليَّة التمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة أو الموضوعة تحتاج إلى جهد علمي دقيق وتفرغ تام؛ إذ لا يمكن لأي شخص غير متخصص أن يقوم بهذا الدور بموضوعيَّة واحترافيَّة؛ فعلوم الحديث تتطلَّب دراسة معمقة تتناول أسانيد الرواية، ومتناها، ورجالها، بالإضافة إلى معايير دقيقة لتحليل المضمون والتأكد من توافقه مع القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة.
وبما أنَّ قدرات الذكاء والفطنة تختلف من فرد لآخر، فإنَّ ظهور الاختلاف في تقييم الأحاديث أمر طبيعي ومتوقع؛ حيث يستطيع بعض العلماء الكشف عن نحو 80% من الحقائق الشرعيَّة المتعلِّقة بالحديث، بينما قد يكون لدى آخرين نسبة أقل أو أكثر بناءً على خبراتهم ومهاراتهم العلميَّة. وهذا التنوع في القدرات يثري العلم ويشجع على التعاون والتكامل بين العلماء للوصول إلى أقرب ما يكون للحقيقة.
2ـ الرواية والرواة:
هناك اختلاف طبيعي يحدث بين العلماء في تقييم الروايات، فبينما يرى بعضهم صحة رواية معيّنة تتناول حكمًا شرعيًا، قد يختلف آخرون معها ويرونها غير صحيحة أو ضعيفة. كذلك يختلفون في تقييم الثقة بالراوي؛ إذ يعتبره فريق من العلماء موثوقًا، في حين يشكك فيه آخرون. وهذا التباين في الآراء يعكس طبيعة عملية استنباط الأحكام الشرعيَّة التي تعتمد على اجتهادات دقيقة ومناهج علميَّة، ومثل هذا الاختلاف هو تعبير عن غنى التراث العلمي وعمق البحث والاجتهاد في سبيل فهم دين الله (تعالى) على أتمِّ وجه.
3ـ علم الأصول:
إنَّ للاجتهاد أصولًا وقواعد دقيقة يدرسها العلماء في علم الأصول، الذي يُعدُّ بمثابة الأدوات العمليَّة والمنهجيَّة لاستخراج الأحكام الشرعيَّة. ويُمكِّن هذا العلمُ المجتهدَ من الغوص في مصادر الشريعة الأربعة: القرآن الكريم، والسنَّة النبوية الشريفة المتمثلة بأحاديث الرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) وتقريراتهم وسلوكهم، والعقل، وإجماع العلماء، ليكشف عن حكم الله (سبحانه) في كلِّ مسألة بعمق وتمحيص.
وبواسطة هذه القواعد، يضبط المجتهد خطواته، ويوازن بين الأدلة المختلفة، ويجتهد بوعيٍ علمي، مستندًا إلى منهج ثابت يضمن له الوصول إلى أقرب حكم شرعي يوافق الواقع، ممَّا يعكس دقة وسمو الاجتهاد في خدمة الدِّين والنَّاس.
وعلى سبيل المثال: من بين القواعد الأصوليَّة المهمَّة قاعدة (صيغة الأمر)، التي تُعدُّ من الأدوات الجوهريَّة في فهم الأحكام الشرعيَّة؛ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل صيغة الأمر في النصوص تفيد دائمًا الوجوب، أم أنَّها قد تدل أحيانًا على الاستحباب والمندوبيَّة؟
ومتى يكون هذا، وأين يكمن الفرق؟
وبناءً على هذا التباين في التفسير، يستفيد كلُّ مجتهد بحسب القول الأصولي الذي يتبنَّاه؛ فبعضهم يرى أنَّ صيغة الأمر تدلُّ على وجوب الالتزام بالأحكام، بينما يرى آخرون أنَّ بعضها يُفهم منها الاستحباب؛ وهذا التنوع في الفهم يجعل الاجتهاد أكثر غنى ومرونة، ويسمح باختلاف الفتاوى بناءً على منهجيَّة دقيقة ومتزنة.
4ـ فهم النصوص:
قد يستخلص فقيه من نص آية أو ألفاظ رواية معنى مختلفًا عمَّا يراه فقيه آخر، وهذا يعود إلى اختلاف القدرات الذهنيَّة، والذكاء، والتأمُّل العميق بين المجتهدين؛ لذلك، يفتي كلُّ مجتهد بما توصل إليه من حكم بعد الاجتهاد والبحث، وهذا لا يتعارض مع شرع الله المقدس؛ فإنَّ تنوع العقول واختلاف مستويات الفهم أمر طبيعي ومتوقع.
وهكذا، فإنَّ الأسباب العلميَّة والذهنيَّة المتعددة التي تؤدِّي إلى اختلاف الفتاوى، لا تنقص من أجر كلا المجتهدينِ، ما دام كل منهما قد استند إلى الأدلة الشرعيَّة وأسس الاجتهاد الصحيح؛ وهذا التنوع في الفتوى هو رحمة من الله (تبارك وتعالى) وتعبير عن غنى التراث الفقهي، وليس سببًا للنزاع أو الفرقة.
إنَّ الاختلاف سنة ربانيَّة وواقع إنساني لا يمكن إنكاره، وما يحدد قيمته ومصيره هو كيفيَّة إدارته وتوظيفه؛ فالاختلاف الإيجابي هو عنوان الارتقاء، ونبع الخصوبة التي تغذي عقولنا وقلوبنا، وتفتح أمامنا أبواب الإبداع والحوار البناء، بينما الاختلاف السَّلبي هو جرح ينزف في جسد الأمَّة، يهدد وحدتها وأمنها، ويفقدها بوصلة الطريق المستقيم.
إنَّ قوَّة المجتمعات تكمن في قدرتها على تجاوز الخلافات بروح الحكمة والرَّحمة، مستنيرةً بتعاليم ديننا الحنيف الذي يدعو إلى الوحدة، ويرفض الفرقة، ويحثّ على التعايش السلمي؛ ومن هذا المنطلق، لتكن دعوتنا صادقة نحو نبذ الخلافات التدميريَّة، وتفعيل الاختلاف البنَّاء الذي يجمعنا على قيم الخير، ويرسّخ أواصر الإخوة والوفاق؛ لأننا في زمن يحتاج فيه العالم إلى رسالات السلام والتسامح أكثر من أي وقت مضى.
اضف تعليق