الإطلاع على تراثه الأصيل الذي لا يزال غضا رغم مرور أكثر من عقدين على ذكرى رحيله يؤدي إلى استكشاف الكثير من الاطروحات التي لا تزال دفينة بين سطوره وعليها؛ فالمطلع والمتتبع لكتب وآثار ومحاضرات الإمام الشيرازي يدرك أن نظريات الإمام تحوي عناوين مختلفة تضفي إلى عمقها أبعادا وآفاقا متباعدة...
كيف يمكن استلهام الدروس والعبر من سيرة وتجارب وأفكار الامام الشيرازي في الإصلاح لتطوير نموذج إصلاحي متكامل يضمن استمرارية التطور والتجديد في مواجهة متغيرات العصر؟
وكيف يمكن للركائز التي استند اليها الامام الشيرازي في دعوته للتغيير اللاعنفي ان تترجم الى ممارسات حركية وسياسات مؤسساتية تحقق النهضة والتنمية والاستقرار في المجتمعات؟
عند الحديث عن الإمام المجدد والمصلح السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي نجده قد تميَّز عن أقرانه بسيرته العملية بعد العلمية؛ فهو لم يكتف بالتدريس والتحقيق والمطالعات العلمية في أروقة المباني المختصة بالعلم، وإنما وسعها لتخرج إلى الساحة ومعترك الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية، ثم ترجمها على أرض الواقع من خلال خوضه في مختلف المجالات.
وكان نتيجة ذلك؛ أي إضافة تجاربه العملية إلى رصيده العلمي الواسع: بزوغ أطروحاته ونظرياته التي اشتهر بها طيلة حياته المشحونة بالعطاء.
من هنا ومن أجل استلهام الدروس والعبر من سيرة وتجارب وأفكار الإمام المجدد في الإصلاح؛ لابد أن نعيش كما عاش، أي لا نكتفي بتلقي الثقافة في دائرة محدودة وإنما نخرج من هذا الإطار إلى محور العمل؛ كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: "في التجارب علم مستأنف"؛ فالذي نتلقاه مدار العمل بالعلم والتجارب يختلف عما نتلقاه في أندية العلم والفكر والثقافة، إذ المجال العملي هو طريق الوصول إلى علاج الأزمات الحقيقة على أرض الواقع.
وفي هذا المجال (العلمي، العملي)؛ يمكن ذكر مثال من حياة الإمام المجدد الشيرازي:
يُتداول في أروقة النقاشات الفقهية الاستدلالية وفي باب الجهاد بحث عن جواز أو عدم جواز العمليات الانتحارية ومن خلال مختلف الآراء يصدر العالم فتواه بعدم جواز ذلك إلا أنه هناك إمكانية احتمال وجود حكم ثانوي ودائر بين أمرين؛ مثل وجود بعض الأولويات كالحفاظ على الأرواح أو الممتلكات أو الحصول على بعض المصالح والمكتسبات وما أشبه ذلك، حيث يرى البعض إمكانية جواز ذلك.
وكان رأي الإمام الشيرازي بداية لا يختلف عن سائر آراء الفقهاء في هذا المجال، إلا أنه ومن خلال حضوره في الساحة ومتابعته لما يجري ودراسته لجميع جوانب هذا الأمر، وصل إلى حكم جديد فأصدر فتوى صريحة بتحريم جميع أشكال هذا النوع من العمليات دون استثناء وبأي هدف كان، والتي كان منها ما يوصف بـ"الاستشهادية" أو "الفدائية" الجارية في ذلك العهد، حتى وإن كان ضد الأعداء، ذلك لأنه أدرك من خلال متابعاته الواسعة ورؤاه بعيدة المدى أن لهذا النوع من العمل مضرات مستقبلية وإن كان لها فوائد آنية حسب زعم البعض، ولقد طرحه في موسوعته الفقهية الأخيرة ؛ "من فقه الزهراء عليها السلام، ج٦، ص٢٥٨"، بعدما كان قد ناقشه من قبل في كتاب الجهاد من موسوعته الفقهية الكبرى ذات المائة والخمسون جزءا، وقد جاء ذلك في سلسلة مساعيه الإصلاحية لتطوير الفقه مع الحفاظ على أصالته.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية التواجد في الساحة العملية والاندماج في المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية، إذ بلور قاعدته الفقهية ضمن محاولاته الإصلاحية وتفاعله الحقيقي مع ما يجري على أرض الواقع.
وفيما يرتبط بكيفية ترجمة نظرية التغيير اللاعنفي للإمام المجدد إلى ممارسات حركية:
فإن الإطلاع على تراثه الأصيل الذي لا يزال غضا رغم مرور أكثر من عقدين على ذكرى رحيله يؤدي إلى استكشاف الكثير من الاطروحات التي لا تزال دفينة بين سطوره وعليها؛ فالمطلع والمتتبع لكتب وآثار ومحاضرات الإمام الشيرازي يدرك أن نظريات الإمام تحوي عناوين مختلفة تضفي إلى عمقها أبعادا وآفاقا متباعدة والذي قد يظنه البعض نوعا من "التشطّر والتبعثر" و"عدم التمركز" في أثر واحد من آثاره..
وهنا على الباحث أن يقرأ ويتتبع جميع آثاره ليصل إلى جميع الآفاق التي ترتبط بمجال معين أو نظرية خاصة في كل كتبه كـ وحدة متماسكة أو كجسد ذو أعضاء، وبهذا المنظور يمكنه ان يفهم مدى انسجام نظرياته حين يطالع حتى في كتبه التي لا ترتبط بالعنوان الذي يبحث عنه بشكل مباشر.
إذ بدا لي ذلك جليا من خلال تجربتي الشخصية؛ حينما كنت أبحث عن آراء الإمام الشيرازي في عاشوراء والقضية الحسينية فقمت حتى بمطالعة كتبه التخصصية في الفقه والأصول والتفسير وما شابه لتحصيل درر بحر علمه وبالفعل حصلت على ما لا يخطر بالبال، مع أن المجال المذكور كان ينبغي أن يوجد فقط في مباحث الفكر والتاريخ فتوصلت إلى نظرة الجسد المتكامل في كتبه الكريمة والتي تدعو إلى إبراز جسد الإسلام وروحه بنظرة ثاقبة متكاملة..
وهكذا الأمر فيما يرتبط بنظرية "اللاعنف" والأطروحات المشابهة؛ فلقد شبَّعها الإمام الشيرازي من جميع جوانبها، إلا أن الأمر يحتاج أيضا إلى المزيد من التتبع، ومن خلال ذلك يمكن الاستمرار وإكمال المسيرة من النقطة التي انتهى إليها الإمام الراحل مما سيحافظ على حيويتها وتفاعلها ويؤدي أيضا إلى حصرها في أطر متخصصة وتحديثها وفق ما يتناسب ومتطلبات العصر.
وبعبارة أخرى؛ فإن الأمر يتطلب فتح باب جديد من أبواب البحث العلمي وهو تعلم كيفية ممارسة التأطير والتنظير..
كما أن هنالك الكثير من الكنوز في بحر علم المجدد الراحل رضوان الله تعالى عليه والذي اختصرناه في هذا المثل بقصد الذكر لا الحصر، وللفت الانتباه للسعي والغوص طلبا لدرره الكريمة الثمينة التي كان يضعها عمدا في طيات الكتب ليأتي المتتبع ويجدها ويطرحها في عصر تناسب ظهورها والحاجة إليها والتي صرَّح في بعض كتبه عنها، ولابد إلى بلورتها لتتجلى أمام العيان من الشخص المناسب في العصر المناسب.
وهكذا لم يبخس (قدس سره) العلم حقه فأودع من علمه في طيات السطور بين تلكم المجلدات القيمة، وبنظري كمتتبع هو ليس تشطر او عدم تمركز كما يقال، بل هي نجوم علمه في مواقع استيراتيجية ثابتة، وهدايا هِداية لكل من طرق باب مجلداته القيمة -من أي جيل كان أو سيأتي- فيخرج من كل كتاب بنور ثاقب لآفاق علمية جديدة يفتح منها ألف ألف باب، ولعمري لهي غيض من فيض علم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أودعه الله جل جلاله في مناهل عذبة سلسة هي الآن كتب الامام المجدد السيد محمد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه.
اضف تعليق