العلم أفضل الفضائل الكمالية وأشرف النعوت الجمالية، بل هو أجل الصفات الربوبية وأجمل السمات الألوهية، وهو الموصل إلى جوار رب العالمين والدخول في أفق الملائكة المقربين، وهو المؤدي إلى دار المقامة التي لا تزول ومحل الكرامة التي لا تحول، وقد تطابق العقل والبرهان وإجماع أرباب الأديان على: أن السعادة...
الجربزة وعلاجها - الجهل البسيط وعلاجه - شرف العلم والحكمة - آداب التعلم والتعليم - العلم الإلهي والأخلاق والفقه أشرف العلوم - أصول العقائد المجمع عليها - الجهل المركب والشك - اليقين - علامات صاحبه - مراتب اليقين - الشرك - التوحيد - التوكل على الله - حق التوكل بماذا يحصل - مناجاة السر لأرباب القلوب - الخواطر النفسانية والوساوس - أقسام الخواطر ومنها الإلهام - المطاردة بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس - العلائم الفارقة بين الإلهام والوسوسة - علاج الوساوس - ما يتم به علاج الوساوس - ما يتوقف قطع الوساوس عليه - حديث النفس لا مؤاخذة عليه - الخاطر المحمود والتفكر - مجاري التفكر في العوالم والمخلوقات.
الجربزة وعلاجها
أما جنسا رذائلها (القوة العاقلة) (فأولهما)-من جانب الافراط-: الجربزة الموجبة للخروج في الفكر عن الحد اللائق وعدم استقالة الذهن على شيء، بل لا يزال يستخرج أمورا دقيقة غير مطابقة للواقع ويتجاوز عن الحق ولا يستقر عليه، وربما أدى في العقليات إلى الإلحاد وفساد الاعتقاد، بل إلى نفي حقائق الأشياء رأسا كما للسوفسطائية، وفي الشرعيات إلى الوساوس.
(وعلاجه) بعد تذكر قبحه وإيجابه للهلاك، أن يكلف نفسه على الاستقامة على مقتضى الأدلة المعتبرة عند أولي الأفهام المستقيمة، ولا يتجاوز عن معتقدات أهل الحق المعروفين بالتحقيق واستقامة القريحة، ولا يزال يكلف نفسه على ذلك حتى يعتاد القيام على الوسط. وربما كان للاشتغال بالتعليمات نفع في ذلك.
(وثانيهما) -من جانب التفريط-: الجهل البسيط وقد عرفت أنه من باب التفريط، وهو خلو النفس عن العلم من دون اعتقاد بكونها عالمة. وهو في البداية غير مذموم لتوقف التعلم عليه، إذ ما لم تعتقد النفس جهلها بالمعارف لم تنتهض لتحصيلها. وأما الثبات عليه فهو من المهلكات العظيمة.
والطريق في إزالته أمور: (الأول) أن يتذكر ما يدل على قبحه ونقصه عقلا، وهو أن يعلم أن الجاهل ليس إنسانا بالحقيقة، وإنما يطلق عليه الإنسان مجازا، إذ فضل الإنسان عن سائر الحيوانات إنما هو إدراك الكلي المعبر عنه بالعلم، لمشاركتها معه في سائر الأمور من الجسمية والقوى الغضبية والشهوية والصوت وغير ذلك، فلولا علمه بحقائق الأشياء وخواصها لكان حيوانا بالحقيقة، ولذا ترى أن من كان في محل محاورات العلماء وكان جاهلا بأقوالهم لم يكن فرق بينه وبين البهائم بالنسبة إليهم. وأي هلاك أعظم من الخروج عن حدود الإنسانية والدخول في حد البهيمية. (الثاني) أن يتذكر ما ورد في الشريعة من الذم عليه مثل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ستة يدخلون في النار قبل الحساب لستة وعد منهم أهل الرساتيق بالجهالة. (الثالث) أن يتذكر ما يدل على فضيلة العلم عقلا ونقلا كما نذكره. وإذا وقف على جميع ذلك فليتيقظ عن سنة الغفلة، ويصرف في إزالته الهمة، ويجتهد في تحصيل العلم عن أهاليه، ويصرف فيه أيامه ولياليه.
شرف العلم والحكمة
قد علم أن ضد الجنسين -أي الجربزة والسفسطة والجهل- هو الحكمة، أعني العلم بحقائق الأشياء. فلنذكر أولا بعض ما يدل على شرافته عقلا ونقلا، ترغيبا للطالبين على السعي في تحصيله وإزالة الجهل عن نفوسهم، فنقول: لا ريب في أن العلم أفضل الفضائل الكمالية وأشرف النعوت الجمالية، بل هو أجل الصفات الربوبية وأجمل السمات الألوهية، وهو الموصل إلى جوار رب العالمين والدخول في أفق الملائكة المقربين، وهو المؤدي إلى دار المقامة التي لا تزول ومحل الكرامة التي لا تحول، وقد تطابق العقل والبرهان وإجماع أرباب الأديان على: أن السعادة الأبدية والقرب من الله سبحانه لا يتيسران بدونه، وأي شيء أفضل مما هو ذريعة إليهما. وأيضا قد ثبت في الحكمة المتعالية: إن العلم والتجرد متلازمان، فكلما تزداد النفس علما تزداد تجردا، ولا ريب في أن التجرد أشرف الكمالات المتصورة للانسان، إذ به يحصل التشبه بالملأ الأعلى وأهل القرب من الله تعالى.
ومن جملة العلوم معرفة الله التي هي السبب الكلي لإيجاد العلم العلوي والسفلى، كما دل عليه الخبر القدسي: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق. على أن العلم لذيذ في نفسه محبوب في ذاته، وما يحصل منه من اللذة والابتهاج فلما يحصل من غيره. والسر فيه أن إدراك الأشياء والإحاطة بها نوع تملك وتصرف لها، إذ تتقرر في ذات المدرك حقائقها وصورها، ومثل هذا التملك لدوامه وجزئية المدرك للمدرك أقوى من ملكية الأعيان المبائنة لذات المالك الزائلة عنه. والتحقيق: أن إطلاق الملكية عليه مجازي، والنفس لكونها من سنخ عالم الربوبية تحب القهر والاستيلاء على الأشياء والمالكية لها بأي نحو كان، إذ معنى الربوبية التوحيد بالكمال والاقتدار والغلبة على الأشياء.
ثم من فوائد العلم في الدنيا العز والاعتبار عند الأخيار والأشرار، ونفوذ الحكم على الملوك وأرباب الاقتدار، فإن طباع الأنام من الخاص والعام مجبولة على تعظيم أهل العم وتوقيرهم ووجوب إطاعتهم واحترامهم، بل جميع الحيوانات من البهائم والسباع مطيعة للانسان مسخرة له، لاختصاصه بقوة الإدراك ومزيد التمييز. ولو تصت آحاد الناس لم تجد أحدا له تفوق وزيادة على غيره في جاه أو مال أو غير ذلك إلا وهو راجع إلى اختصاصه بمزيد تمييز وإدراك، ولو كان من باب المكر والحيل. هذا وما يدل على شرافة العلم من الآيات والأخبار أكثر من أن تحصى.
نبذة منها قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) الفاطر 28. وقوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر9. وقوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)، البقرة 269. وقوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت 43.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله: من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي ذر: جلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى الله تعالى من قيام ألف ليلة يصلى في كل ليلة ألف ركعة وأحب إليه من ألف غزوة، ومن قراءة القرآن كله اثنى عشر ألف مرة، وخير من عبادة سنة صام نهارها وقام ليلها، ومن خرج من بيته ليلتمس باب من العلم كتب الله عز وجل له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء، وثواب ألف شهيد من شهداء بدر، وأعطاه الله بكل حرف يسمع أو يكتب مدينة في الجنة، وطالب العلم يحبه الله وتحبه الملائكة والنبيون، ولا يحب العلم إلا السعيد، وطوبى لطالب العلم، والنظر في وجه العالم خير من عتق ألف رقبة، ومن أحب العلم وجبت له الجنة، ويصبح ويمسي في رضى الله، ولا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر ويأكل من ثمرة الجنة، ولا يأكل الدود جسده، ويكون في الجنة رفيق خضر (عليه السلام).
وقول أمير المؤمنين: إن كمال الدين طلب العلم والعمل به، وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، وإن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم، وقد ضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله فاطلبوه. وقوله (عليه السلام): إذا مات مؤمن وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة سترا بينه وبين النار، وأعطاه الله بكل حرف عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات.
وقول سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام: لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه، ولو بسفك المهج وخوض اللجج. وقول الباقر (عليه السلام): عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد. وقول الصادق لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤون بأرجلهم، ولتنعموا بمعرفة الله وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إن معرفة الله تعالى أنس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم، قد كان قوم قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردهم عماهم عليه شيء مما هو فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى بما نقموا منهم: إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. فاسألوا ربكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم.
وعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم في مظانه، واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه لله تعالى حسنة، وطلبه عبادة، - والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء. والزبن عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما، ويجعلهم في الخير قادة، تقتبس آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتها تبارك عليهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه. إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار ومجالس الأبرار والدرجات العلى في الآخرة والأولى. الذكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام. وبه يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام. العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظه.
اضف تعليق