التبديل يختلف باختلاف مراتب السياسيات والتأديب، فيمكن أن لا يرتفع مذموم خلق بمرتبة من التأديب، ويرتفع بمرتبة منه فوقها، والأسهل قبول لكل خلق الأطفال لخلو نفوسهم عن الأضداد المانعة من القبول، فيجب على الآباء تأديبهم بالآداب الجميلة، وصونهم عن ارتكاب الأعمال القبيحة، حتى تعتاد نفوسهم بترك الرذائل، وارتكاب الفضائل...
كل نفس في يده الخلقة خالية عن الملكات بأسرها، وإنما تتحقق كل ملكة بتكرر الأفاعيل والآثار الخاصة به بيان ذلك أن كل قول أو فعل ما دام وجوده في الأكوان الحسية لاحظ له من الثبات لأن الدنيا دار التجدد والزوال، ولكنه يحصل منه أثر في النفس، فإذا تكرر استحكم الأثر فصار ملكة راسخة.
مثاله الحرارة التي تحدث في الفحم فإنها ضعيفة أولا وإذا اشتدت تجمرت ثم استضاءت، ثم صارت صورة نارية محرقة لما قارنها مضيئة لما قابلها، وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة وصورا باطنة تكون مبادئ للآثار المختصة بها، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تعسر قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم وتنقيش نفسهم بكل صورة وصفة ويتعسر أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها.
الخلق: عبارة عن ملكة للنفس مقتضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية والملكة: كيفية نفسانية بطيئة الزوال. وبالقيد الأخير خرج الحال لأنها كيفية نفسانية سريعة الزوال، وسبب وجود الخلق إما المزاج، أو العادة بأن يفعل فعلا بالروية، أو التكلف ويصبر عليه إلى أن يصير ملكة له ويصدر عنه بسهولة وإن كان مخالفا لمقتضى المزاج.
واختلف الأوائل في إمكان إزالة الأخلاق وعدمه، وثالث الأقوال أن بعضها طبيعي يمتنع زواله وبعضها غير طبيعي حاصل من أسباب خارجة يمكن زواله. ورجح المتأخرون الأول وقالوا: ليس شيء من الأخلاق طبيعيا ولا مخالفا للطبيعة، بل النفس بالنظر إلى ذاتها قابلة للاتصاف بكل من طرفي التضاد، إما بسهولة إن كان موافقا للمزاج، أو بعسر إن كان مخالفا له فاختلاف الناس في الأخلاق لاختلافهم في الاختيار والمزاولة لأسباب خارجة. (حجة القول الأول) أن كل خلق قابل للتغيير وكل قابل للتغيير ليس طبيعيا فينتج لا شيء من الخلق بطبيعي والكبرى بديهية، والصغرى وجدانية. فإنا نجد أن الشرير يصير بمصاحبته الخير خيرا، والخير بمجالسته الشرير شريرا.
ونرى أن التأديب في السياسات فيه أثر عظيم في زوال الأخلاق، ولولاه لم يكن لقوة الروية فائدة وبطلت التأديبات والسياسات ولغت لشرائع والديانات، ولما قال الله سبحانه: (قد أفلح من زكاها) الشمس الآية: 9. ولما قال النبي صلى الله عليه وآله: حسنوا أخلاقكم، ولما قال: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. ورد: بمنع كلية الصغرى فإنا نشاهد أن بعض الأخلاق في بعض الأشخاص غير قابل للتبديل (لا) سيما ما يتعلق بالقوة النظرية، كالحدس والتحفظ، وجودة الذهن، وحسن التعقل، ومقابلاتها كما هو معلوم من حال بعض الطلبة، فإنه لا ينجح سعيهم في التبديل مع مبالغتهم في المجاهدة. وما قيل: من لزوم تعطل القوة المميزة وبطلان التأديب والسياسات مردود: بأن هذا اللزوم إذا لم يكن شيء من الأخلاق قابلا للتغيير، وأما مع قبول بعضها أو أكثرها له فلا يلزم شيء مما ذكر، ولو كان عدم قبول بعض الأخلاق للتغيير موجبا لبطلان علم الشرائع والأخلاق لكان عدم قبول بعض الأمراض للصحة مقتضيا لبطلان علم الطب، مع إنا نعلم بديهة أن بعض الأمراض لا يقبل العلاج.
(وحجة القول الثاني) إن الأخلاق بأسرها تابعة للمزاج، والمزاج لا يتبدل، واختلاف مزاج شخص واحد في مراتب سنة لا ينافي ذلك، لجواز تابعيتها لجميع مراتب عرض المزاج، وأيد ذلك بقوله (ص): (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام) وبقوله (ص): (إذا سمعتم أن جبلا زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوه، فإنه سيعود إلى ما جبل عليه). و(الجواب) إن توابع المزاج من المقتضيات التي يمكن زوالها لا من اللوازم التي يمتنع انفكاكها، لما ثبت في الحكمة من أن النفوس الإنسانية متفقة في الحقيقة، وفي بدو فطرتها خالية عن جميع الأخلاق والأحوال كما هو شأن العقل الهيولائي (1).
ثم ما يحصل لها منهما أما من مقتضيات الاختيار والعادة أو استعدادات الأبدان والأمزجة، والمقتضي ما يمكن زواله كالبرودة للماء، لا ما يمتنع انفكاكه كالزوجة للأربعة. والخبر الأول لا يفيد المطلوب بوجه. والثاني مع عدم ثبوته عندما يدل على خلاف مطلوبهم، لأن قوله: (سيعود إلى ما جبل عليه) يفيد إمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما، وبعد إزالته بها يعود بارتفاعها كبرودة الماء التي تزول ببعض الأسباب وتعود بعد زوال السبب، فلو دام على حفظ الأسباب وإبقائها لم يحصل العود أصلا.
وإذ ثبت بطلان القولين الأولين فالحق القول بالتفصيل، يعني قبول بعض الأخلاق بل أكثرها بالنسبة إلى الأكثر التبديل للحس والعيان، ولبطلان السياسات والشرائع لولاه ولإمكان تغير خلق البهائم، إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى الأنس والفرس من الجماح إلى الانقياد والكلب من الهراشة إلى التأدب، فكيف لا يمكن في حق الإنسان، وعدم قبول بعضها بالنسبة إلى البعض له، للمشاهدة والتجربة، وهذا البعض مما لا يكون متعلق التكليف كالأخلاق المتعلقة بالقوة العقلية من الذكاء والحفظ وحسن التعقل وغيرها. والتصفح يعطي اختلاف الأشخاص والأخلاق في الإزالة والاتصاف بالضد بالإمكان والتعذر والسهولة والتعسر وبالتقليل والرفع بالمرة، ولذا لو تصفحت أشخاص العالم لم تجد شخصين متشابهين في جميع الأخلاق، كما لا تجد اثنين متماثلين في الصورة. ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله: أعملوا فكل ميسر لما خلق له. وقال أرسطاليس: يمكن صيرورة الأشرار أعيارا بالتأديب إلا أن هذا ليس كليا، فإنه ربما أثر في بعضهم بالزوال وفي بعضهم بالتقليل وربما لم يؤثر أصلا.
ثم المراد من التغيير ليس رفع الغضب والشهوة مثلا وإماطتهما بالكلية فإن ذلك محال لأنهما مخلوقتان لفائدة ضرورية في الجبلة، إذ لو انقطع الغضب عن الإنسان بالكلية لم يدفع عن نفسه ما يهلكه ويؤذيه وامتنع جهاد الكفار، ولو انعدم عنه شهوة الطعام لم تبق حياته، ولو بطل عنه شهوة الوقاع بالمرة لضاع النسل، بل المراد ردهما من الإفراط والتفريط إلى الوسط فالمطلوب في صفة الغضب خلو النفس عن الجبن والتهور، والاتصاف بحس الحمية، وهو أن يحصل إذا استحسن حصوله شرعا وعقلا، ولا يحصل إذا استحسن عدمه كذلك.
وكذا الحال في صفة الشهوة. ولا ريب في أن رد بعض الموجودات الناقصة من القوى وغيرها إذا جدت وفيه قوة الكمال إلى كماله ممكن إذا كان له شرط يرتبط باختيار العبد، فكما أن النواة يمكن أن تصير نخلا بالتربية، لوجود قوة النخلية فيه، وتوقف فعليتها على شرط التربية التي بيد العبد، فكذلك يمكن تعديل قوتي الغضب والشهوة بالرياضة والمجاهدة، لوجود قوة التعديل فيهما، وتوقف فعليتهما على شرط ارتبط باختيار العبد أعني الرياضة والمجاهدة، وإن لم يمكن لنا قلعهما بالكلية، كما لا يمكن لنا إعدام شيء من الموجودات، ولا إيجاد شيء من المعدومات.
ثم شرائط الرد تختلف بالنسبة إلى الأشخاص والأخلاق، ولذا ترى أن التبديل يختلف باختلاف مراتب السياسيات والتأديب، فيمكن أن لا يرتفع مذموم خلق بمرتبة من التأديب، ويرتفع بمرتبة منه فوقها، والأسهل قبول لكل خلق الأطفال لخلو نفوسهم عن الأضداد المانعة من القبول، فيجب على الآباء تأديبهم بالآداب الجميلة، وصونهم عن ارتكاب الأعمال القبيحة، حتى تعتاد نفوسهم بترك الرذائل، وارتكاب الفضائل، والمؤدب الأول هو الناموس الإلهي، والثاني أولو الأذهان القويمة من أهل المعارف الحقة، فيجب تقييد من يراد تأديبه بالنواميس الربانية أولا، وتنبيهه بالحكم والمواعظ ثانيا.
اضف تعليق