في ظل اضطراب الميديا ــ إزاء حالة من الاهتزاز السلوكي الذي يستلزم جهداً نقدياً يعيد النظر لواقع الميديا وهي تتعمد تهشيم الثقافات، وإشاعة حالة من (الكره الحضاري) بين مستخدمي وسائل التواصل، أو أولئك الذين أدمنوا الشبهات الأخلاقية، وتصيد السلوكيات الشخصية التي يمكن أن تكون مادة لإشغال الرأي العام تحت مسمى الانفتاح...
ثمة مشكلة استفحلت لتصل إلى درجة آفة تهدد الوجود البشري وكيانه الأخلاقي تتمثل في التنصل والتجرد من نزاهة الاختلاف مع الآخر، وإحلال قيمة الفجور السلوكي مع الخصوم في شتى المجالات، وبصورة تجعل الإنسان أبعد ما يكون عن إنسانيته.
مثل هذه الآفة تظهر كثيراً في ميدان العمل السياسي، خصوصاً في ذروة التنافس في الموسم الانتخابي لهذا البلد أو ذاك، بحيث يتم التغافل عن التنافس في المشاريع التي يمكن أن يقدمها كل طرف لإقناع المواطنين بانتخابه، ويتم الالتفات لقضايا شخصية الهدف منها تسقيط الخصم بأية طريقة حتى وإن كانت البحث في سلوكه الشخصي. هنا يكون دافع الانتقام هو الأعلى صوتاً.
الغريب أن هذا الانحراف في القيم والأخلاقيات يزدهر في المجتمعات التي يفترض أن للأخلاق في أدبياتها حضوراً كبيراً وتأكيداً على مستوى النصوص والتشريعات سواء كانت الدينية منها أو الفكرية. يقول الدكتور (أحمد الشيبة النعيمي) : "تربط الأدبيات الإسلامية بين الفجور في الخصومة وبين النفاق بعدِّ الفجور علامة من علامات المنافقين كما ورد في الأثر النبوي، ولهذا الاعتبار الشرعي تفسيرات علمية في المعرفة البشرية، فالفاجر في الخصومة يعيش حالة من الفصام النفسي بين ضميره الإنساني وبين مشاعره الانتقامية التي تتغلب عليه"1
ولعل لوماً يمكن أن يطال المتصدين للفعل السياسي، أو للممارسة الانتخابية، خصوصاً أولئك الذين لهم قيمتهم الفكرية والثقافية العالية، ومركزهم الاجتماعي المرموق؛ لأنهم ــ أو بعضهم ــ لم يلتفتوا لقضية أنهم أصبحوا في دائرة الضوء من خلال انخراطهم في أعقد المهام والمقصود هنا المهام السياسية التي تجعلهم محط أنظار ملايين الناس. يجب عليهم الحذر والانتباه حتى على مستوى الممارسات والسلوكيات الشخصية لأنهم مرصودون من خصومهم الذين تحدثنا عن غياب أخلاق الخصومة لديهم، والتي استبدلوها بانحراف قيمي خطير.
ويبدو أن الانفعال الذي يتحكم بالتعاطي المجتمعي تجاه هذه القضايا تحديداً يشي بأزمة كبيرة تتمظهر من خلال الانقسام الحاد لمن يتناول مثل هذه الممارسات، الأمر الذي يعني وصول الشيزوفرينيا المجتمعية إلى أعلى درجاتها. فنمط يتعامل مع الظاهرة على انها نكتة وآخر يتغاضى عن سوء الظاهرة وينتقد المنتقدين بدوافع تُظهر أن النمطين محكومين بالصراع الأساس بين هذا الخصم الانتخابي وذاك، مع الأخذ بنظر الاعتبار سهولة تداول ردود الأفعال على الوسائل الاتصالية؛ لأننا اليوم إزاء مشهد اتصالي هائل، يكاد يكون المهيمن على اهتماماتنا الحياتية، بل ويساهم بشكل مخيف في صنع الرأي العام تجاه مختلف القضايا والأحداث، فإننا نلحظ تراجع القيم التي يمكن من خلالها تكوين الرأي، أو بلورة الأفكار، مع تقدم سريع للقيم المُنتجة افتراضياً، الأمر الذي سيترك حتماً آثاره على الثقافة والفكر.
الميديا اليوم هي الشكل الأبرز والقريب للفرادة في قضية صناعة الرأي العام؛ لكونها أيقونة الممكن التواصلي الأسرع، فخلقت حالة من الانبهار لدى الملايين المتعاطين مع وسائلها أثمرت عن تأثير يذكر بالانبهار الذي أحدثته ولإذاعات والتليفزيونات ودور السينما على سلوك الأفراد في فترات سابقة. الواقع يقول إننا ــ في ظل اضطراب الميديا ــ إزاء حالة من الاهتزاز السلوكي الذي يستلزم جهداً نقدياً يعيد النظر لواقع الميديا وهي تتعمد تهشيم الثقافات، وإشاعة حالة من (الكره الحضاري) بين مستخدمي وسائل التواصل، أو أولئك الذين أدمنوا الشبهات الأخلاقية، وتصيد السلوكيات الشخصية التي يمكن أن تكون مادة لإشغال الرأي العام تحت مسمى الانفتاح.
والخطر الذي لا نستشعره يكمن في أن مصطلح فضفاض كمصطلح الانفتاح يُصدر اليوم بأشكال تخدع الإنسان وتصدمه من خلال عناوين براقة يتم الانبهار بقشريتها الملونة دون تحمل عناء الخوض في أبعادها وقصديتها. فحرية طرح الآراء وتلاقح الثقافات والقرية الصغيرة والتداخل الحضاري، وغيرها من العناوين؛ تعد مغرية وجذابة، غير أن الذي لم ننتبه له اليوم هو الهدف المتخفي الساعي لضرب الخصوصيات والهويات من خلال أدق التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً حتى يتم الوصول لثقافة هجينة مبعثرة يسهل من خلالها السيطرة على العالم وتسييره وفق أجندات تجتهد في تخدير الوجود البشري وتغييبه.
تبدو الميديا بشكلها الحالي امتداداً لقضية التنمية بمنطق مادي لم يعر انتباهاً لمسلمات أخلاقية وتربوية وروحية، فنشأت لنا قطيعة كبيرة بين القديم والمعاصر، وهذان ــ القديم والمعاصر ــ قطبان أساسيان في حياتنا، وأمام هذه الحالة المقلقة؛ ينبغي الالتفات لمسألة نمو الفكر لدى المجتمعات، واستنفار كل الممكنات ــ الميديا ووسائل التواصل في مقدمتها ــ من أجل تحقيق هذه الغاية.
وبين انشغال الخصوم بالتسقيط والتسقيط المتبادل ونشر الغسيل المتبادل من الفضائح والسلوكيات، وبين الانشغال المجتمعي المنفعل في تعاطيه مع هذه الفورة التسقيطية؛ يغيب الحديث عن المستقبل الذي يفترض أن يصنعه المنشغلون بالبحث عن فضائح الآخرين. كما يغيب اهتمام المجتمع بفرض إرادته باختيار الأصلح الذي يمكنه الأخذ بيد الطموحات والأحلام إلى الأمام، وعندها تكون الخسارة كبيرة.
اضف تعليق