بدأ بالكاد عدد من الباحثين وصناع القرار في التنبُه إلى تأثيرات الهواء الملوث في الأماكن المغلقة. وكالعادة، تتحمل المجتمعات الأشد فقرًا النصيب الأكبر من المعاناة من أضراره، فتلوث هواء الأماكن المغلقة يجب أن يحظى باهتمام مماثل لقضية تلوث هواء الأماكن المفتوحة في أوساط دوائر الصحة العامة...
بدأ بالكاد عدد من الباحثين وصناع القرار في التنبُه إلى تأثيرات الهواء الملوث في الأماكن المغلقة. وكالعادة، تتحمل المجتمعات الأشد فقرًا النصيب الأكبر من المعاناة من أضراره، فتلوث هواء الأماكن المغلقة يجب أن يحظى باهتمام مماثل لقضية تلوث هواء الأماكن المفتوحة في أوساط دوائر الصحة العامة.
تلوُث الهواء يأخذ في الأذهان عادةً صورًا لمداخن طويلة ومدن يغشيها الضباب، غير أن هذا قد يكون تصورًا واهمًا. فتلوث الهواء في صورته داخل الأماكن المغلقة أودى بحياة أكثر من 3 ملايين شخص في عام 2020، وهو تقريبًا عدد يضاهي عدد الوفيات التي أسفر عنها التلوث في الهواء الطلق. مع ذلك، فقد أغفلت الأبحاث والسياسات في أغلب الأحيان هذه الإحصاءات.
وفي هذا السياق، يوضح ثلاثة باحثين في مقال نُشر مؤخرًا في قسم «تعليقات» بدورية Nature، كيف يجب تغيير هذا المفهوم الخاطئ. فيبيّن كريستوفر ويتي، كبير الاستشاريين الطبيين لحكومة المملكة المتحدة، وزميلاه؛ ديبورا جينكينز، وألاستير لويس، الإجراءات التي يجب على الباحثين وصناع السياسات تبنيها لتحسين فهمنا لأبعاد تلوث الهواء داخل المباني والحد منه في نهاية المطاف. وينوهون إلى أن غالبية الأشخاص يمضون نسبة تتراوح ما بين 80% و90% من أوقاتهم في أماكن مغلقة، داخل المنازل والمدارس وأماكن العمل.
مع ذلك، فخلافًا للمعايير الوطنية القانونية المُحكمة واجبة النفاذ المعنية بالحد من تلوث الأماكن المفتوحة في أجزاء كثيرة من العالم، لا تخضع غالبية الأماكن المغلقة لضوابط تتحكم في جودة الهواء.
ولا جرم أن مؤلفي المقال محقون في استرعاء الانتباه إلى قضية لطالما أُغفلت. إذ إن التقدُم المحرز في هذا الإطار يعوقه جهلنا بحقائق جوهرية، مثل حقيقة العناصر التي تسهم في تلوث الهواء داخل الأماكن المغلقة. وتشمل هذه العناصر مركبات مألوفة في هذا السياق مثل أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون الناتجين من حرق الفحم وأكاسيد النيتروجين المنبعثة من غلايات الغاز الطبيعي.
غير أن هناك أيضًا عديدًا من المصادر الأخرى الملوثة لهواء الأماكن المُغلقة، مثل المواد الكيميائية في المركبات الاصطناعية بالدهانات والأقمشة وعفن رطوبة المباني والفيروسات والبكتيريا من زفير الإنسان. ويحتاج الباحثون إلى بذل مزيد من الجهود لفهم آليات انتشار كل هذه الملوثات، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض، وتأثيرها في صحة الإنسان، وكيف قد تتأثر بالتغيُر المناخي.
وعلى الرغم من أن تلوُث الهواء داخل الأماكن المغلقة يُعد إشكالية عالمية، فإن الاستراتيجيات الصحيحة واللازمة لمكافحته يُتوقع أن تختلف باختلاف المناطق والبلدان والأقاليم المحلية. ويشير كاتبو المقال إلى أن "أساليب البناء ومواده، والمناخ، ومصادر الطاقة، وكذلك السلوكيات والممارسات الثقافية، تؤثر جميعها في الهواء داخل الأماكن المغلقة".
بيد أنه مما لا شك فيه أنه بقدر ما يقع النصيب الأكبر من الضرر من تلوُث هواء الأماكن المفتوحة على الفئات المهمشة والأشد فقرًا (A. Jbaily et al. Nature 601, 228–233; 2022)، يضفي تلوُث الهواء داخل الأماكن المُغلقة مزيدًا من الاتساع إلى تلك الفجوة، ويعزز انعدام المساواة بين طرفيها. ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، على سبيل المثال، يُقدر أن 700 ألف شخص لقوا حتفهم بسبب تلوث الهواء داخل الأماكن المغلفة في عام 2019، وكثير منهم لقى حتفه من أثر جسيمات من مواقد حرق الأخشاب في الأماكن المغلقة (B. Khavari et al. Nature Sustain. https://doi.org/grqrbg; 2023). ورغم أنه توجد بدائل أقل تلويثًا للهواء، فإن استخدامها على نطاق واسع يحتاج إلى مجموعة من الإجراءات التدخلية الشاملة على الصعيد البحثي، بدءًا من الأبحاث المعنية بهندسة وتصميم المنشآت إلى الأبحاث السلوكية.
كذلك تجدر الإشارة إلى أنه في البلدان الأكثر ثراء أو برودة، تميل الفئات الفقيرة إلى الاعتماد على الغاز أو الوقود الصلب للتدفئة، أو العيش في منازل تأثرت بنيتها بالرطوبة والعفن. ويمكن أن تؤدي الإجراءات التدخلية الرامية إلى تحسين جودة الهواء إلى تحقيق النفع للجميع، على سبيل المثال، بإعطاء حوافز نظير التحول إلى استخدام وقود أنقى، فضلًا عن المساعدة في نزع الكربون من الغلاف الجوي (في حين أن هذا لا ينطبق بالدرجة نفسها على الإجراءات لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة من خلال عزل أفضل للأماكن المغلقة على نحو يؤثر سلبًا في جودة الهواء، وهي علاقة يجب أن تُدرس بعناية). فعلى حد تعبير كاتبو المقال: "من الضرورة بمكان نزع الكربون وتحسين تصميم المباني وإحراز مكاسب على صعيد جودة هواء الأماكن المغلقة، بما يحقق النفع لجميع فئات المجتمع بالتساوي".
ومن الجلي أن على صانعي السياسات أن يولوا على جناح السرعة اهتمامًا لإشكاليات تلوث هواء الأماكن المغلقة. من هنا، نُشرت أحدث توجيهات منظمة الصحة العالمية بشأن رطوبة وعفن المباني في عام 2009. ومما لا شك فيه، أن مقال ويتي وزميليه الذي سلفت الإشارة له، والذي يأتي من خبراء في تقديم المشورة للحكومات، سيكون مفيدًا في هذا الصدد. وختامًا، يجب أن تحرص الأبحاث العلمية على أن تكون أقدر على تقديم العون عندما تُطلب منها المشورة في وضع شتى استراتيجيات التصدي لهذه المشكلة. كذلك فإن تلوث هواء الأماكن المغلقة يجب أن يحظى باهتمام مماثل لقضية تلوث هواء الأماكن المفتوحة في أوساط دوائر الصحة العامة، مع توفير كل التمويل اللازم للحد منه، وهذه خطط جيدة ينبغي ألا تذهب هباءً منثورًا.
اضف تعليق