لعل اثنين من أبرز التحديات التي تواجهها المجتمعات اكتشاف سبل لتأمين الغذاء لسكان العالم المتزايدة أعدادهم، والحد من التلوث البيئي، رصد تحليل لنتائج أكثر من 1500 عملية رصد ميداني تأثيرات مجموعة من الممارسات الزراعية التي من شأنها أن تحسِّن فاعلية استخدام الأسمدة النيتروجينية، وتعزيز إنتاجية المحاصيل الزراعية والحد من التلوث البيئي...
بقم: لونجلونج شيا وشاويوان يان
لعل اثنين من أبرز التحديات التي تواجهها المجتمعات اكتشاف سبل لتأمين الغذاء لسكان العالم المتزايدة أعدادهم، والحد من التلوث البيئي، وفي هذا السياق، تُعد الأسمدة النيتروجينية، من جانب، ضرورية لإنتاج غذاءٍ كافٍ لسكان الكوكب البالغ عددهم ثمانية مليارات نسمة، بيد أنه من جانب آخر، ما يزيد عن حده ينقلب إلى ضده؛ فالإفراط في استخدام هذه الأسمدة، يؤدي إلى تسرب كميات كبيرة من النيتروجين إلى البيئة؛ وهو ما من شأنه أن يُلوث الهواء والماء. ومن هنا، في بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature3 سعى الباحث باوجينج جو مع فريقه البحثي إلى دراسة الإشكاليات المرتبطة بتنازع هذين الجانبين من استخدام الأسمدة النيتروجينية. وخلص الفريق البحثي إلى أن تبني ممارسات متقدمة لإدارة النيتروجين قد يسمح بإنتاج الغذاء بمعدل أكبر من الحالي، مع التسبب في مستويات أقل من التلوث بالنيتروجين. علاوة على ذلك، استنتج الفريق البحثي أن المكاسب المجتمعية الناجمة عن ممارسات خفض معدلات التلوث بالنيتروجين من الزراعة تربو كثيرًا على تكاليف إنفاذ هذه الممارسات.
فعلى مستوى العالم، لا تمتص المحاصيل إلا حوالي 40% من الأسمدة النيتروجينية المستخدمة في الأراضي الزراعية، أي تبلغ كفاءة استهلاكها للنيتروجين (NUE) 40%4. في المقابل، يتسرب حوالي نصف هذه الأسمدة إلى البيئة من خلال انبعاثات غازية لمركبات النيتروجين وعمليات ارتشاح مركبات النيتروجين المذابة وتسربها لتُصرف في المسطحات المائية4،5، وهو ما يؤثر سلبًا في جودة الهواء والماء ويضر بصحة الإنسان. ولعل ما زاد الطين بلة، هو تزايد استخدام الأسمدة النيتروجينية بصفة مستمرة على مدى العقود الأخيرة، في الوقت الذي لم ترتفع فيه كنتيجة إنتاجية المحاصيل الأساسية في نسبة تتراوح ما بين 24 و39% من الأراضي الزراعية6. ويُشير ذلك تباعًا إلى ارتفاع معدلات تلوث البيئة بالنيتروجين الناجم عن استخدام الأسمدة. لذا، يسعى المتخصصون في علم الزراعة والفلاحة إلى التوصُل إلى استراتيجيات لإنتاج المزيد من المحاصيل، مع خفض معدلات التلوث بالنيتروجين، بما يحقق النفع للأطراف كافة في الوقت ذاته.
ولمواجهة التحديات المرتبطة بذلك، أجرى باوجينج جو وفريقه البحثي تحليلًا إحصائيًا تجميعيًا لنتائج 1521 عملية رصد ميداني لممارسات متقدمة لإدارة النيتروجين، نُشرت خلال العقدين الماضيين لدراسة آثار هذه الممارسات على غلات المحاصيل وعلى الفاقد من النيتروجين المستهلك. كذلك رصد واضعو الدراسة تأثيرات إحدى عشرة من أهم ممارسات تعزيز إنتاج المحاصيل الزراعية ودعم كفاءة استهلاك النيتروجين وتقليل معدلات تسربه إلى البيئة. ومن هنا، وجد الفريق البحثي أن الممارسات التي توازن بالتزامن بين حاجة المحاصيل إلى النيتروجين والإمدادات منه8،7، فيما يُعرف باسم استراتيجية «آر فور R4لإدارة المغذيات» (بتوفير المناسب من نوع السماد، وكميته، في المكان المناسب والوقت المناسب) شديدة الفاعلية في خفض معدلات التلوث بالنيتروجين.
ومن خلال عمليات نمذجة حاسوبية لاستقراء آثار إنفاذ هذه الممارسات عالميًا، واعتماد آليات استهلاك النيتروجين التقليدية في عام 2015 كنقطة مرجعية للمقارنة، اكتشف الفريق العديد من المنافع لإنفاذ هذه الاستراتيجيات. على سبيل المثال، ارتفع معدل امتصاص المحاصيل الزراعية للنيتروجين بنسبة 20%، مقارنة بمعدلات امتصاصها له في عام 2015. كما انخفضت معدلات تلوث البيئة بالنيتروجين بنسبة 32%، ومعدلات الاستهلاك العالمي للأسمدة النيتروجينية بنسبة 21%.
بيد أن إنفاذ ممارسات إدارة النيتروجين المتطورة له ثمنه؛ إذ يتعين على المزارعين بذل مال ووقت والاستثمار في العمالة قبل التمكن من تطبيق هذه الممارسات على أتم وجه على أراضيهم. علاوة على ذلك، تُعد تكاليف إنفاذ تلك الممارسات أكبر عائق أمام تبنيها على نطاق واسع في العديد من البلدان7. وعلى أساس تحليل التكاليف والمكاسب، خلص جو وفريقه البحثي إلى أن المكاسب التي قد يجنيها المجتمع العالمي من ممارسات الحد من التلوث بالنيتروجين الزراعي تتجاوز تكاليف هذه الممارسات بخمسة عشر ضعفًا، بالأخذ بعين الاعتبار احتساب تحسُن إنتاج المحاصيل الزراعية، والانخفاض في معدلات الوفيات المبكرة بسبب أمراض الجهاز التنفسي الناتجة عن تلوث الهواء واستمرار منافع النظم الإيكولوجية غير الملوَّثة.
رصد باوجينج جو وفريقه البحثي الآثار المترتبة على إحدى عشرة من أهم الممارسات الرامية إلى تعزيز إنتاجية المحاصيل الزراعية ورفع كفاءة استهلاك الأسمدة النيتروجينية، وخفض معدلات التلوث الناتجة عن تسرب النيتروجين إلى البيئة. بعد ذلك، استخدم الفريق البحثي النمذجة الحاسوبية، لتحليل التكاليف والمكاسب المالية التي قد تنجم عن تنفيذ هذه الممارسات على أمثل وجه على مستوى العالم، مع عدم الاكتفاء بالأخذ في الاعتبار النتائج على صعيد إنتاجية المحاصيل الزراعية وتوفير الأسمدة، بل أيضًا على صعيد المناخ، والنظم الإيكولوجية، وصحة الإنسان. وتظهر هنا النتائج الخاصة بعديد من أهم مناطق العالم، مع اعتماد استخدام الأسمدة النيتروجينية التقليدية في عام 2015 كنقطة مرجعية للمقارنة. وتُشير القيم السلبية إلى التكاليف، بينما تُشير القيم الإيجابية إلى المكاسب، وتعبر التكاليف عن صافي تكاليف اعتماد المزارعين لهذه الممارسات، مع أخذ توفير الأسمدة في الاعتبار.
مع ذلك، يُشكل إدخال تغييرات إلى آليات المزارعين في إدارة النيتروجين الزراعي تحديًا كبيرًا، لا سيما في حال صغار المزارعين الذين يعملون في كثير من الأحيان بدوام جزئي في قطاعات غير زراعية (يُمكن أن يتجاوز الدخل الناتج منها الدخل من الزراعة9). من هنا، ثمة حاجة إلى تدخلات سياسية قوية لتشجيع المزارعين على تبني أنظمة مُحسَّنة لإدارة النيتروجين. ويُعد «نظام الرصيد من النيتروجين» الذي طرحه جو وفريقه البحثي محاولة تأتي في الوقت المناسب لمعالجة هذه المشكلة. وتقوم فكرة هذا النظام على أن تقدم المجتمعات المُستفيدة من خفض معدلات التلوث بالنيتروجين وزيادة الإمدادات الغذائية دعمًا ماليًا للمزارعين الذين يتبنون أنظمة إدارة النيتروجين المتقدمة.
ولعل مفتاح إنفاذ هذا النظام تأمين ميزانية مالية مخصصة له. ويمكن تدبير هذه الميزانية من خلال فرض ضرائب على جهات استهلاك المواد الغذائية، أو الشركات التي تعتمد على الزراعة للإنتاج التجاري للأغذية، أو من خلال فرض ضرائب على الأنشطة أو المنتجات الزراعية المُسببة للتلوُث. أما في حال البلدان منخفضة الدخل في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي يُعزى نقص الغذاء فيها إلى نقص الإمدادات من الأسمدة النيتروجينية وليس التلوث بالنيتروجين الزراعي، فيجب تدبير هذا الدعم المالي أيضًا من خلال تبرعات المؤسسات الصناعية المحلية وغير ذلك الأطراف المعنية. فضلًا عن ذلك، ينبغي للحكومات أن تفوض مجالس لإدارة تطبيق نظام الرصيد من النيتروجين عن طريق الإشراف على جمع الدعم المالي اللازم وتحويل الإعانات المالية إلى المزارعين، وتطبيق العقوبات على المزارعين الذين يتلقون هذه الأموال إذا لم يتوخوا بالدرجة الكافية الالتزام بممارسات إدارة النيتروجين9.
ويُعد تحقيق إدارة أفضل للنيتروجين من خلال التدخلات السياسية واعدًا، وإن كان محفوفًا بالمصاعب. على سبيل المثال، أدى الاستخدام المفرط للأسمدة النيتروجينية في الصين، وسوء إدارة استعمالها إلى انخفاض كبير في كفاءة استهلاك النيتروجين بهذا البلد عن المتوسط العالمي، وإلى ارتفاع معدلات التلوث بالنيتروجين4. وللتغلب على هذا الوضع، استثمرت الحكومة الصينية ما يقرب من 1.2 مليار دولار أمريكي خلال الفترة بين عامي 2005 و2015، لتنفيذ برنامج قومي لإدارة النيتروجين يُسمى «مخطط الاختبارات والتخصيب»10. وجدير بالذكر أنه بفضل الجهود المبذولة من جانب الحكومات المُشاركة في البرنامج والإدارات الزراعية، والمعاهد البحثية، والمزارعين، ارتفعت كفاءة استهلاك المحاصيل للنيتروجين في البلد من 35% إلى 42%12،11. ومن المرجح أن يُسفر برنامج متابعة انطلق عام 2015، ويُعرف باسم «خطة القضاء على تزايُد استخدام الأسمدة» Zero Increase Action Plan for Fertilizer Use، عن ارتفاع مستمر في كفاءة استهلاك المحاصيل للنيتروجين في الصين11.
كذلك يجب أن تركز الأبحاث المستقبلية على الوقوف على الممارسات المُثلى لإدارة النيتروجين في المناطق على اختلافها، من خلال دراسة العوامل الاجتماعية والاقتصادية المحلية (مثل وفرة العمالة، وتكلفتها، ومستوى خبرة المزارعين)، والمناخ الإقليمي، وظروف التربة، واختلاف أنواع المحاصيل. وكل هذه العوامل من شأنها أن تؤثر بدرجة كبيرة في تأثيرات ممارسات إدارة النيتروجين المتقدمة على إنتاج المحاصيل وتسرب النيتروجين إلى البيئة. كما يوضح جو وفريقه البحثي أن الدراسات الميدانية الساعية إلى تقصي تأثير ممارسات إدارة النيتروجين تتركز إلى حد كبير في دول نصف الكرة الشمالي. من ثم، هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات في جنوب الكرة الأرضية، ولا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأمريكا الجنوبية، لدراسة فاعلية هذه الممارسات بمزيد من الدقة في جميع أنحاء العالم. فمع توقُع وصول عدد سكان العالم إلى 9.7 مليار نسمة في عام 2050، يُعد تحسين استخدام الأسمدة النيتروجينية الطريقة الوحيدة لتوفير الغذاء لسكان العالم مع خفض معدلات التلوث بالنيتروجين في الوقت نفسه.
اضف تعليق