بالرغم من التهديدات المحدِقة ببقاء البشرية، بدءًا من التغيّر المناخي، إلى فقدان التنوّع البيولوجي، وصولًا إلى جائحة تدمِّر الأنظمة الاقتصادية، وتصيب المجتمعات بحالة من الشلل، ما تزال البلدان تنفق الأموال بلا تدبُّر على أسلحة فتّاكة؛ من أجل حروب لن تخوضها أبدًا...
بقلم: دينيس جارسيا
بالرغم من التهديدات المحدِقة ببقاء البشرية، بدءًا من التغيّر المناخي، إلى فقدان التنوّع البيولوجي، وصولًا إلى جائحة تدمِّر الأنظمة الاقتصادية، وتصيب المجتمعات بحالة من الشلل، ما تزال البلدان تنفق الأموال بلا تدبُّر على أسلحة فتّاكة؛ من أجل حروب لن تخوضها أبدًا.
وبوصفي أكاديمية تقدِّم المشورة إلى الأمم المتحدة حول سبل الحدّ من التسلّح، ومِن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وعلوم الروبوتات في الأغراض العسكرية، فقد ناديتُ طويلًا بأنّ على الدول أن تعطي الأولوية لمبدأ "تحقيق الأمن البشري من أجل الصالح العام" قبل الإنفاق العسكري1،2. وهذا يعني ضمان أن يتاح للأفراد الوصول إلى أفضل مستويات المعيشة الممكنة لهم؛ بتحقيق الأمن الاقتصادي، والسماح لهم بممارسة حقوقهم السياسية بِحُرّية، في بيئات صحية، لا يخشون فيها العنف، أو التهديدات المهلِكة المُلِحّة، مثل التغيّر المناخي، أو الجوائح.
وهذه النداءات ليست وليدة اليوم. فعلى سبيل المثال، عقب تفشي الإصابة بالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة "سارس" SARS، وفيروس زيكا، طُرحت للنقاش مسألة تغيير أوجه إنفاق ميزانيات الأمن، لتصب في التأهب لمواجهة الجوائح.3 واليوم، نجد أنّ تضخُّم حجم جائحة "كوفيد-19" COVID-19 بالتزامن مع تصاعد أحداث العنف –بالرغم من توقع حدوث كليهما منذ أمد بعيد– يقدم حججًا مؤيِّدة لاتخاذ تدابير أسرع.
ومن الواضح أن النظام العالمي القديم–الذي تُشيِّد فيه الحكومات ترسانات الأسلحة لحماية الدولة– لا يلبي احتياجات الأفراد، فوفقًا لمؤشر السلام العالمي، انخفضت مستويات السِّلم بنسبة 2.5% منذ عام 2008. ويقيس هذا المؤشر استيفاء 23 معيارًا –من بينها الإنفاق العسكري، وسهولة الوصول إلى الأسلحة الخفيفة– في 163 من الدول والأقاليم المستقلة، مصنِّفًا هذه المناطق طبقًا لمستوى السِّلم فيها. ويأتي هذا الانخفاض في مستويات السِّلم رغم تزايُد حجم الانفاق العسكري عالميًّا، إذ سجّل رقمًا غير مسبوق، بلغ 1.9 تريليون دولار في عام 2019 (انظر المرجع رقم 5)
وبالرغم من تراجُع الغارات على الحدود بين الدول، وكذلك الحروب الأهلية، تتصاعد الاضطرابات والقلاقل السياسية في الكثير من المناطق، ومن بينها أمريكا الشمالية والجنوبية، وأفريقيا، وآسيا. على سبيل المثال، في العقد الماضي، تزايدت أعمال الشغب والتظاهرات المناهِضة للحكومات بمقدار يربو على ضعف مستوياتها العالمية. وقد شهد أكثر من 96 بلدًا على مستوى العالم اندلاع تظاهرات عنيفة في عام 2019، إذ احتجّ المواطنون على الظلم القائم على العنصرية، ووحشية الشرطة، والفساد، وتدهور الاقتصاد.
إنّ الأسلحة لا تعالج الأسباب الجذرية لتزعزع الاستقرار؛ التي تتمثل في سوء أنظمة الحكم، ونقص الطعام، وقلة الوظائف، وضَعْف مخصصات التعليم، والتهديدات الأمنية؛ فالقوة العسكرية لا تجعل العالَم أكثر سلامًا، بيد أن التغيير ممكن. ويرى أنطونيو جوتيريش -الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة- أنّ هناك "حركة تضامُن ضخمة تتنامى" حول العالم؛ بهدف مواجهة الجائحة. ووسط تصاعد حدة النبرات القومية، تنشأ تحالفات؛ بهدف توزيع اللقاحات في البلدان منخفضة الدخل، ومتوسطة الدخل. وكانت المفوضية الأوروبية، وكندا، وأستراليا، والمملكة المتحدة -على سبيل المثال- من بين المسهِمين في تمويل "تحالف ابتكارات التأهب الوبائي" CEPI، الذي يعمل على تطوير لقاحات تقينا من الجوائح المستقبلية. وقد أُنشئ هذا التحالف في عام 2017 بجهود حكومتي النرويج والهند، ومؤسسة "بيل ومليندا جيتس" Bill & Melinda Gates في سياتل بواشنطن، وصندوق "وِيلْكَم" Wellcome الخيري للطب البيولوجي، التابع للمملكة المتحدة، والمنتدى الاقتصادي الدولي، وذلك عقب تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا في الفترة ما بين عامي 2014، و2016، إذ أودى هذا التفشي بحياة أكثر من 11 ألف شخص، وبلغت فاتورته الاقتصادية والاجتماعية أكثر من 53 مليار دولار. و"تحالف ابتكارات التأهب الوبائي" هو جزء من برنامج تكلفته 18 مليار دولار، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، ومؤسسة "جافي" Gavi، أو التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتحصين؛ يهدف إلى توفير ملياري جرعة من لقاحات فيروس "كوفيد-19" بحلول نهاية العام القادم.
ويجب أن يمثل هذا العام نقطة تحوّل فيما يتعلق بميزانيات الأمن القومي. وعلى الحكومات أن تُقِرّ بأن مفهومها عن الأمن القومي المعتمِد على التحالفات العسكرية الصناعية قد عفا عليه الزمن، وأصبح غير ذي صلة بواقع اليوم. ولكي تتعافى الحكومات من آثار التكاليف التي سوف تتكبّدها بسبب الجائحة على مدار السنوات الخمس القادمة، والمقدَّرة بما يصل إلى 82 تريليون دولار (انظر: go.nature.com/2q5jtyf)، ينبغي لها أن تركز على الإنفاق على التدابير الاقتصادية الهادفة إلى تشجيع خفض انبعاثات الكربون، ودعم قطاعات الصحة، والتعليم، والبيئة. كما ينبغي استثمار ميزانيات الأمن القومي في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، واتفاق باريس للمناخ لعام 2015، من أجل تفادي مخاطر التغيّر المناخي. وينبغي أن تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي التصديق على معاهدة تجارة الأسلحة، التي التقت أطرافها على شبكة الإنترنت في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي.
تشتُّت الجهود يكبّد تكاليف باهظة
تدرّ تجارة الأسلحة أرباحًا هائلة؛ فقد وصلت قيمة مبيعات شركات تصنيع الأسلحة الرائدة في العالم إلى 420 مليار دولار في عام 2018 (انظر المرجع رقم 6). ويستمر تداوُل هذه الأسلحة لعقود؛ وجميعها -بدءًا من الأسلحة الخفيفة والدبابات والطائرات، حتى البضائع والخدمات العسكرية- يُباع في الأسواق القانونية، وغير القانونية. وينتهي به الحال في الشوارع بأيدي تنظيمات مسلحة، مثل تنظيم القاعدة. فما الذي ترتب على ذلك؟ لقي حوالي 464 ألف شخص مصرعهم في عام 2017، نتيجةً لجرائم القتل، وقضى 89 ألفًا آخرين نحبهم في النزاعات المسلحة على مستوى العالم (أحدث البيانات المتوفرة يعود إلى عام 2017).
وأدى هذا إلى خسائر في نسبةٍ قوامها حوالي 11% من حجم النشاط الاقتصادي العالمي في عام 2019، بما يوازي تقريبًا ألفي دولار لكل شخص، أي 14.5 تريليون دولار إجمالًا4، تدخل في أسبابها الخسائر في الوظائف، وفي الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، وانخفاض حجم الإنتاج، وكل هذه النفقات على إنفاذ القانون ونظم العدالة، فضلًا عن الاعتقالات، والأعمال الإرهابية، وجرائم القتل، وجرائم العنف الأخرى، والإنفاق على الأمن الداخلي، والخوف من انعدام الأمن في مختلف قطاعات المجتمع.
وأينما فُقد الأمن، عَجَزَ الاقتصاد عن الازدهار. والدول الأقل تقدمًا، الأعلى في مستويات العنف -مثل السلفادور، والصومال، واليمن- تعاني أكثر من غيرها من وطأة غياب الأمن. وجدير بالذكر أن البلدان التي تشهد صراعات مسلحة -مثل سوريا، وجنوب السودان، وأفغانستان- فقدت ما يصل إلى 60% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2019 (المرجع رقم 4). وفي نهاية المطاف، يُعَد الإنفاق العسكري مسؤولًا عن 40.5% من الآثار الاقتصادية لأعمال العنف4. ومع ذلك، ففي العام الماضي، زاد 81 بلدًا نصيب الميزانيات العسكرية من الناتج المحلي الإجمالي لكل منها.
ولا يستطيع العالم -صراحةً- تحمُّل خسائر كهذه، لا سيما في وقتٍ نتعافى فيه من آثار جائحة ستكلفنا أرواح ملايين البشر، وستُنْزِل معاناة لا يمكن وصفها بملايين آخرين على مستوى العالم. والواقع أن ضمان الأمن البشري تكلفته أقل من تكلفة تمويل الجيوش؛ فتكلفة إنفاذ اتفاق باريس للمناخ لعام 2015 تبلغ 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنويًّا، وتكلفة تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 تبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كل عام، موزعة بين الكثير من القطاعات (انظر: go.nature.com/2yjp1wn، و"أولويات مغلوطة").
ولكن العدو الحقيقي يحدق بنا، فوتيرة حدوث موجات الحر، وأحداث الجفاف، وحرائق الغابات، والفيضانات، والأعاصير وصلت إلى أربعة أمثالها على مدار العقود الأربعة المنصرمة، وما تزال تشهد تزايُدًا. وبحلول عام 2050، قد يضطر حوالي 100 مليون شخص إلى الهجرة من المناطق الساحلية وغيرها من الأماكن التي سوف تصبح غير قابلة للسكن، نتيجةً للتغير المناخي (انظر: go.nature.com/3agzsij). كما تفاقمت حرائق غابات الأمازون المطيرة في عام 2019 إلى حد يتعذر تداركه، وقد يتداعى معه النظام الإيكولوجي لهذه الغابات بالكامل9. وجدير بالذكر أن غابات الأمازون تُعَد أكبر احتياطي للتنوع البيولوجي على وجه كوكب الأرض. وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، بدءًا من المأكل، حتى الوظائف، والمسكن، والصحة، قُدرت خسائر هذه الغابات بحوالي 3.6 تريليون دولار10، فضلًا عن أن فقدان التنوّع البيولوجي يعرِّض البشر لفيروسات جديدة.
لم تُجْدِ الجيوش الكبيرة نفعًا للبلدان في مواجهة فيروس "كوفيد-19"، بل حدث العكس تمامًا، فالبلدان الخمسة الأكثر إنفاقًا على شؤون الدفاع –وهي الولايات المتحدة، والصين، والهند، وروسيا، والمملكة العربية السعودية– كانت غير متأهبة للجائحة، وتضررت تضررًا شديدًا منها. وقد شكلت هذه الدول حوالي ثلثي (62%) حجم الإنفاق العسكري العالمي في عام 2019؛ فكانت معدلات العدوى في الولايات المتحدة، والهند، وروسيا من بين الأعلى حتى الآن، وقد تصدرت الولايات المتحدة كلتا القائمتين.
وتتجلى استراتيجية الدفاع الأمريكية -المغيَّبة عن الواقع- في طلب الحكومة الأمريكية لمبلغ قيمته 740.5 مليار دولار (أو 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي) من أجل الإنفاق على الأمن القومي، في مقترَحها للميزانية المقدَّم في شهر فبراير الماضي عن السنة المالية 2021. وقد شملت هذه الميزانية 28.9 مليار دولار لتحديث الترسانة النووية، بيد أنها لم تشتمل على أي بند لمكافحة التغيّر المناخي، أو الجوائح، حتى في وقت انتشار فيروس "سارس-كوف-2" SARS-CoV-2.
وعلى سبيل المقارنة، تنفق المملكة العربية السعودية 8% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع عن الأمن القومي، في حين تنفق ألمانيا ونيوزيلندا حوالي 1% من ناتجهما المحلي الإجمالي على هذا الغرض. وحتى الآن، كانت أوضاعهما خلال الجائحة أفضل كثيرًا منها في المملكة العربية السعودية.
وبعض البلدان، مثل أيسلندا وكوستاريكا، لا يملك جيوشًا من الأصل. وفي هذا العام، أصبحت كوستاريكا إحدى أولى الدول التي تمكَّنت من إيقاف إزالة الغابات فيها، وتدارُك آثارها، وهي تستهدف الوصول إلى تحييد الانبعاثات الكربونية فيها، كما أنها إحدى أولى الدول التي تتبنى تطبيق ضريبة انبعاثات الكربون المدارية.
أولويات لا صلة لها بالشعوب
وحتى لدى الحديث عن الأولويات العسكرية المستقبلية، فإننا نجد أنها بعيدة كل البعد عن أولويات الشعوب. ففي الوقت الذي ترتفع فيه درجة حرارة الكوكب، نجد أن الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة من بين البلدان التي تعمل على تطوير أسلحة معززة بتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تستطيع البحث عن ضحاياها، وتعقبهم، واستهدافهم، بل وربما قتلهم، من خلال تقنيات تخضع لسيطرة الخوارزميات، لا البشر13. وقد خصّصت الولايات المتحدة ملياري دولار في عام 2018 من أجل تطوير الموجة القادمة من تقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2023. وبوصفي عضوة بلجنة الخبراء الدولية المعنية بتنظيم الأسلحة ذاتية التشغيل منذ عام 2017، فقد أدليت بشهادتي أمام جلسات الأمم المتحدة، التي حذرت من هذه القضايا. كما أن الحرب السيبرانية وحرب الفضاء من الجوانب الأخرى المثيرة للقلق؛ ففي الشهر الماضي وحده، اختبرت روسيا سلاحًا فضائيًّا قادرًا على تدمير الأقمار الصناعية، حسب تقارير أمريكية وبريطانية.
ويعارض كثير من العلماء الاستخدامات العسكرية لتقنيات الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، في إبريل من عام 2018، كتب أكثر من 3 آلاف عامل بالقطاع التقني في شركة "جوجل" Google خطابًا إلى قادة الشركة، صرّحوا فيه بأنه "ينبغي ألا تتورط الشركة في صناعة الحرب"، وذلك في احتجاجاتهم على مشروع تنفذه شركة "جوجل" بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية، يحمل الاسم الحركي "مافين" Maven، ويهدف إلى استخدام تقنية التعرف على الوجوه المعززة بالذكاء الاصطناعي؛ من أجل تحسين عمليات الطائرات المسلحة بدون طيار. وطالَب المعارضون بإلغاء هذا المشروع؛ وقد نجحوا في مسعاهم! ففي أواخر شهر مايو من عام 2018، انسحبت "جوجل" من هذا التعاقد (انظر: go.nature.com/2fapvtr).
دعمت كيانات أخرى حملة هؤلاء العاملين في شركة "جوجل"، ضمت تحالف المشتغلين في المجال التقني، وحملة "أوقفوا الروبوتات القاتلة"، واللجنة الدولية لمكافحة الأسلحة الروبوتية (التي أشغل حاليًّا منصب نائب رئيس مجلس إدارتها)؛ إذ نجح خطاب مفتوح إلى قادة الشركة في جمْع أكثر من ألف توقيع (انظر: go.nature.com/348wrgn).
كما استُخدمت تكتيكات عديدة لمعارضة الاستعمالات العسكرية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، كان من ضمنها إصدار فيلم قصير في عام 2017، يحمل اسم "سلوتر بوتس" Slaughterbots، أي (الروبوتات الفتاكة) لستيوارت راسِل، باحث الذكاء الاصطناعي الرائد ومهندس الحاسوب بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. وتُصَوِّر الحبكة الدرامية للفيلم –الذي أصدره راسِل في اجتماع لجنة خبراء الأمم المتحدة حول الأسلحة الروبوتية– أسرابًا صغيرة من الروبوتات القاتلة ذاتية التشغيل، تبحث عن مجموعة من الشباب الذين لهم آراء مناهِضة سياسيًّا، ولكنّها تقتلهم في النهاية. وكنت حاضرةً وقت العرض ضمن أعضاء اللجنة، وكان تأثير الفيلم ملموسًا.
أربع أولويات
يجب اتخاذ الخطوات التالية على وجه السرعة، من أجل تسيير دفة العالم نحو اتجاه يحقق مزيدًا من الأمن.
أولًا، يجب إيقاف سباقات التسلح الجديدة؛ فالعالَم يزخر بالأسلحة بالفعل. وفي جلسة الأمم المتحدة المقبلة المعنية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحروب، يجب أن تمتثل البلدان لمعاهدة مُلزِمة قانونًا، تضع حدودًا للتسلّح، وترسي التحكم البشري كأساس لاستخدام هذه الأسلحة. (تأجلت الجلسة بسبب "كوفيد-19"، لكن من المزمع انعقادها في جينيف بسويسرا هذا الشهر). وتجدر الإشارة إلى أن البلدان لم تتوقف عن مناقشة هذه القضية منذ عام 2014، وكان ينبغي اتخاذ تدابير لمواجهتها من قبل؛ فغالبية البلدان التي لا تمتلك برامج عسكرية مزوّدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي تسعى إلى الحصول عليها، بيد أنّ من مصلحة جميع الدول الالتزام باتفاقيةٍ تُسَاوِي بين الجميع في الفرص، وتَحُول دون تطوير أسلحة الذكاء الاصطناعي ووقوعها في أيدي الإرهابيين والمتمردين المسلحين. فقدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي المهولة على خدمة الصالح العام للبشرية كلها لا ينبغي أن تتحول إلى سلاح فتّاك.
ثانيًا، يجب الامتثال لمعاهدة تجارة الأسلحة. دخلت هذه المعاهدة الدولية حيز التنفيذ في عام 2014، وهي الأولى من نوعها التي تضع قواعد تنظم انتقال الأسلحة الدولية، بحيث تلتزم بمقتضيات حماية حقوق الإنسان، وقوانين الحرب؛ من أجل منع وقوع أعمال الإبادة الجماعية وغيرها من الفظائع. وقد التقت الأطراف المُوَقّعة على هذه المعاهدة –البالغ عددها 110 أعضاء- على الإنترنت في الأسبوع قبل الأخير من أغسطس الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن الصين صدّقت لتوها على المعاهدة. وهذه إضافة بالغة الأهمية، على اعتبار أنها من الأطراف الكبرى في تجارة الأسلحة. وينبغي لـ31 دولة أخرى، وقّعت بالفعل على المعاهدة، لكن ما تزال بحاجة إلى التصديق عليها -من بينها الولايات المتحدة- أن تقوم بالمثل هذا العام.
من زاوية أخرى، صرّحت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنها ستنسحب من الأطراف المُوَقّعة على هذه المعاهدة. وإنني أرى ضرورة التصديق على المعاهدة؛ من أجل دعم الشركات المُشَرَّع لها بيع الأسلحة، وحماية المواطنين من الأسلحة المباعة في السوق السوداء، تلك الأسلحة التي ستتيح استمرار ارتكاب الفظائع في حق المواطنين، فالتجارة المشروعة للأسلحة نفسها تخسر ما يُقدّر بحوالي 20 مليار دولار سنويًّا من جرّاء المبيعات غير القانونية للأسلحة، وبالتالي، فمِن مصلحة شركات الأسلحة الكبرى إقناع الحكومات بالتصديق على المعاهدة، والمساعدة على منع انتقال الأسلحة إلى الأسواق غير القانونية.
ثالثًا، يجب تفعيل اتفاق باريس للمناخ لعام 2015. فمكافحة الاحترار العالمي، شأنها شأن مكافحة جائحة "كوفيد-19"، معركة أمام عدو خفيّ؛ لا يُرى منه سوى الدمار الناجم عن التقاعس في مواجهته. وكما هو الحال مع الجائحة، فثمة خطوات وقائية معروفة وواضحة؛ للحدّ من الضرر الواقع، حتى في وسط الأوضاع شديدة الإرباك، حيث ينبغي توجيه جزء جوهري من الإنفاق العسكري والخبرات العسكرية إلى برامج الطاقة المتجددة، وإلى التخفيف من التغيّر المناخي، ومشروعات التكيّف مع هذا التغير، إلى جانب المساعدات الإنسانية؛ لتدارُك آثار الكوارث الطبيعية، والتعافي من جائحة فيروس "كوفيد-19". كما ينبغي على الحكومات استثمار جزء من إنفاقها على الأسلحة في صندوق المناخ الأخضر، على سبيل المثال، بغرض مساعدة البلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل على الوفاء بتعهدات اتفاق باريس للمناخ. ومن شأن خفض الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء بنسبة 30% تقريبًا أن يعود بالنفع على كل البلدان8، كما أن الحدّ من معدلات فقدان التنوّع البيولوجي سيقلل في المستقبل من احتمالات حدوث جوائح مشابِهة لجائحة "كوفيد-19".
رابعًا، يجب الاستثمار في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، التي وافقت عليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالإجماع في عام 2015، وهي توفّر خريطة طريق توضح التدابير التي ستحقق الأمن البشري للجميع، وتعالج صور انعدام المساواة، التي باتت جلية بفعل الجائحة. وتجدر الإشارة إلى أن الوقاية تؤتي ثمارها؛ فتحقيق هذه الأهداف سيكون من شأنه فتح فرص جديدة في الأسواق للاقتصادات الخضراء، على سبيل المثال، وخلق مئات الملايين من الوظائف. وهذه الأهداف والغايات مستمَدة من البيانات، وقائمة على أدلة.
إنّ تزايُد عدد سكان الشعوب، وتدمير المناخ، والوتيرة السريعة التي يجري بها تطوير التقنيات الجديدة، كلها عوامل تستدعي إيجاد منهجيات للدفاع الوطني، ترتكز بصورة حقيقية على الأمن البشري.
اضف تعليق