مع تزايد احترار المناطق القطبية الشمالية، وتلويث جسيمات البلاستيك المجهرية للثلوجَ القطبية وجليد البحار ومياهها وشواطئها، يتراءى لنا أن فكرة تغليف القرى الواقعة في القطب الشمالي بفقاعات بلاستيكية ضخمة تمدها بتيارات من الهواء الدافئ ليست خيالًا محضًا، إن عدونا الأول هو الطبيعة الإنسانية لا الطبيعة الأم...
بقلم: جوزي جلاوسيوز
قدَّم لنا البرنامج الإذاعي الوثائقي «فكرة الشمال» (1967) The Idea of the North، من إعداد عازف البيانو جلين جولد، مجموعة من الأصوات المتداخلة، تحكي لنا أسفارها في المنطقة القطبية بكندا. في هذا البرنامج، تتناهى إلى مسامعنا أصوات المتحدّثين على خلفية قرقعة عجلات القطارات فوق القضبان، وهم يتفكَّرون في العزلة واستحالة فكرة "تغليف القرى الواقعة في القطب الشمالي بفقاعات بلاستيكية ضخمة تمدّها بالهواء الدافئ"، وما يصفونه بـ"البساط مذهل الجمال الذي تبدو عليه سهول التندرا وغابات التايجا"، حسب تعبير جولد.
لكن بيرند برونر، المؤرخ الثقافي والعلمي الألماني، يرسم لنا في كتابه «أقصى الشمال» Extreme North صورة أكثر قتامة من تلك، إذ يقدم لنا وصفًا لمكان حقيقي، وناءٍ، وقارس البرودة، بقدر ما يستعصي على الفهم، من خلال مزجه بين الأساطير وتاريخ المناطق القطبية الشمالية وخصائصها العلمية. منذ آلاف السنين، عاشت الشعوب الأصلية في المناطق القطبية الشمالية، ومن بينهم شعوب «سامي» Sámi في فنلندا والنرويج والسويد، وشعوب «التشوكشي» Chukchi و«النينيتس» Nenets في روسيا وشعوب «الإنويت» Inuit في ألاسكا وكندا وجرينلاند.
لكن بالنسبة لآخرين، وتحديدًا مَن يتخصصون في اليوجينيا (علم التحسين الجيني للنسل)، من ذوي التوجهات العنصرية، كانت المناطق القطبية الشمالية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، رمزًا للمدينة الفاضلة، والمركز الذي احتضن "العرق البشري الفائق". ويُلقي برونر الضوء في كتابه على جذور هذه الأفكار التي تنتمي إلى عالم العلوم الزائفة، والتي تظهر كأوضح ما يكون في تبجيل شعب الفايكنج، والملاحم الأسطورية النوردية القديمة، وصولًا إلى معتقدات تفوّق "الشعوب النوردية الشمالية"، التي روّجت لها الأيديولوجيا النازية.
النقطة التي يبدأ عندها الشمال تعتمد على الناظر للمشهد، فعلى سبيل المثال تعتبرُ النرويج جزيرة بوفية البركانية الجليدية جزءًا من أراضيها، ولكن برونر يكتب موضحًا أن هذه الجزيرة لا تقع ضمن نطاق شمال الكرة الأرضية "إلا حينما ننظر إليها من منظور القطب الجنوبي". إذ تقع هذه الجزيرة في واقع الأمر بين جنوب إفريقيا والقارة القطبية الجنوبية، وهي محميّة طبيعية تبلغ مساحتها 49 كيلومترًا مربعًا، وتستوطنها ثدييات الفقمة وطيور البطريق وغيرها من الطيور البحرية.
يضيف برونر أن الأوروبيين القدامى كانوا يرون أن "المساحات القطبية الشمالية مناطق مظلمة خيالية لا تنتمي للواقع كما نعرفه، أي تقع وراء حدود العالم الإغريقي-الروماني". لدرجة أن بيثياس الماسيلي، عالم الفلك الإغريقي الذي عاش خلال القرن الرابع قبل الميلاد، ادَّعى أنه اكتشف عدّة مناطق من بينها الجزيرة الأسطورية «أولتيما تولا» الواقعة أقصى شمال الكرة الأرضية. وقد عرفنا بعد ذلك أن هذه الجزيرة الأسطورية لم تكن إلا آيسلندا أو جرينلاند أو جزر فارو، من بين أماكن أخرى.
كانت كلمة «أولتيما تولا» تُطلق أيضًا على أي جسم قصيّ يوجد داخل حزام «كايبر» Kuiper، المتاخم لمدار كوكب «نبتون» Neptune (على بعد 6.5 مليار كيلومتر من الأرض)، والذي استكشفته مركبة «نيو هورازين» New Horizon التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية عام 2019. ثم تغير اسم هذا الجسم في ما بعد إلى «أروكوث» Arrokoth والذي يعني "السماء" في لغة البوهاتان/الألجونكيان، التي يتحدَّثها السكان الأصليون لأمريكا ممن يقطنون منطقة خليج الشيسابيك الأمريكي، بعد أن تبيَّن لوكالة ناسا أن الاسم «أولتيما تولا» قد تحوّل خلال القرن التاسع عشر إلى اسم الموطن الأسطوري الذي يعيش فيه عرق بشري وهمي يُعرَف بـ«العرق الآري». ويتتبَّع برونر في كتابه جذور هذه الأسطورة الخبيثة وصولًا إلى بعض المفكرين الفرنسيين والألمان والأمريكيين، الذين عاشوا في منتصف القرن الثامن عشر، وشرعوا في تصنيف البشر وفق "أعراق"، ثم حاولوا خلخلة الاعتقاد السائد وقتها بأن البشر الأوائل قد ظهروا في مناطق الشرق الأوسط التي وردت في الكتاب المقدس.
تاريخ مشين
في القرن التاسع عشر، طوّر الدبلوماسي الفرنسي جوزيف آرثر دو جوبينو فكرته القائلة بوجود جنس بشري متفوق، أطلق عليه الجنس الآري (والكلمة مشتقة من"آريا" في اللغة السنسكريتية)، وبأن ساحل بحر البلطيق وشبه جزيرة اسكندنافيا هما "مهد الجنس البشري". وفي عام 1922، صدر لعالم اللغويات الألماني هانز فريدريش كارل جونتر كتابٌ يحمل عنوان «علم الأعراق الألمانية» Racial Science of the German People، صنَّف المؤلفُ الألمانَ فيه ضمن ستة من شعوب "النوردية الشمالية"، جنبًا إلى جنب مع الشعوب الدنماركية والآيسلندية والنرويجية والسويدية والفنلندية. أما اليهود، فقد كانوا بالنسبة إليه "مصدر قلاقل واضطرابات"، وفي نهاية الأمر، أصبحت كتابات جونتر أساس الأفكار العرقية التي تبنَّاها الحزب النازي الألماني.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فنجد وليام وارن، أوَّل رئيس لجامعة بوسطن بولاية ماساتشوستس، وهو يقول: إن "الإنسان خُلق في جنة تقع في القطب الشمالي، وشجرة الخلود موجودة هناك"، بحسب المقال الذي نُشر في دورية Nature عام 1885، واستعرض كتابه «الفردوس المُكتَشَف» Paradise Found (Nature 32, 28; 1885). ويُذكّرنا برونر أيضًا بأن ماديسون جرانت، أحد مُنظِّري اليوجينيا، أصدر كتابًا عام 1916 بعنوان «اجتياز العرق الأعظم» The Passing of the Great Race، "روَّج فيه لفكرة تفوّق عِرق سكان المناطق النوردية الشمالية، وفضلهم في تحقيق أعظم إنجازات الحضارة الأوروبية". وقد بيع من هذا الكتاب ملايين النسخ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح جرانت أحد أبرز مؤيِّدي حركة اليوجينيا هناك. وقد تلقَّى كتابه ثناء رئيسين سابقين؛ الأمريكي تيودور روزفلت والألماني أدولف هتلر، وفي الوقت ذاته شجَّع الكتاب الساسة الأمريكيين على تفعيل قوانين محلية في بعض الولايات، تحظر الزيجات مختلطة الأعراق. ولم تُصدر المحكمة الأمريكية العليا حكمها بإلغاء هذه القوانين إلا عام 1967، في القضية المعروفة باسم «الزوجان لافينج ضد المدعي العام لولاية فرجينيا» .Loving V. Virginia.
ومن اللافت أن نظريات اليوجينيا التي تروِّج لفكرة تفوّق الأعراق الشمالية قد أغفلت السكان الأصليين للمناطق القطبية الشمالية. وكان علماء الأنثروبولوجيا خلال القرن التاسع عشر يرون أن شعوب الإنويت لا تزال تعيش حياة تشبه حضارة العصور الحجرية، رغم أن المستكشفين الأوروبيين والأمريكيين والروس كانوا يستعينون بأدلّة من أبناء هذا الشعب تحديدًا، ويرغمونهم على مرافقتهم في رحلاتهم الاستطلاعية داخل عمق المناطق المتجمدة. بل وكان هؤلاء المستكشفون يختطفون السكان الأصليين أحيانًا. ففي عام 1897 على سبيل المثال، أرسل روبرت بيري الذي كان يدرس المنطقة القطبية الشمالية ستة أشخاص من شعب الإنويت، من بينهم رجل يدعى كيسوك وابنه الصغير مينيك، إلى متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي في مدينة نيويورك، حيث وجهت دعوة للزائرين لإلقاء نظرة عليهم. ولقي أربعة من هذه المجموعة حتفهم جرَّاء الإصابة بالدرن، كان من بينهم كيسوك. وبعدها حاول مينيك جاهدًا على مدار سنوات طويلة استعادة جثمان أبيه، لكن المتحف أصرَّ على الاحتفاظ بعظام المتوفين الأربعة، حتى عام 1993، حين أُعيدت رفاتهم إلى بلدة كاناك، في أقصى شمال جرينلاند، لتُدفَن حسب التقاليد المحلية.
الشمال يذوب
تعاني بلدة كاناك في جرينلاند اليوم من تبعات التغيّر المناخي العالمي، إذ تشهد ذوبان التربة الصقيعية، ما يتسبب بدوره في تصدع البيوت وغرقها. ويمثِّل هذا الجزء أهمية كبيرة في حكاية القطب الشمالي، لا يعيِّرها برونر اهتمامًا يُذكَر، كما أنه لا يُفرِد إلا مساحة صغيرة لإبراز معارف السكان الأصليين، أو طقوسهم المُقدّسة، أو الآليات التي يعتمدونها للتكيف مع بيئاتهم، أو حتى اللغات المتنوعة التي يتحدثون بها (نحو عشرين لغة في ألاسكا وحدها).
من المحتمل أن يضطر السكان الأصليون في مناطق القطب الشمالي للتكيّف مع بيئاتهم المتغيّرة رغمًا عنهم، إذ كشف تقرير أصدرته الإدارة الأمريكية الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي عام 2021، تزايد معدّل احترار القطب الشمالي بنسبة تبلغ ضعف معدل احترار باقي مناطق كوكب الأرض. وفي يوم الرابع عشر من أغسطس عام 2021، رصد العلماء أمطارًا لا جليدًا، للمرة الأولى، من خلال محطة رصد «ساميت ستيشن» Summit Station في جرينلاند، والتي يبلغ ارتفاعها 3200 متر، كما وصلت طبقة الجليد في المنطقة القطبية اليورو-آسيوية في يونيو عام 2021 إلى ثالث أدنى مستوياتها، منذ بداية عمليات القياس والرصد عام 1967. ويعلق التقرير قائلًا إن القطب الشمالي "يختفي أمام أعيننا نتيجة التغيرات المناخية التي يتسبب فيها البشر".
ومع تزايد احترار المناطق القطبية الشمالية، وتلويث جسيمات البلاستيك المجهرية للثلوجَ القطبية وجليد البحار ومياهها وشواطئها، يتراءى لنا أن فكرة "تغليف القرى الواقعة في القطب الشمالي بفقاعات بلاستيكية ضخمة تمدها بتيارات من الهواء الدافئ" ليست خيالًا محضًا، فأحد المتحدثين في البرنامج الإذاعي الوثائقي «فكرة الشمال» يقول مثلًا إن "عدونا الأول هو الطبيعة الإنسانية لا الطبيعة الأم".
اضف تعليق