q
الأنهار الجليدية الجارية، هي أكبر مصادر المياه العذبة على كوكب الأرض، ومن مائها يعيش مليارات البشر، في مناطق مختلفة من العالم، مثل جبال الهيمالايا، والأنهار الجليدية الكبرى في المناطق القطبية، ومنها النهر الجليدي «ثوايتس» Thwaites، والتي تلعب دورًا محوريًا في سرعة ذوبان الغشاء الثلجي غرب القطب الجنوبي...
بقلم: أليكساندرا ويتزي

في صيف عام 1948، وفي مدينة جونو بولاية ألاسكا الأمريكية، حزمتْ مجوعة صغيرة من الرجال أمتعتها، من أحذية وفؤوس وحبال ولوازم تخييم، ثم انطلقوا متوجهين إلى الثلج والجليد الممتدين شمال المدينة. قاد مينارد ميلر، خبير علوم الجليد، الذي خدم سابقًا في البحرية الأمريكية، فريقًا من المستكشفين بين الجبال، عابرين وسط أخاديد جيولوجية ثلجية، بهدف استطلاع إذا ما كانت تلك المساحات الجليدية الشاسعة قد حفظتْ سجلًا تاريخيًا، يمتد لفترة طويلة من الزمن، عن مناخ كوكب الأرض، وقد صدق حدس المستكشفين. ولهذا السبب بدأ ميلر رحلة سنوية، يصطحب فيها فرقًا استكشافية في رحلات إلى الجليد، مُسجّلين تمدد الأنهار الجليدية وانحسارها، إلى جانب قياس التلوث المُتساقط على الجليد ورصْد التغيّرات البيئية الأخرى.

واليوم لم تعد تلك الرحلة مقصورة على الرجال، إذ تنطلق مجموعات جديدة من الطلبة من الجنسين، لتقطع 120 كيلومترًا، من الحقل الجليدي لمدينة جونو كل صيف. وفي رحلاتهم، التي يستخدمون فيها الزلّاجات والأحذية المعدنية، يجمع الطلبة مشاهدات علمية حول الطقس والمناخ. ويمكن القول إن هذه الرحلة، التي تستغرق شهرين من الزمن، تُشكّل شخصيات قيادية في مجال العلوم في المستقبل، واستيف اسكوايرس هو من بين أولئك بالتأكيد، ويشغل الآن منصب الباحث الرئيس لاثنتين من المركبات الفضائية الجوّالة التابعتين لوكالة ناسا، والتي تستكشف المريخ. ويُرجِع الباحث الفضل في اهتماماته بعلوم الأرض إلى رحلة ألاسكا هذه.

يبقى برنامج أبحاث الحقل الجليدي بجونو واحدًا من أطول الدراسات المستمرة للأنهار الجليدية في أمريكا الشمالية، رغم انقطاع هذه الرحلات عام 2020 بسبب جائحة «كوفيد-19»، ما يضعه في صدارة الجهود التي تحاول فهم استجابة تلك الأنهار المتجمدة للاحترار العالمي، وهو ارتباط بدأ كحدْس بسيط في ذهن ميلر قبل سبعة عقود مضتْ.

يحتل برنامج ألاسكا موقعًا متميزًا في آخر كتب المؤلف بورتر فوكس، الذي يحمل عنوان «الشتاء الأخير» The Last Winter. وما ينتجه هذا الكتاب من أشكال متعددة من الرؤى، حول الغلاف الجليدي للأرض، هو ما يستلهمه كتاب آخر، هو «ذوبان!» Meltdown! للمؤلف جورج دانييل تايلانت، الذي ساعد دولة الأرجنتين على إقرار أول قانون من نوعه في العالم لحماية الأنهار الجليدية والتربة الصقيعية. ويهدف هذان الكتابان إلى توسيع معارفنا البحثية بشأن ظاهرة فقدان المناطق المتجمدة على كوكب الأرض. وإذ ينضمان إلى عدد متنام من الكتب في هذه المساحة، فإن كل واحد منهما لا ينجح في مسعاه إلا بصورة جزئية فحسب.

بهاءٌ وخطر

الأنهار الجليدية الجارية، هي أكبر مصادر المياه العذبة على كوكب الأرض، ومن مائها يعيش مليارات البشر، في مناطق مختلفة من العالم، مثل جبال الهيمالايا، والأنهار الجليدية الكبرى في المناطق القطبية، ومنها النهر الجليدي «ثوايتس» Thwaites، والتي تلعب دورًا محوريًا في سرعة ذوبان الغشاء الثلجي غرب القطب الجنوبي، وتحوّله إلى ماء يصب في المحيطات، ما يرفع مستوى مياه البحار. وبصورة إجمالية، فقدت الأنهار الجليدية في المتوسط 267 مليار طن من الجليد سنويًا في الفترة بين عامي 2000 و2019، والرقم في زيادة مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

وقد توفَّر بين أيدينا الآن سجلٌ بصريٌ يؤرخ لضياع الأنهار الجليدية: مثل فيديوهات المصور الفوتوجرافي جيمس بالوج، بتقنية «التايم لابس» Time-lapse (التصوير الضوئي بانقضاء الزمن). وظهرت هذه الصور في فيلم «تشيسنج آيس» Chasing Ice، الصادر عام 2012. ويُبرز هذا السجل البصري بهاء تلك التجمعات الجليدية، وخطر فقدانها. ومن بين كتبٍ عديدة، صدرت مؤخرًا، تتناول هذا الموضوع، يأتي كتاب المستكشف إم جاكسون، الصادر عام 2019، «الحيوات السرية للأنهار الجليدية» The Secret Lives of Glaciers، وهو دراسة عن آثار ذوبان تلك الأنهار على حياة تجمع سكاني صغير في أيسلاندا. وهناك أيضًا الكتاب الذي يحمل نَفَسًا شعريًا مميزًا، «نهاية الثلج» The End of Ice، للصحافي دار جمال، الصادر عام 2019 أيضًا.

يخوض فوكس هذه المساحة اعتمادًا على خلفيته، بوصفه كاتبًا عن رياضة التزلج (وله كتاب سابق عن التزلج وتغير المناخ). وفي «الشتاء الأخير» يهدف المؤلف إلى توسيع نطاق القصة المتداولة حول تغير المناخ، بما يتجاوز أثر التغير على الأبعاد الترفيهية. ولكنه يُبقي على اهتمامه بسرد خبرات الأشخاص مع الشتاء في الأماكن المفضلة عند محبي التزلج، مثل ولاية واشنطن في الولايات المتحدة، وجبال الألب في أوروبا. ويطرح فوكس أسئلة حول أشكال فقد الجليد، التي استطاع برنامج جونو رصدها، وتأثير ذلك على البشر الذين يعيشون في الدول النامية من ناحية أخرى. ولكنه لا يقدم حلولًا. بل يكتفي بدلًا من ذلك، بسرد حكايات ملحمية، بلغة شعرية تصبغ الكتاب، عن التزلج في قمم الجبال الإيطالية، حيث الإفطار في كوخ جبلي، ووجبة الكعكة البافارية المُحلّاة التي تفيض بالقشدة، والتي نُقلت بزلاجات الثلوج.

ويقضي فوكس واحدة من الرحلات الأربعة التي تتألف منها سردية الكتاب في جرينلاند، وهناك يسعى لفهم آثار تغير المناخ على شعب الإسكيمو (ويعرفون أيضا بالـ «إنويت»). ولكن حتى مع ذلك، فإن ما يقدمه لنا لا يمثل تجربته المباشرة، بل يتحدث في الغالب من خلال علماء غربيين ومستكشفين، إلى جانب أحاديث رفاقه في هذه الرحلات. وحتى رحلته الاستكشافية على متن زلاجات تجرّها الكلاب، التي كان من المقرر لها أن تستمر أسبوعًا، يصاحب فيها أفرادًا من شعب الإسكيمو من صائدي الفقمة، انتهت قبل أوانها، عندما بدأ «كوفيد-19» رحلة تفشّيه بضراوة خارج جرينلاند.

سردية فوكس إذن هي أشبه بمغامرات انتقائية، من منظور شخص ينتمي إلى الغرب، يحكي فيها عن رحلاته في البقع المتجمدة شمال الكوكب. أما كتاب تايلانت فهو أقرب إلى المراجع من كتب الرحلات.

يصف تايلانت نفسه بالناشط في مجال حماية البيئة المتجمدة، وقد قضى عقودًا في ذلك المسعى. ففي بداية الألفية الثالثة، كان تايلانت واحدًا من قادة الجهود ضد شركة تعدين تُفجِّر أنهار الجليد في جبال الأنديز للوصول إلى عروق الذهب الكامنة تحتها. وقد صار المؤلف اليوم مدافعًاصريحًا للحفاظ على الأنهار الجليدية، عبر سن قوانين إقليمية لحماية البيئة، وكذلك عبر تقديم التزامات من الدول تجاه المناخ على كوكب الأرض.

احتياطيات مخبوءة

يقدم تايلانت في كتابه نظرة شاملة على المساحات التي تمتد إليها الأنهار الجليدية على الكوكب، وأسباب تكونها، والآثار العديدة لتفَسّخها، بما في ذلك الفيضانات الخطيرة. ولا يحاور المؤلف باحثين من المجال، كما يفعل فوكس في جونو وغيرها من الأماكن، وإنما يعتمد على التقارير الصحافية وغيرها من المصادر غير المباشرة.

ومن الفصول اللافتة في كتاب تيلانت، فصلٌ يتحدث فيه عن أنهار الجليد الصخرية، التي يشيع تواجدها في جبال الأنديز والغرب الأمريكي، وإن كانت لم تحظَ باهتمام بحثي واسع النطاق. فهذه الترسبات المغطاة بالحصى، التي يكوّن الجليد نحو نصف محتواها، توجد عادة عند ارتفاعات أدنى مقارنة بالأنهار الجليدية الثلجية، في مناطق تشهد تجمّد الرواسب السطحية أو ذوبانها، ويبقى الثلج متجمًدا على مدار العام في الطبقات الأعمق. وقد تمتد أنهار الجليد الصخرية ببطء إلى أماكن أكثر انخفاضًا، فتبدو في صور الأقمار الصناعية وكأنها تموّجات عملاقة متسخة من الحطام الصخري. وبسبب طبقة الصخر التي تعزلها، يذوب ذلك النوع من الأنهار الجليدية بمعدل أبطأ من الأنهار التي تقتصر في تكوينها على الجليد، ومن ثم فربما توفر مصدرًا مستقرًا وبطيئًا للمياه العذبة مستقبلًا.

تتجلى مهارة تايلانت أيضًا عند إلقائه الضوء على طرق مبتكرة للحفاظ على الأنهار الجليدية أو حتى بنائها من جديد. من ذلك مثلًا محاولة باحث من بيرو تغطية أحد تلك الأنهار بنِشارة الخشب لإبطاء ذوبانها. وفي الهند أقام مهندس، يُطلق عليه «رجل الأنهار الجليدية»، سدودًا تحجز الجليد في الشتاء ليتكتل في أنهار جليدية صناعية، تطلق ماءها في الفصول اللاحقة. وللأسف فإن تلك الرسائل المُبَشِرة تأتي قرابة نهاية الكتاب، وبعد تحضير ثقيل لها في الفصول السابقة، ويزيد من ثقل هذا على القارئ إكثارُ المؤلف من علامات التعجب والكلمات المائلة.

نعيش اليوم مظاهر احترار الكوكب، ونُجهّز أنفسنا للمزيد من هذا الاحترار مستقبلًا، ووسط هذا فإن مستقبل الشتاء والأنهار الجليدية هو في قلب مخاوفنا وأسباب قلقنا. فقد أكد مؤتمر تغير المناخ التابع للأمم المتحدة هذا العام (COP26)، أننا ماضون في الغالب نحو مستقبلٍ ترتفع فيه درجة حرارة الأرض بما يتجاوز الدرجتين. وامتدادًا من حقول ألاسكا، حيث يتلقى من سيصيرون مستقبلًا متخصصين في علوم الأرض مرانَهم، إلى قمم جبال الأنديز المتجمدة، التي قد توفر لنا مصدرًا ثمينًا وغير مطروق للمياه، ننتظر قدرًا أقل من الوعود الجوفاء، وعددًا أكبر من الحلول.

اضف تعليق