مثلما دخلت العولمة اليوم في كافة المجالات الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن يتكثف حضورها في الجانب المتعلق بتنشئة الأجيال ومستقبل مجتمعاتهم، لذلك لابد للمتصدي للعملية التدريسية أن يوازن هو الآخر بين أصالته وحداثته في ظل التحديات التي تفرضها العولمة، والتي باتت أمراً واقعاً، فليس للمتصدي أن...
مع كل مشكلة "تقنية" تواجه القطاع التربوي؛ ترتفع الأصوات المنادية بضرورة إصلاح المناهج الدراسية التي باتت – كما هو واضح – تشكل عبئاً يضاف إلى الأعباء التي يعاني منها الطلبة من نقص الخدمات، وقلة الأبنية المدرسية وغيرها.
إن حل مشكلة التعليم لا يتوقف على عملية إصلاح المناهج التي تًدرَّس في المدارس؛ لأن مثل هذه العمليات باتت تجارة ينتفع منها الانتهازيون وصيادو الفرص الذين يشكلون دوائر مقاولات مخفية تحيط بالوزير الفلاني أو العلاني القادم من ترشيح كتلة سياسية لها أجنداتها ومشاريعها وليذهب التعليم ومستقبل الأجيال إلى الجحيم.
لابد أن ترافق عملية إصلاح المناهج الدراسية عملية أكبر وأهم تتلخص في تغيير طرائق التفكير والرؤى المعمول بها في المؤسسات التعليمية الرسمية وغير الرسمية. ونقصد بالمؤسسات غير الرسمية المدارس الأهلية المنتشرة بكثافة في مدننا، والتي صار الجميع يتحدث عن مدى الاهتمام الذي توليه هذه المدارس لطلابها الذين يمثلون شرائح مجتمعية يمكن تصنيفها أنها من فوق الوسط إلى الأعلى.
الغريب إن هذه المدارس الأهلية تحصل على موافقات أصولية من الوزارة المعنية التي تشترط على هذه المدارس شروطاً لا توفرها هي في المدارس الرسمية التي تشرف عليها!
لكن هل سأل أحد من المعنيين عن الأثر المخفيِّ للتفاوت المجتمعي الذي سترتفع مناسيب مشاكله، وتؤثر نفسياً بشكل سلبي على الطلبة؟
تعالوا نتخيل معاً طالباً من عائلة فقيرة معدمة وهو يستمع من صديقه في نفس المرحلة العمرية والدراسية لكنه من عائلة ميسورة وهو يشرح له حجم الاهتمام والرعاية التي يلقاها في المدرسة الأهلية، مع أن الاثنين يدرسان نفس المناهج التي عليها إشكالية أصلاً.
لذلك فإن عملية إصلاح المناهج أو الأصح أن نقول تدوير الفساد في هذه العملية؛ لن يغير من واقع التفاوت المجتمعي شيئاً. نعم سيتغير المنهج، لكن الطالب الفقير سيتقاسم رحلته الصغيرة في الصف مع اثنين أو ثلاثة آخرين، هذا إن كانت هناك رحلات في الصف أصلا. بينما تستمر رعاية المدرسة الأهلية للطالب الميسور الحال؛ لذلك نقول أن إصلاح المناهج لا يكفي.
إن العملية التربوية تحظى في البلدان المتقدمة باهتمام خاص؛ لإدراكها أهمية هذه العملية وقيمتها المعرفية في صياغة الأطر المستقبلية والحضارية للمجتمعات التي تنشد الرقي والتقدم. العملية التربوية يجب أن ننظر لها على أنها وسائل متداخلة ومترابطة تتكامل في أساليبها من أجل الوصول إلى أقصى غايتها في الارتقاء بالإنسان عبر مراحله المتعددة؛ لتهيئته للقيام بأدواره المجتمعية والحياتية بالشكل الأمثل، إذ لا فائدة من عملية تربوية تنتهج المناهج التي تتوهم أنها عصرية وحداثية وهي تنقطع عن جذر هدفها الأساس وهو الارتقاء بالإنسان، فأي ارتقاء هذا يقوم على عملية تربوية تتبنى التفاوت المجتمعي؟!
إن مشكلة النظم التربوية عندنا تكمن في أنها لم تشخص الخلل الحقيقي، ولم تستطع إيجاد مناهج متوازنة تحقق النقلة النوعية لإعداد الأجيال الواعية، وتخلصها من أشكال الفقر العلمي.
انقسام الأوساط التربوية
وبعيداً عن قضية التفاوت المجتمعي؛ نجد أن مشكلةً أخرى تلقي بظلالها على العملية التربوية تتلخص في انقسام الأوساط التربوية لفريقين حيث يشدد الأول على ضرورة اعتماد المناهج القائمة على الموروث الفكري، بينما يعتمد الفريق الثاني منهج الحداثة حتى وان تطلب الأمر استبدال الخبرات المحلية بأخرى أجنبية، وما يستتبع هذه الخطوة من عمليات استبدال اللغة والبرامج.
وقد تولدت بسبب إصرار كل فريق على موقفه إشكالية كبيرة دون الوصول إلى عملية توازن تساعد في استيعاب مشكلة الترهل. ولا نعرف حقيقة لماذا لم يتم التفكير في صياغة حلول وسطية تمزج الأصالة بالحداثة، حتى نضمن عملية تربوية تلتحق بركب التطور، تبني الأفراد بمنهجية واعية ممهدة لمجتمع متوازن وهوية عصرية غير منقطعة عن جذورها.
فمثلما دخلت العولمة اليوم في كافة المجالات الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن يتكثف حضورها في الجانب المتعلق بتنشئة الأجيال ومستقبل مجتمعاتهم، لذلك لابد للمتصدي للعملية التدريسية أن يوازن هو الآخر بين أصالته وحداثته في ظل التحديات التي تفرضها العولمة، والتي باتت أمراً واقعاً، فليس للمتصدي أن ينطوي على كلاسيكية تقليدية بليدة تعتمد النقل الآلي للمعلومات وفرضها على المتلقي بوسائل تسلطية ، وبنفس الوقت عليه الانتباه من الانفتاح الفوضوي غير المشروط ؛ لأن ذلك سيزيد المسألة تعقيداً. وهذا يعني إن مسؤوليته كبيرة أيضاً في تجديد نفسه وتطوير قدراته وإمكانياته، مما يتطلب استنفار معرفي من المؤسسات المختصة في اعتماد هياكل تربوية ناضجة قادرة على الربط بين تقنيات الحداثة والعولمة، والتفاعل مع مستجدات الثورة المعلوماتية، وبين الأصول والموروثات التي تعبر عن خصوصية الأجيال وهويتهم الثقافية والحضارية.
آن الأوان لأن نعترف بأن مشكلة المناهج تعتبر ثانوية قياساً بمشكلة الرؤية التي تعتمدها المؤسسات المعنية بقطاع التربية والتعليم، والتي صار لزاماً إعادة النظر فيها قبل أن نكون بمواجهة أفظع الخسارات على الاطلاق.
اضف تعليق