لكي يتحسن التعليم بمراحله كافة، هناك شروط لا يمكن غض الطرف عنها، أو تأجيل فاعليتها، ولا يمكن إهمالها مهما كانت التبريرات التي تطلقها الجهات الرسمية المعنية بالتعليم، وإذا بحثنا في التعليم الجامعي حصرا، وحاولنا أن نصل الى درجة تقييم دقيقة حول المستوى العلمي الذي تقدمه المؤسسة الجامعية لطلابها، فإن هذا الأمر ومدى صحته وتطابقه مع الواقع الفعلي، يعتمد على ما تنجزه هذه المؤسسة العلمية في مضمار التعليم.
وإذا أردنا حصيلة متفوقة، فإن مجال التعليم جزء عضوي من جسد العراق، يتأثر بأعضائه المتبقّية، فلو فسد عضو من الجسد لمرضٍ معيّن، سينعكس ذلك على الجسد كله، وما نريد قوله هنا، إذا لم تستقر مؤسسات الدولة وتتخلص من الهشاشة التي تعاني منها، فإن الوصول الى درجة تعليم جيدة سيبقى ضمن حيّز الأحلام غير المتحققة.
وعندما يتسلل الضعف والفساد الى المؤسسات المختلفة للدولة، فإن المؤسسة العلمية الجامعية ستكون معرَّضة للتسلل نفسه، وقد أكدنا على وجود ظواهر سلبية في التربية والتعليم العالي في العراق، وأشرنا إلى وجود العنف ضد الطلبة من لدن الكادر التدريسي، مع تفاقم الفساد الإداري والمالي في القطاع التعليمي، ثم تداول الرشى كظاهرة تنخر بنية التربية والتعليم، ليصبح هذا الثلاثي (العنف/ الفساد/ الرشا) من أخطر العقبات التي تهدد هذا القطاع الحيوي في العراق.
وتوجد مصادر تشير الى ما ذهبنا إليه، فقد ورد في موسوعة الويكيبيديا أن التعليم في العراق (عانى الكثير بسبب ما تعرض له البلد من حروب وحصار وانعدامية في الأمن، حيث وصلت نسبة الأمية إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ التعليم الحديث في العراق). بالطبع لا يوجد تجنٍ في مثل هذه الأقوال، فما يُقال عن العنف والعنف المضاد لا يزال حاضرا، وقد تعرض بعض الكادر التعليمي للاعتداء من الطلبة أو ذويهم، والسبب كما نعتقد حضور العنف كمنهج سلوكي يصيب التدريس والطالب أيضا.
ترميم البنية التربوية التعليمية
معالجة هذا الوضع الخطير لا تتم بالسكوت أو التستر، وإنما بالمواجهة الصارمة الحثيثة، والمخطَّط لها علميا وعلميا، ومتى ما تكاملت قوة واستقرار مؤسسات الدولة الأخرى، فإن المؤسسة العلمية سوف تكتسب هذه الصفات أيضا، لهذا لا يجب السماح بتفاقم الوضع نحو الأسوأ، وهذه مهمة الحكومة أولا، والوزارات المعنية بالتربية والتعليم، خاصة أننا نعتقد بأن بناء الدولة العراقية القوية، يستدعي أولا بنية تربوية تعليمية معافاة وسليمة من العاهات والظواهر المنحرفة، ولا يمكن أن يتطور النظام الديمقراطي ويستقر، ما لم يدعمه نظام تربوي تعليمي متطور له القدرة على مواكبة أنظمة التعليم المتطورة في العالم.
ومن الأهمية بمكان أن تنظر الدولة بعين الدقة إلى هذه النقطة المحورية التي تستدعي تقديم الاهتمام اللازم بهذا الجانب وفقا لمعالجات علمية عملية لا يشوبها نقص، وإذا كانت الحروب والأزمات التي مر بها العراق هي السبب الأول في هذا التدّني، فإن النهوض بهذا القطاع ينبغي أن يحدث ابتداءً من نيسان 2003، لكن العكس هو الذي حدث لأسباب كثيرة لا ينبغي أن تستمر، فقد جاء في الويكيبيديا أيضا (منذ 2003 ظهرت المشاكل الرئيسية التي تعيق النظام، وتشمل: نقص الموارد، وتسييس النظام التربوي، والهجرة والتشرد الداخلي من المعلمين والطلاب، والتهديدات الأمنية، والفساد والأمية على نطاق، حيث أن نسبه الأمية 39٪ لسكان الريف تقريبا، و 22 ٪ من السكان البالغين في العراق لم يلتحقوا بالمدرسة، و9٪ من المدارس الثانوية)، وهذه المؤشرات إن دلّت على شيء فإنها تدل على وجود خلل تنظيمي مجتمعي ينبغي أن تتم معالجته بحكمة وحزم.
وكل الخطط التي تبذلها الدولة في التعليم لن تنجح ما لم يتم بناء دولة مدنية رصينة تحكمها المؤسسات المستقلة والقانون، لذلك فإن تدّني مستوى التعليم أمر لا ينسجم مع التوجّه نحو المسار الديمقراطي وتعميق التجربة التحررية، ويتنافى تماما مع صنع البنية الأساسية للدولة المتطورة، خصوصا إذا عرفنا بأن نسبة الأمية في العراق في تزايد مضطرد، إذ تؤكد المعلومات (حسب آخر الإحصاءات الدولية، أن نسبة القادرين على القراءة والكتابة قد وصلت إلى أقل مستوياتها في تاريخ العراق الحديث، إذ بلغت في العقد الأخير ما يقارب 60%، حيث عاني أكثر من 6 ملايين عراقي بالغ من الأمية التامة نتيجة للحروب التي حلّتْ بالبلاد والحصار الاقتصادي الذي دام أكثر من 13 عاما).
أمرض أخرى يجب معالجتها
ولا يمكن إغفال مثل هذه المؤشرات لأنها تتطلب التدخل لوضع الحلول، فهذه الأرقام تدلل دون أدنى شك على هشاشة القطاع التربوي التعليمي التي انعكست من مؤسسات الدولة الأخرى، وعدم وجود خطة منهجية علمية مدروسة لمعالجة ركائز الخلل في المؤسسات المختلفة، مع الأهمية القصوى لتحييد الظواهر المريضة كالعنف ضد الطلبة أو العكس، حيث يبدي الكثير من الطلبة لاسيما الصغار (مرحلة الابتدائية) تخوفهم من التعامل العنيف كالضرب أو اللفظ النابي الصادر ضدهم.
ولا ينتهي الأمر عند ظاهرة العنف وحدها، فهنالك أمراض أخرى ينبغي الوقوف عندها والقضاء عليها كالرشوة مثلا، الأمر الذي يدل على ضعف هذا القطاع الحيوي على الرغم من بذل الجهود الكبيرة في هذا الاتجاه، وكما ذكرنا في صدر هذا المقال، يحتاج الأمر الى صنع مؤسسات دولة لها هيبة القانون والنظام والمبدئية العالية، وإذا ما توافرت مثل هذه الشروط في هذه المؤسسات، فإن معالجة الأمراض كلها سوف تكون ممكنة وإن كان ذلك بالتدريج، فالمهم هو أن تضع المؤسسات المعنية خطة عملية للنهوض بقطاع التربية والتعليم، على أن يسبق ذلك خطط كبرى تشمل جميع المجالات والمؤسسات، فلا فائدة في معالجة مؤسسة حساسة وإهمال أخرى.
وأحيانا يصرّح مسؤولون بأن المعالجات تأتي حسب أهمية المؤسسات، وقد تكون هذه التصريحات صائبة، وفي حال الاتفاق على مثل هذه المقترحات، فإن التربية وقطاع التعليم، لهما الأسبقية، فهما العمود المركزي الذي يستند إليه البلد كله، بمؤسساته كلها، وقد قيل سابقا إذا هزل التعليم ضعف البلد برمته، من هنا فإن الدولة العراقية مطالَبة بترميم ما يعتور مؤسساتها من نواقص وظواهر مريضة، وعندما تتجاوز تلك المؤسسات هشاشتها، سوف ينعكس ذلك على قطاع التربية والتعليم.
اضف تعليق