النمو في حد ذاته ليس مهمة؛ بل هو نتيجة للاستثمار العام والخاص، والنمو اللائق يأتي نتيجة للاستثمار الموجه. إذا كان لعملية التحول المناخي في المملكة المتحدة أن تحقق نتائج لصالح الناس والكوكب في الأمد البعيد، فيجب أن يعكس تعامل الحكومة مع القطاع الخاص الثقة وليس الخضوع. ومن الممكن...
بقلم: ماريانا مازوكاتو
لندن- فكرت حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة بجدية في الاستثمار العام اللازم لإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح بعد 14 عاما من التقشف، وإهمال البنية الأساسية الاجتماعية، وهروب رؤوس الأموال بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والظروف الاقتصادية غير المستقرة. وهي تدرك أن الوضع يتطلب استراتيجية جديدة للتصدي للمشكلات الضخمة مثل الفقر بين الأطفال، وفجوات التفاوت في مجال الصحة، وضعف القاعدة الصناعية، والبنية الأساسية العامة المتعثرة.
ولكن كيف يجب أن تبدو هذه الاستراتيجية؟ تُعد "ورقة الاستراتيجية الصناعية الخضراء" الصادرة مؤخرا عن وزارة الأعمال والتجارة البريطانية بعنوان "استثمر 2035" بداية واعدة. مع ذلك، في ردي الخاص خلال فترة المشاورات العامة، شددت على أن الاستراتيجية الصناعية يجب أن تتمحور حول "مهام" رئيسية مثل تحقيق هدف خفض صافي الانبعاثات إلى الصِـفر، بدلا من التركيز على قطاعات بعينها، كما يبدو أن الحكومة تفعل الآن. وفي حين حددت الحكومة لنفسها خمس "مهام"، فإن هذه المهام تبدو أقرب إلى أهداف مع بعض الغايات، بدلا من كونها محورية في طريقة عمل الحكومة والصناعة معا.
لكي يتمكن حزب العمال من تحقيق أجندته، يتعين عليه أن يتصور الشراكات بين القطاعين العام والخاص على النحو الصحيح. تاريخيا، كان التعاون بين القطاعين العام والخاص في المملكة المتحدة ينطوي على مبالغة الدولة في الدفع، وتقصير القطاع الخاص في الإنجاز. على سبيل المثال، في أعقاب الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، منحت الحكومة سرا شركة نيسان مبلغ 61 مليون جنيه إسترليني (76 مليون دولار أميركي) لبناء سيارات جديدة في المملكة المتحدة. ولكن مع ذلك تخلت نيسان عن التوسع المخطط له في مصنعها في سندرلاند، ولم تتحقق الوظائف الموعودة قَـط. على نحو مماثل، في إطار خطط "مبادرة التمويل الخاص" الفاشلة في تسعينيات القرن العشرين، كانت الدولة تدفع مبالغ ضخمة لمقاولين من القطاع الخاص لتشغيل الخدمات العامة مثل السجون، والمدارس، والمستشفيات قبل إعادتها إلى الدولة، وغالبا في حالة سيئة ودون أي تحسن واضح للخدمة.
استُخدم هذا النهج على نطاق واسع في بناء مستشفيات هيئة الخدمات الصحية الوطنية، حيث تَـوَلَّـد عن أول 15 عقدا منها 45 مليون جنيه إسترليني كرسوم ــ نحو 4% من القيمة الرأسمالية للصفقات ــ لصالح مستشارين في القطاعين العام والخاص. وأظهر تحليل صادر عن وزارة الخزانة في المملكة المتحدة في وقت لاحق أن التكاليف العامة المترتبة على مبادرة التمويل الخاص كانت ضعف تكاليف الاقتراض الحكومي. لحسن الحظ، حققت شراكات عديدة بين القطاعين العام والخاص على مستوى العالم نتائج أكثر إيجابية. إذ يقدم بنك التنمية الوطني الألماني KfW قروضا بفوائد منخفضة إلى الشركات التي توافق على إزالة الكربون. على نحو مماثل، كانت خطة إنقاذ الحكومة الفرنسية للخطوط الجوية الفرنسية أثناء جائحة كوفيد-19 مشروطة بقيام شركة الطيران الفرنسية بالحد من الانبعاثات لكل راكب وتقليل الرحلات الداخلية؛ على النقيض من ذلك، أنقذت المملكة المتحدة شركة easyJet دون فرض أي شروط. في الولايات المتحدة، اشترط قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم على الشركات المستفيدة من الأموال العامة الالتزام بخطط تنمية العمل المناخي وقوة العمل، وتوفير رعاية الأطفال، ودفع الأجر الكافي لتلبية احتياجات المعيشة. والقانون يُعطى الأفضلية للشركات التي تعيد استثمار الأرباح بدلا من استخدامها لإعادة شراء الأسهم.
تتمتع المملكة المتحدة ببعض الخبرة في تشكيل الأسواق حول أهداف واضحة. في تطوير لقاح أكسفورد/أسترازينيكا ضد كوفيد-19، استخدمت الحكومة نموذج تقاسم المخاطر والمكافآت حيث قدمت 95% من التمويل مقابل التزامات بعينها من جانب الشركة. وبهذا كان لزاما على شركة أسترازينيكا أن توفر أول 100 مليون جرعة للمملكة المتحدة وتسمح للحكومة بالتبرع باللقاحات الفائضة وإعادة تخصيصها.
بالمثل، أتاح استحواذ شركة Octopus Energy على شركة توريد الطاقة Bulb للحكومة البريطانية جني أرباح بقيمة 1.5 مليار جنيه إسترليني حيث سددت Octopus الدعم العام الذي تلقته من خلال صفقة سابقة لتقاسم الأرباح. حافظ هذا الاتفاق على الوظائف وحال دون تكبيد المستهلكين أية تكاليف إضافية. من خلال استراتيجية موجهة نحو تحقيق المهام، تستطيع حكومة حزب العمال توسيع نطاق وتنظيم هذا النوع من المشاركة بين القطاعين العام والخاص. بدلا من كونها "مؤيدة بلا تحفظ للأعمال"، كما تدعي في ورقتها الخضراء، ينبغي للحكومة أن تضمن أن الاستثمار العام يسعى إلى تحقيق أهداف واضحة: حشد رأس المال الخاص، وخلق أسواق جديدة، وزيادة القدرة التنافسية في الأمد البعيد.
لنتأمل هنا هدف المملكة المتحدة المتمثل في خفض صافي الانبعاثات إلى الصفر، والذي لا يتعلق فقط بالطاقة النظيفة بل وأيضا بكيفية تناولنا للطعام، والتنقل، والبناء. بوسع الدولة أن تضطلع بدور حاسم باعتبارها المحرك الأول، فتعمل على تشكيل الأسواق بحيث تتماشى الحوافز الخاصة مع الأهداف العامة. ولكن بالحكم استنادا إلى هذا المعيار، يبدو أن التحركات الأخيرة من جانب حكومة حزب العمال لا ترقى إلى المستوى المطلوب. على سبيل المثال، جمعت صفقات رئيس الوزراء كير ستارمر مع Macquarie (بنك استثماري)، و Blackstone (شركة لإدارة الأصول)، وغيرهما أكثر من 60 مليار جنيه إسترليني دون تحديد توقعات واضحة وموجهة نحو النتائج أو ضمان تقاسم المخاطر والمكافآت.
بالمثل، يسمح دعم الحكومة لعمليات احتجاز الكربون وتخزينه (بقيمة 22 مليار جنيه إسترليني حتى الآن) بتدفق الأموال إلى شركات النفط العملاقة القائمة دون تحميلها المسؤولية في التحول الأخضر. هذه الصفقات مهيكلة لتحقيق النمو بأي ثمن، في حين أن ما تحتاج إليه المملكة المتحدة حقا هو النمو الشامل والمستدام. يتطلب هذا حوكمة أفضل للشركات للحيلولة دون حدوث حالات مثل إثقال كاهل Thames Water (مرفق المياه والنفايات) بديون تزيد قيمتها عن ملياري جنيه إسترليني بعد أن أصبحت شركة Macquarie أحد المساهمين الرئيسيين في عام 2006.
وكما قلت من قبل، فإن النمو في حد ذاته ليس مهمة؛ بل هو نتيجة للاستثمار العام والخاص، والنمو اللائق يأتي نتيجة للاستثمار الموجه. إذا كان لعملية التحول المناخي في المملكة المتحدة أن تحقق نتائج لصالح الناس والكوكب في الأمد البعيد، فيجب أن يعكس تعامل الحكومة مع القطاع الخاص الثقة وليس الخضوع. ومن الممكن أن يبدأ هذا بتوظيف الأدوات التي تمتلكها الحكومة بالفعل. بوسع صندوق الثروة الوطنية الجديد وشركة Great British Energy (وهي شركة لإنتاج الطاقة النظيفة مملوكة للقطاع العام ومن المتوقع إطلاقها في أوائل العام المقبل) إحداث فارق كبير، ولكن فقط إذا عمل صناع السياسات على التنفيذ على النحو الصحيح. على سبيل المثال، ينبغي لصندوق الثروة الوطنية أن يضع شروطا للاستثمارات العامة؛ وأن يوفر إمكانية الوصول العام إلى الملكية الفكرية وبراءات الاختراع للأبحاث؛ وأن يخلق إعانات دعم وغير ذلك من الحوافز للاستثمارات المتوافقة مع المهام؛ وأن يستخدم ضمانات القروض وعمليات الإنقاذ لدفع الشركات نحو إزالة الكربون، وأن يعمل على تحسين ظروف العمل، وتقليل عمليات إعادة شراء الأسهم. كما تُـعَـد المشتريات رافعة قوية، لأنها تمثل ثلث إجمالي إنفاق الحكومة ويمكنها توجيه الاستثمار نحو أهداف ذات أهمية استراتيجية. في النهاية، يتعين على حكومة المملكة المتحدة أن تتحول من نهج قطاعي إلى نهج موجه نحو تحقيق المهام، يتبنى شكلا واثقا وموجها نحو تحقيق النتائج من أشكال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، على النحو الذي يحفز القطاع الخاص على القيام بدوره. يتفهم حزب العمال المشكلة، لكن الحل الذي يقترحه لا يزال في احتياج إلى بعض العمل.
اضف تعليق