تكلفة الإنتاج، فإن تكلفة الإنتاج كلما ارتفعت أكثر، ارتفعت القيمة التبادلية أو السوقية للمنتجات تعويضاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج.. (رأس المال) ومدى تكثيفه، يعدّ من محددات القيمة التبادلية، وقد يرفعها حيناً لكونه جزءاً من تكلفة الإنتاج، وقد يكون رفع القيمة مساوياً لتكلفة الإنتاج بما فيه تكلفة استهلاك رأس المال...
عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية التالية، اولا المنفعة والقيمة الاستعمالية، ثانياً الرغبة، ثالثاً الحاجة والإشباع، رابعاً المنفعة الحدية، خامساً العرض والطلب، سادسا البدائل والمكملات، سابع الندرة والوفرة:
ح. تكلفة الإنتاج
ثامناً: تكلفة الإنتاج، فإن تكلفة الإنتاج كلما ارتفعت أكثر، ارتفعت القيمة التبادلية أو السوقية للمنتجات تعويضاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج، نعم المنافسة قد تخفض القيمة، وربما ازدادت حدة المنافسة حتى يخفض الباعة القيمة إلى حد تكلفة الإنتاج، بل قد تضطر ضراوة المنافسة الباعثة إلى خفض الأسعار إلى دون مستوى تكلفة الإنتاج، ولكن ذلك لا يكون إلا حتى حين، إذ من الواضح أنه لا توجد مصلحة للمنتجين والباعة في مواصلة عمليات الإنتاج والبيع مادامت تكاليف الإنتاج أكبر أو حتى مساوية للعوائد، ولكن بعض المنتجين والباعة قد يواصل البيع على أمل السيطرة على الأسواق وإخراج المنافسين ثم استرجاع العوائد، وربما بشكل مبالغ فيه بعد السيطرة على السوق أو احتكارها بتعبير آخر، بل قد يواصل بعض المنتجين البيع بما دون تكلفة الإنتاج كي لا يُمنى بخسارة أكبر إذا تجمّدت البضائع لديه.
ولكن، وعلى أية حال، فإنه في الحالات الاعتيادية فإن من (حق) المنتجين أن يزيدوا الأسعار والقيمة التبادلية كلما ازدادت عليهم التكاليف، فهذا إذا درسنا القضية من زاوية معيارية ـ أخلاقية، وأما من الناحية العلمية ـ الاقتصادية، فإن المنتجين سيزيدون الأسعار كلما ازدادت التكاليف، وستكون زيادتهم للأسعار بقدر زيادة التكاليف، أو أقل أو أكثر، وذلك على حسب ما يجدون في السوق من درجة مرونة الطلب، ومن صلابة الطلب وعدم مرونته، والتي تعني أن (الطلب) في بعض البضائع غير مرن تجاه السعر، أي أنه لا ينخفض بزيادة السعر أبداً أو ينخفض بشكل محدود فقط، وذلك في الحاجات الأساسية تحديداً كالخبز وشبهه، عكس السفر بالطائرة مثلاً حيث إن الطلب عليها مرن تماماً بالنسبة إلى الأسعار، فإنه إذا زادت أسعارها انخفض الطلب عليها، إلا مع تدخل عوامل أخرى.
(وقد تصدى الفيزيوقراطيون أيضاً، وإن كان عَرَضاً، لمشكلة تحديد السعر، وبما أن الصناعة التحويلية لا تضيف أي قيمة، فإنهم كانوا يعتقدون أن الأسعار إنما تعكس تكاليف الإنتاج، وهذه فكرة لم تكن عديمة الجدوى، إذا لم يبد رأي في العناصر التي تحدد التكاليف. وكانت هناك إشارات إلى الأجور وردت بصورة عابرة تقريباً، بأنها تتحدد عند المستوى الذي يوفر للعامل الحد الأدنى الضروري للبقاء، وهذه المسائل نوقشت وطورت بتوسع في اسكتلندا وإنجلترا في السنوات التي أعقبت ذلك مباشرة)(1).
(وبرزت نظرية تكاليف الإنتاج التي تأخذ في اعتبارها كافة العوامل المكونة للتكاليف بما فيها الربح، وقد ووجهت بالانتقادات نفسها الموجهة لما قبلها من آراء في القيمة، وقد جرى تعديل النظرية هذه على أساس أن القيمة تتحدد بنفقات إنتاج السلعة وقت البيع وليس وقت الإنتاج، وهي أيضاً لا تفسر قيم سلع كثيرة كالثروات الطبيعية والسلع النادرة(2))(3).
تقاطع مارشال
وقد ذهب بعض الاقتصاديين المعاصرين، وهو "الفريد مارشال" (1824ـ 1924م) إلى الجمع بين هذا العامل وهو عامل تكلفة الإنتاج الحدي، الذي يزداد بسبب تناقص العائد الحدي فيرفع الأسعار (وهو من دائرة العرض) وبين عامل الطلب الحدي (إذ كلما ارتفعت الكمية المستهلكة تناقصت المنفعة الحدية نظراً لتناقص الإشباع فتنخفض الأسعار لتضمن ارتفاع الطلب)، (وهو العامل الماضي)، كمحددين أساسيين للقيمة التبادلية، وذلك عند نقطة تقاطعهما فيما اشتهر بتقاطع مارشال "Marshallian cross".
(وكان إسهام مارشال الأكثر أهمية في الاقتصاد هو الجمع بين نظرية الكتّاب الكلاسيكيين عن الإنتاج، ونظرية الحدّيين عن الطلب، فيما أطلق عليه تقاطع مارشال "Marshallian cross" الشهير، والذي أصبح بدوره الأساس لنظرية القيمة للنيوكلاسيكيين، وهذا المثال الكلاسيكي الآن عن التوازن الثابت في الاقتصاد هو تفسير ألفريد مارشال لسعر التوازن التي تحافظ عليه قوى العرض والطلب.
وسيقوم المزارعون بعرض أعداد أكبر من مكاييل (البوشل) القمح شهرياً كلما ارتفع ما يدفع إليهم عن ثمن القمح للبوشل، ولما كان كل بوشل إضافي من القمح ستكون تكلفة إنتاجه أعلى عن البوشل الذي سبقه مباشرة؛ بسبب تناقص العائد الحدي، سيقوم المزارع بعرض بوشل واحد أكثر إذا ارتفع الثمن المدفوع، وأصبح يساوي التكلفة الحدية للإنتاج، ورفع التكاليف الحدية يضمن وجود منحنى عرض بانحدار صاعد. وقد افترض النيوكلاسيكيون أن تناقص الغلة الحدية وارتفاع التكلفة الحدية ينطبقان بنفس الدرجة على الصناعة.
على أن المستهلكين سيطلبون عدداً أكبر من مكاييل (البوشل) القمح شهرياً إذا ما انخفض الثمن، وفكرة ارتفاع الكمية المطلوبة مع هبوط الثمن تأتي من الفكرة الحدية لتناقص المنفعة الحدّية، ونظراً لأن كل بوشل إضافي يتم استهلاكه يعطي إشباعاً أقل فأقل، فإن الثمن يجب أن يكون أقل فأقل لضمان شرائه، وهذا هو قانون الطلب العادي الذي تزداد فيه كمية القمح المطلوبة كلما انخفض ثمن القمح، وتصل كل القوى إلى توازن عندما يتقاطع منحنى الطلب مع منحنى العرض، مثل حدي المقص، وبذلك تقدم ثمناً للتوازن، وللثورة المارشالية، وهذا الثمن سيدوم وستظل القوى في حالة راحة.
أما القوى الأخرى مثل الدخل أو التغيرات في التكلفة، فيمكنها أن تغير مُنحنيي الطلب والعرض ذاتهما، وينتج عن ذلك ثمن توازن جديد)(4).
مناقشتان في تقاطع مارشال
ولكن تقاطع مارشال يعاني من:
أولاً: أن هنالك عوامل أخرى إضافة إلى تناقص المنفعة الحدية والإشباع وتكلفة الإنتاج، مؤثرة في تحديد القيمة التبادلية، إما مباشرة أو بالواسطة، وهي مجموعة من العوامل السابقة والآتية، ومنها مثلاً: الوفرة أو الندرة وتوفر البدائل والمتممات وعدمه، فراجع كافة العوامل العشرين بتأنٍ ودقة.
العلاقة بين العرض والطلب وسائر العوامل
ويحظى بالأهمية البالغة أن نحدد بشكل عام، نوع العلاقة بين العرض والطلب والعوامل الأخرى، فنقول: إن بعض العوامل يؤثر في طول العرض والطلب، وبعضها يؤثر في عرضه، أي أن بعضها يؤثر في زيادة العرض والطلب، وبعضها يؤثر في القيمة التبادلية مباشرة متجاوزاً معادلة العرض والطلب، أي إنه يرفع القيمة أو يخفضها حتى مع بقاء العرض والطلب على حاله، وذلك كعامل المنفعة والقيمة الاستعمالية أو عامل المنفعة الحدية، فإن المنفعة إذا ازدادت فقد يرفع المنتِج القيمة حتى إذا بقي الطلب على حاله ولم يزدد، ولا يؤثر رفع القيمة على حجم الطلب فيما لو لم تكن هناك مرونة للطلب تجاه السعر(5)، ولو انخفضت المنفعة فإن المشتري قد لا يشتري إلا بقيمة أقل حتى إذا بقي العرض على حاله (أو حتى لو انخفض فرضاً(6))، نعم كل ذلك يؤثر على المدى الطويل أو المتوسط في العودة إلى نقطة توازن العرض والطلب، فتدبر.
وكذلك عامل (توفر البدائل) فإنها تارة تؤثر على العرض والطلب زيادةً ونقصاً، وأخرى تؤثر على رغبة المشتري المستهلك واندفاعه للشراء بهذا الثمن المحدد أو بأقل منه أو أكثر، مع قطع النظر عن زيادة العرض أو نقصانه أو زيادة القيمة أو نقصانها، وكذلك حال عوامل أخرى، كعامل رأس المال ودرجة تكثيفه، فإن العمال إذا ازدادت إنتاجيتهم نتيجة تكثيف رأس المال مثلاً وأمكنهم أن ينتجوا في اليوم الواحد ضعف السابق(7) فإنهم قد لا يخفضون الثمن إلى النصف رغم أن تكلفة الإنتاج انخفضت إلى النصف، (تكلفة الوقت والجهد المبذول)، وذلك مع قطع النظر عن بقاء الطلب على حاله أو زيادته أو نقصانه، وقد يخفضون السعر إلى النصف ولا يرتفع الطلب إلى الضعف (لاختلاف درجات مرونة العرض)، وقد يتأثر تحديدهم لقيمة عملهم بزيادة الطلب أو نقصانه ولكن لا بنفس نسبة ارتفاع الطلب أو خفضه، وكذلك الحال في عدد من العوامل الأخرى، فتدبر فيها جيداً.
ثانياً: الإشكال العام الذي طرحناه في موضع آخر عن قانون تناقص العائد الحدي والمنفعة الحدية ورفع التكاليف الحدية، وأن الأمر لا عمومية له، فقد يزداد العائد الحدي مع زيادة الإنتاج(8)، وقد تزداد المنفعة الحدية مع ازدياد الاستهلاك، وقد تنخفض التكاليف الحدية مع زيادة الإنتاج.
ولكن قد يقال: إن ذلك إنما هو إلى حدّ معين ولا غير؟.
وقد يجاب: بأن قانون (الحد المعين) إنما يحكم بعض الخدمات أو السلع، فإن بعضها الآخر قد لا تكون لها حدود، فخدمة المعرفة والعلم والمهارة (التي يشتريها من معلم ومدرب ما) قد يزداد عائدها الحدي مع زيادة الإنتاج، فيحصل المدرب أو المعلم على عائد أو أجرة أكبر على كل وحدة إضافية، وقد تزداد المنفعة الحدية مع زيادة استهلاك / الحصول على مفردة إضافية من المعرفة أو المهارة، وهكذا.
وكذلك النقود، فإن زيادة وحدة إضافية من النقود لبعض المستثمرين، قد تقدم إشباعاً ومتعةً وفائدةً أكبر له، فيما لو توقف الاستثمار الأكثر جدوائية على تكثيف رأس المال "capital deepening" وإنفاق كميات أكبر من النقود، وذلك كله خلافاً للنظرية التي ترى (أن كل وحدة إضافية من النقود تقدم متعةً أقل عن التي قبلها)، فإنه وإن صح ذلك في النقود التي يشتري بها الطعام للاستهلاك مثلاً، لكنه لا يصح في بعض أنواع الاستثمار المتدرجة في الإنتاجية بحسب تكثيف رأس المال، على أنه كلما جرت تلك القوانين فإنه لا يوجد تطابق بالضرورة بين درجة تناقص المنافع الحدية، وبين نسبة ارتفاع / تناقص القيمة التبادلية والثمن، ولا بين رفع التكاليف الحدية وبين نسبة ارتفاع الثمن.. وقد مضى تفصيل ذلك فراجع.
ط. رأس المال
تاسعاً: (رأس المال) ومدى تكثيفه، يعدّ من محددات القيمة التبادلية، وقد يرفعها حيناً لكونه جزءاً من تكلفة الإنتاج، وقد يكون رفع القيمة مساوياً لتكلفة الإنتاج، بما فيه تكلفة استهلاك رأس المال وشبه ذلك، وقد يكون أكثر، وقد يخفضها حيناً نتيجة معادلة وفورات الحجم.
ولقد (كانت كلمة رأس المال "capital" جزءاً من مصطلحات القانون وشئون الأعمال قبل أن يجد الاقتصاديون استخداماً ما لها بوقت طويل. وكانت تعني، لدى القانونيين الرومان وخلفائهم، المبلغ الأصلي "principal the" من قرض معين، تمييزاً له عن الفائدة وحقوق الدائن الإضافية الأخرى. وهو ارتباط واضح بهذا، أصبحت كلمة رأس المال فيما بعد تعني المبالغ من النقود، أو ما يعادلها، التي تضعها الشركة في مشروع مشترك أو شركة، أو تعني المجموع الكلي لأصول منشأة معينة، وما شابه)(9).
وحسب بعض التعريفات: (يوصف رأس المال بأنه رصيد، أو خزين "Stock" مُنتَج سابقاً قد تراكم عبر الزمن، فهو موجودات أو أصول "Assets" ذات صفة رأسمالية، أي وسائل إنتاج ارتبطت حيازتها بتحقيق فوائض أو أرباح. وعلى المستوى الوطني يبلغ حجم رأس المال، حسب تقديرات تتسق مع نظام الحسابات القومية، بين ثلاثة إلى أربعة أمثال الناتج المحلي، حوالي 60% منه أبنية ومنشآت، والباقي معامل ومكائن ووسائط نقل إنتاجية وحيوانية، والمخزونات من مستلزمات الإنتاج وسلع نصف مصنعة ومنتجات لم تسوّق بعد)(10)،(11).
وأما تكثيف رأس المال فتعريفه (في نظرية التنمية الاقتصادية: زيادة في نسبة رأس المال إلى العمالة، عكس تعريض رأس المال)(12).
رأس المال عامل موازٍ لتكلفة الإنتاج
ومن مجموع الأمرين السابقين(13) نعرف أنه لا يصح أن نحصر رأس المال في دائرة عامل تكلفة الإنتاج، أو أن نعده هو هو، أي أنه لكونه يشكّل جزءاً من تكلفة الإنتاج فلذلك فقط فإنه يؤثر في القيمة التبادلية، استناداً إلى أنه كلما احتاج إنتاج سلعة إلى الرأسمال الأكبر، كان من الطبيعي أن يطالب البائع بقيمة أكبر على منتجاته ليعوض عن رأسماله الكبير الذي جمّده عن اقتناص الفرص الأخرى البديلة، وصبّه في هذا الإنتاج، وأيضاً ليعوّض عن استهلاك رأس المال من معدات ومنشآت وغيرها.
بعبارة أخرى: أن (رأس المال) عامل موازٍ لتكلفة الإنتاج، في زيادة القيمة التبادلية، وإن كان إلى جوار ذلك جزءاً من مكوِّنات (تكلفة الإنتاج)، وذلك لأنه يوجد قيمة تبادلية أولاً بما أنه يشكل جزءاً من تكلفة الإنتاج، ويوجِد قيمة أكبر ثانياً بنفسه لا بما أنه شكّل تكلفة ما، فإنه كالمخاطرة والعمل والمهارة، التي يمكن أن تندرج في عامل تكلفة الإنتاج من جهة، لكنها تبقى عوامل مستقلة اعتباراً، بل وواقعاً أيضاً من حيث التأثير في القيمة التبادلية؛ إذ أننا نجد:
أولاً: أن تكثيف رأس المال "capital deepening" قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع فتعوّض بذلك عن تكلفة رأس المال، لكن ارتفاع أسعارها قد يكون أكبر من تكلفة كثافة رأس المال، مما يعني أن عاملاً آخر قد تدخل في تحديد القيمة التبادلية الأعلى، وهو تكثيف رأس المال نفسه، أي أنه الذي ولّد القيمة التبادلية الأعلى.
وثانياً: أن تكثيفه قد يؤدي إلى انخفاضها، نتيجة تأثيره على معادلة وفورات الحجم أو زيادة العرض، فلا يدخل رأس المال في تكلفة الإنتاج حينئذٍ، أي أنه لم يحتسب منها لكنه يكون من محددات القيمة التبادلية ارتفاعاً في الصورة الأولى وانخفاضها في الصورة الثانية.
لكن الشق الثاني يمكن الجواب عنه: بأن تكلفة رأس المال توزعت على الوحدات الكثيرة المنتجة، فأمكن بذلك خفض سعر كل وحدة من وحدات الإنتاج وبقيت الأرباح، بالنسبة للمنتج والمستثمر، كما هي.
ويمكن الردّ بوجهين:
الأول: أن أرباح المنتِج من كل وحدة صغيرة نتيجة وفورات الحجم، قد تكون أكبر من أرباحه بدونها، وهذا يعني أن القيمة التبادلية (التي شكلت الأرباح جزءاً منها) لم تكن وليدة تكلفة رأس المال نفسه فقط، بل كان جزء منها وليد عامل آخر هو وفورات الحجم أو هو رأس المال نفسه، لأن وفورات الحجم هي المظهر التجسيدي لرأس المال (زائداً العمل و...) وليست أمراً آخر، فتدبر.
الثاني: أن أرباحه حتى لو لم تزدد نتيجة وفورات الحجم، لكنه لولا الوفورات لَـمُنِي بخسائر، فكانت القيمة التبادلية وليدةً عن وفورات الحجم إضافةً إلى تكلفة الإنتاج، ولم يكن رأس المال، الذي يشكل جزءاً من تكلفة الإنتاج، هو المولّد لها، أي لم تكن تكلفة رأس المال هي المولدة للقيمة التبادلية.
ولكن بعض ما سبق قد يناقش فيه، فتدبر وتأمل.
وعموماً، فإن بعض العوامل المحددة للقيمة تقع في عرض تكلفة الإنتاج، كعامل العرض والطلب والندرة والوفرة والاحتكار، فإن هذه العوامل لا تعتمد في رفع قيمتها التبادلية على زيادة تكلفة الإنتاج، بل هي في خط مواز للتكلفة، وبعضها تارةً تقع في طولها، وأخرى تقع في عرضها، وذلك كالمخاطرة ورأس المال كما سبق، والمراد من الطولية عدم تأثيرها مباشرة على القيمة بل بواسطة عامل آخر كتكلفة الإنتاج مثلاً.
تجسيدات رأس المال
ومن المهم الإشارة إلى أن لرأس المال تجسدات عديدة مختلفة:
(وحيث يبني آدم سميث مذهبه ابتداءً من تحليل عملية الإنتاج، فهو يرى أن الإنتاج إنما يتطلب توافر حد أدنى من الرأسمال الذي يلج حقل الإنتاج في أشكال مختلفة، منه ما هو في صورة مواد أولية أو مواد مساعدة، ومنه ما هو في صورة آلات ومبانٍ، ومنها ما هو في صورة عمل ينفق في سبيل تفعيل المواد من خلال الأدوات وتحويلها إلى سلع، هنا يقرر سميث أن الرأسمال ينقسم إلى قسمين، أحدهما: يُستخدم في سبيل الحصول على الأراضي والآلات، أي أدوات الإنتاج، ويسمى هذا القسم "الرأسمال الأساسي"، والآخر: يستخدم في سبيل شراء مواد العمل والعمل، ويسمى هذا القسم "الرأسمال الدائر". ووجه الاختلاف بين الرأسمال الأساسي والرأسمال الدائر، كما يرى سميث، يتجلى في شرط بقاء الملكية، وهو الشرط الذي سيعدله ريكاردو فيما بعد؛ فسميث يجعل معيار التفرقة بين قسمي الرأسمال هو مدى احتمالية تغير مالك ذلك الجزء من الرأسمال الذي تجسد في السلعة عقب إنتاجها وطرحها في التداول، بمعنى أن كل سلعة من السلع المنتَجة طبقاً لنمط الإنتاج الرأسمالي والمعدّة للطرح في السوق، إنما تحتوى على "أدوات عمل، ومواد عمل، وعمل"، والذي يمضى في التداول هو "مواد العمل والعمل"، وتظل الأدوات والمباني، ضمن ملك صاحبها، وإنما تتجسد في الناتج بمقدار الاستهلاك فقط، وبنسبة محدّدة، في حين أن المواد إنما تُستهلك كليةً في أثناء عملية الإنتاج، وكذلك العمل الذي هو كالمواد عرضة للتبدل والتغير في أي لحظة يراها الرأسمالي، وتبقى الآلات والمباني كي تمثل الرأسمال الأساسي، في حين تُعد مواد العمل والعمل رأسمالاً دائراً)(14).
وقال بعض الباحثين: (إذن رأس المال في التنظير الكلاسيكي مجموعة من السلع أنتجت بعمل سابق، تستخدم في الإنتاج الجاري، وهي كما تقدم بثلاثة أصناف: سلع الكفاف لتغذية العمال حتى نهاية دورة الإنتاج الجارية؛ ومواد أولية؛ وأدوات إنتاج، مكائن وما إليها وأبنية، تسمى أيضاً رأس المال الثابت "Fixed Capital"، سلع الكفاف تسمى أيضاً مخصص الأجور، وكأن الأخيرة قيمة تلك السلع ولذا تجد الأجور، في الأدبيات الكلاسيكية جزءاً من القيمة الجديدة المضافة، وجزءاً من كلفة الإنتاج وداخلة في مفهوم رأس المال لحساب معدل الربح. رأس المال الثابت والمواد الأولية تسمى رأس المال الذي لا يتغير "Constant Capital"، الدائم أو المستمر؛ أما الأجور فتوصف برأس المال المتغير "Variable". وأيضاً تجمع المواد الأولية والأجور ضمن مفهوم رأس المال المتداول أو الدوار "Circulating". ستانلي جيفونز، أبرز الرواد الأوائل للمدرسة النيوكلاسيكية، تبنى تعريف الكلاسيك لرأس المال لكنه وسّع صنف السلع المطلوبة لإدامة استهلاك العمال كي تتجاوز الغذاء إلى كافة السلع الاستهلاكية)(15).
ولقد صرح بذلك العديد من كبار الاقتصاديين السابقين كـ(تورجو) مثلاً: (وقد التقط تورجو هذه الفكرة حالاً تقريباً وصاغ نظرية رأس المال المناظرة لها. فقد شدد تورجو ـ أو "حسم" كما يكاد المرء أن يقول ـ على أن الثروة من غير العوامل الطبيعية "richesse mobilière amassée d'avance" (الثروة التي تمت مراكمتها من قبل) تمثل "préalable indispensable" (شرطاً مسبقاً) لكل إنتاج "Reflexions, LIII" وهو ما يرقى إلى إرساء اللبنات بالنسبة للمحاولات اللاحقة لمعاملة رأس المال كعامل إنتاج)(16).
بعض المناقشات
ولكن تقييد رأس المال بكونه (مجموعة سلع أنتجت بعمل سابق) أو بكونه (خزيناً منتجاً سابقاً) ليس صحيحاً لوجهين:
الأول: أن رأس المال ينبغي أن يشمل أيضاً مجموعة من الخدمات التي أنتجت بعمل سابق، إذ ليست السلع فقط هي التي تشكل رأس المال، بل الخدمات أيضاً تشكل مكوّناً من مكوناته، فالمهارات الإنسانية والمعارف والعلوم، كعلم الطب والهندسة و...، هي جزء رأس المال المنتِج والمنتَج بعمل سابق رغم عدم كونها سلعاً.
وبعبارة أخرى: رأس المال هو أعم من رأس المال الإنساني، وكما يشكل رأس المال السلعي جزءاً من تكلفة الإنتاج كذلك رأس المال الإنساني يشكل جزءاً من تكلفة الإنتاج، كما أن كليهما يعدّ من المؤثرات في (القيمة التبادلية للمنتَجات سلعاً كانت أم خدمات).
وقد أذعن ببعض ما ذكر عدد من كبار علماء الاقتصاد، ومنهم آدم سميث، (فكل ما يهم هو أن سميث قد سلّم لمنظري القرن التاسع عشر مفهوماً مادياً "physical" أو حقيقياً "real" لرأس المال ـ والذي يشمل، رغم كونه كذلك النقود، والمهارات المكتسبة والنافعة لكل الأفراد، وكذلك وسائل معيشة العمال المنتجين، رغم أن هذا العنصر غير واضح في تصنيف سميث. وباستثناء بعض الانتقادات الطفيفة، فقد تم قبول وتطوير هذا المفهوم من قبل معظم أولئك المنظّرين)(17).
الثاني: كما أنه لا يشترط في رأس المال أن يكون مما أنتج بعمل سابق، بل يكفي كونه شيئاً ذا قيمة استعمالية جرت حيازته، كحيازة الأرض مثلاً أو بعض ثرواتها(18).
وقد يجاب: بأن العمل يشمل الحيازة؟
ولكن قد يردّ: بأن بعض أنواع الحيازة لا تعتبر عملاً عرفاً، كما تعارف حيازة السلاطين بل والحكومات المعاصرة للأراضي أو الغابات أو المعادن أو غيرها، بمجرد قرار حكومي، وإذا لم يسمّ ذلك حيازةً فإنه على أي تقدير قد يشكل رأسمالاً يستثمر في عملية الإنتاج، إذ يمكنه أن يقترض على خلفيته كرهن، كما يمكن أن يقرضه بفوائد لدى من يرى صحتها، أو أن يجعله رأسمالاً مضاربياً، أو أن يبني عليه مصنعاً أو معملاً أو حتى مدينة كاملة.
والحاصل: أن غاية ما يشترط في رأس المال هو أن يكون عامل إنتاج، وحتى مع هذا الاشتراط فإن الثروات الطبيعية التي جرت حيازتها، حتى بدون أي جهد وعمل، هي عامل إنتاج، وعلى أي تقدير فلا يشترط أن يكون (خزيناً منتجاً سابقاً) أو (سلع أنتجت بعمل سابق)، إذ لا يطلق (كونه منتجاً) و(سلع أنتجت بعمل سابق) على الحيازة المجردة رغم أنها عامل إنتاج.
مناقشة مع ريكاردو: ليس رأس المال عملاً متراكماً
وقد توهم ماركس، وريكارد من قبله، إذ تصوروا أن رأس المال هو (عمل متراكم) (وأنه ما دام عملاً متراكماً، فليس عاملاً آخر من عوامل تحديد القيمة التبادلية للسلع والخدمات، بل إن عامل تحديد القيمة إنما هو العمل ولا غير)، ولكن هذا مجرد وهم غير مطابق للواقع، وذلك لأن بعض رأس المال وإن كان كذلك، ولكنه ليس بأجمعه عملاً متراكماً، بل إن جزءاً منه يعود للإدارة والتنظيم، وجزءاً منه يرجع إلى العمل الفكري، كما أن جزءاً منه إنما هو هبة الطبيعة وذلك كما لو حاز أرضاً كغيره، ولكن ظهر أنها خصبة جداً، فجمع المحاصيل وراكم الأرباح وجعلها رأسمالاً لتجارة مربحة، فإن حصيلة هذه الأرباح جزءٌ منها نتاج عمله، وجزءٌ منها هبة الطبيعة، (أو الأصح: هبة خالق الطبيعة) له؛ ولذا أنتجت له أرضه أكثر من الأرض الأخرى في دولة أخرى أو منطقة أخرى أو حتى في مكان مجاور تماماً، والتي حازها أخوه مثلاً، وبذل عليها جهداً لا يقل عن جهده، كما أن رأس المال قد يكون وليد عامل الميتافيزيقيا، من دون أن يتولّد من العمل، كما تجد تفصيله في المجلد الثاني في العامل الثاني عشر من عوامل الإنتاج، فراجع.
ولقد أجاب في (اقتصادنا) عن نظرية العمل المتراكم: بأنه مهما بلغ تراكمه فإنه لا يتكفل بتفسير القيمة التبادلية الكبيرة له، قال: (أمّا المشكلة الأولى فقد حاولت الماركسية حلّها عن طريق تقسيم العمل إلى بسيط ومركّب. فالعمل البسيط هو الجهد الذي يعبّر عن إنفاق القوة الطبيعية التي يملكها كل إنسان سوي بدون تنمية خاصة لجهازه العضوي والذهني، كعمل الحمّال. والعمل المركّب هو العمل الذي تستخدم فيه الإمكانات والخبرة التي اكتسبت عن طريق عمل سابق، كأعمال المهندس والطبيب. فالمقياس العام للقيمة التبادلية هو العمل البسيط. ولمّا كان العمل المركّب عملاً بسيطاً مضاعفاً فهو يخلق قيمةً تبادليةً أكبر ممّا يخلقه العمل البسيط المجرّد. فالعمل في أسبوعٍ الذي ينفقه المهندس الكهربائي على صنع جهاز كهربائي خاص، أضخم من عمل أسبوعٍ ينفقه الحمّال على حمل الأثقال؛ نظراً إلى ما يتضمّنه عمل المهندس من جهد وعمل سابق بذل في سبيل اكتساب الخبرة الهندسية الخاصة.
ولكن هل يمكن أن نفسّر الفرق بين العمل الفني وغيره على هذا الأساس؟
إنّ هذا التفسير الماركسي للتفاوت بين عمل المهندس الكهربائي وعمل العامل البسيط يعني: أن المهندس الكهربائي إذا أنفق عشرين سنة مثلاً في سبيل الظفر بدرجة علمية وخبرة فنّية في الهندسة الكهربائية، ومارس العمل بعد ذلك عشرين سنة أخرى يحصل على قيمة لمجموع نتاجه الذي أنجزه خلال العقدين تساوي القيمة التي يخلقها الحمّال عن طريق مشاركته في الإنتاج بحمل الأثقال خلال أربعة عقود. وبمعنى آخر: أن يومين من عمل الحمّال الذي يساهم في الإنتاج بطريقته الخاصة تعادل يوماً واحداً من عمل المهندس الكهربائي، لما يتضمّنه هذا اليوم من عمل دراسي سابق. فهل هذا هو الواقع الذي نشاهده في مجرى الحياة الاقتصادية؟ أو هل يمكن لأيّ سوق أو دولة الموافقة على مبادلة نتاج يومين من عمل العامل البسيط بنتاج يوم واحد من عمل المهندس الكهربائي؟!
ولا شكّ أن من حسن حظ الاتحاد السوفياتي أنّه لا يفكّر في الأخذ بالنظرية الماركسية عن العمل البسيط والمركّب، وإلّا لمني بالدمار إذا أعلن: استعداده لإعطاء مهندس في مقابل كل عاملين بسيطين. ولذلك نجد أن العامل الفنّي في روسيا قد يزيد راتبه على راتب العمل البسيط بعشرة أضعاف أو أكثر، بالرغم من أنّه لم يقضِ تسعة أضعاف عمر العامل البسيط في الدراسة، وبالرغم من توفّر الكفاءات الفنّية في روسيا بالكمّية المطلوبة كتوفّر القوى العاملة البسيطة كذلك، فمردّ الفرق إذن إلى قانون القيمة وليس إلى ظروف العرض والطلب، وهو فرق كبير لا يكفي لتفسيره إدخال العمل السابق في تكوين القيمة. وأما المشكلة الثانية...)(19)، وسيأتي في المبحث الأخير تفصيل أكثر في مناقشة نظرية ريكاردو وماركس.
اضف تعليق