ويزداد المأزق المالي حراجة مع اتساع النفقات العامة خارج حدود الامكانية المالية للبلد بسبب الممارسات الحكومية والتشريعات البرلمانية التي لم تراعي الجنبة المالية عند التخطيط والتشريع، بل اعتادت الحكومات السابقة التعويل على ارتفاع اسعار النفط او ضغط النفقات الاستثمارية او اللجوء الى الاقتراض العام، بشقيه...
يستمر المأزق المالي في العراق مع استمرار تراجع الايرادات النفطية بسبب انخفاض اسعار النفط والكميات المصدرة الى دون المستويات التي تطبعت عليها الموازنات العراقية خلال الاعوام الماضية، فقد بلغت اسعار النفط العراقي المباع في الاسواق العالمية خلال شهر تشرين الاول الماضي (38) دولار للبرميل مقابل (58) دولار تحققت ذات الشهر من العام الماضي.
اما الصادرات النفطية فقد بلغت قرابة (2.8) مليون برميل يوميا شهر تشرين الاول الماضي مقابل (3.5) مليون برميل تحققت ذات الشهر من العام الماضي. وقاد انهيار الاسعار والكميات المصدرة، الايرادات النفطية صوب الهبوط لقرابة (39) ترليون دينار منذ بداية العام ولغاية شهر تشرين الاول الماضي مقابل (76) ترليون دينار تحققت لذات المدة من عام 2019.
ويزداد المأزق المالي حراجة مع اتساع النفقات العامة خارج حدود الامكانية المالية للبلد بسبب الممارسات الحكومية والتشريعات البرلمانية التي لم تراعي الجنبة المالية عند التخطيط والتشريع، بل اعتادت الحكومات السابقة على ضغط النفقات الاستثمارية او اللجوء الى الاقتراض العام، بشقيه المحلي والخارجي، في حال لم تستوعب الايرادات الريعية اجمالي النفقات الجارية، وهذا ما تحقق بالفعل خلال الاعوام الماضية والعام الجاري.
وتفصح احدث بيانات وزارة المالية عن تحقيق العراق ايرادات اجمالية تقارب (38) ترليون دينار حتى نهاية شهر ايلول الماضي، شكلت الايرادات النفطية منها قرابة (35) ترليون دينار، اي (92%). مقابل (51.7) ترليون دينار نفقات عامة لذات المدة، شكلت النفقات الجارية قرابة (98%) منها، وهو ما يفصح عن انحدار حاد في معدل النفقات الاستثمارية. وتم تغطية الفارق (العجز الفعلي) بموجب قانون الاقتراض الداخلي والخارجي رقم (5) لعام 2020 والذي منح الحكومة سقف اقتراض لا يتجاوز (5) مليار دولار اقتراض خارجي و(15) ترليون دينار اقتراض محلي.
ورغم التحسن النسبي الذي شهدته الاسعار فان العراق بحاجة لأسعار نفط لا تقل عن (70) دولار للبرميل لأجل تحقيق التوازن المالي المطلوب في ظل الصادرات النفطية الراهنة. وخلال الشهر الماضي حقق العراق ايرادات اجمالية تقارب (3.5) ترليون دينار شهريا مقابل نفقات جارية اساسية تتجاوز (7) ترليون دينار، مما الزم الحكومة على تقديم قانون ثاني للاقتراض لأجل تمويل الانفاق اللازم لتغطية رواتب الموظفين وبعض النفقات الحكومية الاساسية. وتحت الضغوط الشعبية، منح البرلمان الحكومة حق الاقتراض المحلي بسقف (12) ترليون دينار (بدلا من 41 ترليون دينار تم تضمينها في قانون الاقتراض الجديد) على أن تخصص الحكومة (20%) من مبلغ القرض للمشاريع الاستثمارية، اضافة الى (10.5) ترليون دينار ايرادات نفطية وغير نفطية صافية متوقعة خلال الشهور الثلاث الاخيرة من العام 2020.
مع ذلك، ونظرا لحراجة المأزق المالي في العراق والتخوف من اتكاء الاقتصاد العراقي على النفط والاقتراض معا خلال المدة القادمة، خصوصا مع ضعف قدرة الحكومة في ضغط النفقات الجارية والتعايش مع هبوط اسعار النفط، كان قانون الاقتراض الجديد اكثر صرامة. فبالإضافة الى منح الحكومة قرابة (30%) فقط من الحاجة الفعلية لتمويل النفقات العامة، فان القانون تضمن جملة من الفقرات التي تعد بحق خطوة طويلة باتجاه تعظيم الايرادات غير النفطية والزام الحكومة انتهاج خطوات الضبط والترشيد في جانب النفقات العامة. ويمكن الاشارة الى ابرز ما تضمنه القانون من سياسات اصلاحية وكما يلي:
المادة -6- الزام جميع الجهات الحكومية باعتماد البصمات البايرومترية الالكترونية المتعددة خلال تنفيذ الحركات المالية للمستفيدين من الرواتب والمنح بكل انواعها بالتنسيق بين وزارة المالية ووزارة التخطيط وديوان الرقابة المالية لتدقيق اعداد الموظفين لغرض تقاطع البيانات والمعلومات مركزيا.
المادة -7- تحدد حصة اقليم كوردستان من مجموع الانفاق الفعلي (النفقات الجارية ونفقات المشاريع الاستثمارية) بعد استبعاد النفقات السيادية المحددة بقانون الموازنة العامة الاتحادية بشرط التزام اقليم كوردستان بتسديد اقيام النفط المصدر من الاقليم وبالكميات التي تحددها شركة تسويق النفط العراقية (سومو) حصرا والايرادات غير النفطية وبإشراف ديوان الرقابة المالية الاتحادية. وفي حالة عدم التزام الاقليم لا يجوز تسديد نفقات الاقليم ويتحمل المخالف لهذا النص المسؤولية القانونية.
المادة -8- اولا: على مجلس الوزراء اتمتة النظام الضريبي والكمركي واجازات الاستيراد وربط كل الوحدات الخاضعة للضريبة والكمارك بنظام الكتروني فورا وجباية الرسوم الكمركية للبضائع المستوردة على اساس ما تم بيعه من العملة الاجنبية من خلال نافذة بيع العملة او الاعتمادات المستندية الى مستوردي السلع على ان يتم تسوية الفروقات بعد دخول البضائع المستوردة والمدققة من قبل الجهات المعنية.
المادة – 9- اولا: على وزارتي (الكهرباء والاعمار والاسكان) وامانة بغداد تفعيل جباية اجور الكهرباء والماء والمجاري وجميع الرسوم الاخرى المنصوص عليها ضمن قوانينها الخاصة عن الخدمات المقدمة من قبلها لغرض زيادة مواردها الذاتية. ولا تروج اي معاملة في جميع دوائر الدولة دون ان يقدم المستفيد فواتير الجباية ويستثنى من ذلك المشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية وذوي الدخل المحدود.
ثانيا: على هيئة الاعلام والاتصالات الزام شركات الهاتف النقال بتسديد ما عليها من مبالغ وغرامات والتزامات مالية خلال 30 يوم من تاريخ اقرار هذا القانون.
ثالثا: على وزارة الاتصالات وهيأة الاعلام والاتصالات كل حسب اختصاصه ايقاف الطيف الترددي لشركات الهاتف النقال وشركات تجهيز الانترنيت عند عدم تسديدهم لما عليهم من التزامات وضريبة المبيعات وضريبة الدخل الى وزارة المالية الاتحادية / الهيأة العامة للضرائب.
المادة -10- الغاء جميع الاعفاءات والاستثناءات الكمركية والضريبية الممنوحة للدول والمؤسسات الحكومية.
وتعد المواد اعلاه اولى خطوات الاصلاح المالي في مسار تعظيم الايرادات غير النفطية وكبح الهدر والفساد المستشري في مختلف مؤسسات الدولة وبالأخص في المنافذ الكمركية، واسترداد الديون الحكومية من الشركات والافراد. كما يضع القانون حدا لاستحواذ حكومة اقليم كوردستان على موارد العراق المالية دون المساهمة في تقديم الايرادات النفطية او غير النفطية المتحققة طوال الاعوام الماضية، خصوصا عام 2019 وعام 2020، حيث تم تمويل الاقليم بقرابة (9.5) ترليون دينار و(2.4) ترليون دينار على التوالي، دون تسليم الاقليم دينار واحد الى الخزينة الاتحادية، فضلا على الديون المتراكمة بذمة الاقليم لصالح حكومة بغداد.
واذا ما تم السير على ذات الخطوات الاصلاحية في الموازنة الاتحادية 2021 مع سياسات اصلاحية مماثلة تطال النفقات العامة، بشقيها الجاري والاستثماري، فان العراق يسير بخطى طويلة على مسار الاصلاح المالي والاقتصادي المنشود.
اضف تعليق