كانت انظار وآذان معظم صناع القرار مصوبة باتجاه المؤسسات الدولية وما تبديه من نصح ومشورة، باعتبارها مشورة مستوردة تفوق المشورة الوطنية طعما وجودة وفائدة، تماما كبعض السلع الاجنبية في عيون المستهلك العراقي. وتمثل تلك الحقيقة أحد مظاهر واسباب التخلف في الاقتصادات الهابطة، ومنها العراق. مؤخرا، أصدر صندوق النقد...
"زامر الحي لا يطرب" مثل عربي شاع في منطقة الخليج منذ زمن، وينطبق تماما على الحكومات العراقية المتعاقبة في عراق ما بعد 2003. خلال العقود القليلة الماضية، لم يدخر الأكاديميين وخبراء الاقتصاد، من المختصين والمشهود لهم بالوطنية والكفاءة والنزاهة، جهدا في كسر حلقة التحديات التي تؤطر مسار الاقتصاد العراقي، من خلال تقديم الدراسات العلمية الرصينة ورصد الاختلالات الكامنة في بنية الاقتصاد الوطني والتحذير من مخاطر استفحالها، وتقديم رؤى وسياسات لتمكين الاقتصاد من اللحاق والنمو، بعيدا عن نموذج الانفاق التوزيعي الممول بالريع النفطي والاقتراض العام ومقايضة الدولار النفطي بالسلع المستوردة لإشباع الطلب المحلي المتنامي، لما خلفه هذا النموذج من هدر وضياع للثروة الوطنية وتحطيم واقصاء للطاقات الانتاجية الوطنية.
مع ذلك، كانت انظار وآذان معظم صناع القرار مصوبة باتجاه المؤسسات الدولية وما تبديه من نصح ومشورة، باعتبارها مشورة مستوردة تفوق المشورة الوطنية طعما وجودة وفائدة، تماما كبعض السلع الاجنبية في عيون المستهلك العراقي. وتمثل تلك الحقيقة أحد مظاهر واسباب التخلف في الاقتصادات الهابطة، ومنها العراق.
مؤخرا، أصدر صندوق النقد الدولي بيانا في ختام زيارة خبراءه الى العراق في 31 ايار 2023 حذر فيه من عواقب وتداعيات انحراف المالية العامة عن مسار الاستدامة المالية وتعريضه لمزيد من المخاطر والازمات المالية والاقتصادية والاجتماعية في الامد المتوسط والقريب.
حقيقة، جاء بيان صندوق النقد الدولي في الوقت المناسب وقبيل اقرار موازنة 2023 المثقلة بالأعباء والاختلالات والمخاطر. وهو ما يضع مسؤولية مضاعفة على الحكومة العراقية بأطرافها كافة، بضرورة الالتفات والانصات للتحذيرات الوطنية والدولية من عواقب دفع الاقتصاد العراقي الى حافية الهاوية المالية عبر اثقاله بأعباء وديون تفوق الامكانات الوطنية للبلد، فضلا على هدر الموارد المالية وتبديد فرص اللحاق والنمو الاقتصادي وتحميل الاجيال ارثا من الديون وخيبات الامل.
التحديات الكامنة والقادمة
حتى وقت قريب، حظي العراق بوفرة مالية جيدة نتيجة تحليق اسعار النفط الى قرابة 120 دولار للبرميل نتيجة العوامل الجيوسياسية التي حكمت اسواق النفط عام 2022. فقد فاقت الفوائض المالية 23 ترليون دينار، (قرابة 7% من الناتج المحلي الاجمالي)، في حين تعدت الفوائض الخارجية في ميزان المدفوعات (17% من الناتج المحلي الاجمالي)، مما انعكس في تضاعف احتياطي البنك المركزي ليصل الى قرابة (112 ترليون دينار) عام 2023 مقارنة بـ (62 ترليون دينار) عام 2021.
مع ذلك، لم تحسن الحكومة التصرف بالوفرة المالية المتحققة عبر الشروع بخطوات جادة لتفعيل الجهد الاستثماري الحكومي وتنويع الاقتصاد العراقي والحد من انكشاف الاقتصاد والموازنة على تقلبات اسعار النفط العالمية. بدلا من ذلك، تم اثقال موازنة 2023 بأعباء مرهقة أبرزها مضاعفة الترهل الحكومي القائم بإضافة قرابة مليون وظيفة للقطاع العام المتخم بالبطالة المقنعة وضعف الإنتاجية والعوائد.
ويثير بيان الصندوق مخاوف الخبراء في عدة نقاط مركزية اهمها:
1- مخاطر توسع الانفاق العام على تنامي معدلات التضخم في الامد القصير، وتعريض استقرار الاقتصاد الكلي الى مخاطر كبيرة في الامد المتوسط.
2- تأثر نمو الاقتصاد العراقي بالتقلبات التي تشهدها اسواق النفط العالمية وانخفاض حجم الإنتاج النفطي. فقد تباطئ نمو الاقتصاد العراقي مؤخرا، ويتوقع ان ينكَمش الناتج المحلي الاجمالي بقرابة 5% عام 2023 في ضوء قرار تحالف أوبك+ بخفض حجم الإنتاج النفطي، وانقطاع صادرات النفط الشمالية.
3- كان لتقلبات اسواق الصرف عقب تطبيق البنك المركزي العراقي لضوابط الامتثال والرقابة والتدقيق على مبيعات الدولار أثراً سلبياً على القطاعات غير النفطية القائمة على الاستيراد. حيث تشير التقديرات إلى حدوث انكماش في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي غير النفطي بنسبة 9% (على أساس سنوي مقارَن) خلال الربع الأخير من العام 2022، مما ألغى ما حقّقه العراق من نمو اقتصادي مؤخرا.
4- نتيجة لعدم استقرار اسعار صرف الدولار في الاسواق المحلية بلغت معدلات التضخم قرابة 7% حتى شهر كانون الثاني، تلا ذلك تراجع طفيف في معدلات التضخم نتيجة خفض سعر صرف الدولار بقرابة 10%، ويتوقع الصندوق ان يبلغ معدل التضخم 5.6% في المتوسط خلال عام 2023.
5- يؤدي التوسع الكبير في المالية العامة الى زيادة العجز الأولي غير النفطي (حاصل قسمة الايرادات غير النفطية مطروحا منها الانفاق الكلي على الناتج المحلي الاجمالي غير النفطي). ورغم الخطط الحكومية لتقليص العجز الاولي من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي الى سالب (20%)، لكنه استمر بالارتفاع ليبلغ سالب (57%) عام 2021، وسالب (67%) عام 2022، ويتوقع الصندوق ان يقفز العجز الاولي غير النفطي الى سالب (75%) من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي عام 2023 اذا ما مررت الموازنة بحجمها الحالي. ولا يتوقع تراجع هذه النسبة قريبا مع استمرار انخفاض مساهمة الايرادات غير النفطية في الناتج المحلي الاجمالي وتنامي حصة النفط في الناتج المحلي الاجمالي على حساب بقية القطاعات والانشطة الاقتصادية.
6- على المدى القصير، يرى خبراء الصندوق ان الاتجاهات التوسعية للمالية العامة ستدفع معدلات التضخم صوب الارتفاع، مع استمرار تقلب اسعار الصرف في الاسواق المحلية.
7- على المدى المتوسط، يرى خبراء الصندوق إن استمرار العمل بالسياسات الاقتصادية الجارية في ظل قدر كبير من عدم اليقين بشأن مسار أسعار النفط مستقبلا، يفرض مخاطر بالغة على استقرار الاقتصاد الكلي. وباستثناء تحسن أسعار النفط بشكل كبير، فإن موقف المالية العامة الحالي يمكن أن يؤدي إلى تصاعد العجز والديون، وتشديد الضغوط المالية والنقدية في السنوات القادمة.
الاجراءات المطلوبة
قدم بيان خبراء صندوق النقد الدولي جملة من السياسات اللازمة لتفادي تأزم الوضع المالي وتعزيز السلامة المالية للاقتصاد العراقي، وهي مكررة، في كافة مذكرات الصندوق، ومطروحة سابقا من لدن اقتصاديين عراقيين بالتفصيل في دراسات وبحوث ومذكرات رسمية. واهم تلك السياسات كانت:
1- يعتبر ضبط المالية العامة والإصلاحات الهيكلية واسعة المدى عوامل بالغة الأهمية للحد من مواطن الضعف في الاقتصاد العراقي، وتعزيز صموده في مواجهة الأزمات، وتحقيق النمو المستدام والأكثر شمولا للجميع.
2- هناك حاجةٌ إلى وضع سياسة مالية أكثر تشديدا، لأجل تعزيز صمود الاقتصاد والحد من اعتماد الحكومة على الإيرادات النفطية، مع الحفاظ على احتياجات الإنفاق الاجتماعي الملحة. حيث تتضمن الأولويات الرئيسية تنويع إيرادات المالية العامة، وخفض الفاتورة الضخمة لأجور موظفي الحكومة، وإصلاح نظام المعاشات التقاعدية لجعله سليم ماليا وأكثر شمولًا للجميع.
3- دعم خطة الحكومة الرامية إلى زيادة حجم المساعدات الاجتماعية، مع ضرورة حصر الاستهداف، لضمان توجيه المساعدات إلى المواطنين الأشد ضعفا، بشكل نوعي يناسب احتياجاتهم وتحسين مستواهم المعيشي.
4- شددت بعثة صندوق النقد الدولي على الحذر من إنشاء صناديق جديدة خارج إطار الموازنة، ممّا يثير القلق بشأن الحوكمة والكفاءة، وتوصي البعثة بشدة على الالتزام بأن تكون جميع النفقات الحكومية منبثقة من خلال الموازنة العامة حصرا.
5- ضرورة تسريع الجهود الهادفة إلى تأسيس حساب الخزينة الموحد بهدف تعزيز إدارة المالية العامة والحد من عمليات الهدر والفساد التي طالت الاموال العامة منذ سنوات وحتى الان.
6- ضرورة تمكين القطاع الخاص عبر توفير بيئة اعمال ملائمة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام واكثر شمولا للجميع. وتتضمن الأولويات في هذا المجال استمرار جهود تعزيز الحوكمة والحدّ من الفساد، وإعادة هيكلة المصارف الكبيرة المملوكة للدولة لتحسين الوصول إلى التمويل، وإصلاح سوق العمل بهدف تعزيز خلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص، وتحسين قدرة قطاع الكهرباء على استرداد التكاليف لتعزيز قدرته على تلبية الطلب بطريقة مستدامة.
اضف تعليق