لم يكن السفر وحده هو الذي شهد زيادة مطردة مع مطلع القرن التاسع عشر. فقد حققت سرعة الاتصالات قفزات مماثلة. ومن الصعب اليوم - في عصر الأقمار الاصطناعية والكيبلات تحت البحرية التي تربط كل أنحاء الكوكب في حالة اتصال دائم - أن نتصور بطء انتشارالأخبار في قرن الثامن عشر.لقد اندلعت معركتا ليكسينغتون وكونكورد- اللتان أطلقتا شرارة الثورة الأمريكيه- يوم الأربعاء 19 أبريل 1775.لكن أنباء المعارك لم تصل نيويورك إلا في يوم الأحد 23 أبريل،ولم تبلغ فيلادلفيا إلافي اليوم التالي 24 أبريل.وفي وقت متأخر من ليلة 28 أبريل نقل فارس البريد السريع الخبر لويليامسبرغ في فرجينيا.وفي 28 مايو،بعد انقطاع خمسة أسابيع ونصف الأسبوع،تناهى إلى علم مجلس الوزراء البريطاني في لندن خبر مروع هو اشتعال الأزمه الكامنة تحت الرماد في أمريكا حربا مفتوحه.كانت ثمه طرق لنقل الأخبار على النحو أسرع من نقلها على متن الجياد.لكن تلك الطرق لم تكن قابلة للتطبيق عموما.ذلك أن الملكة إليزابيث الأولى أمرت بنصب نيران في الهواء الطلق على طول الساحل الجنوبي لإنجلترا لاستخدامها كاءشارة لدى تبين أثر الأسطول الإسباني.وفي نهاية القرن الثامن عشر نصب الفرنسي كلاود تشابي سلسلة من محطات الإشارة (الملوّحات)عبر البر الفرنسي مزودة بأسلحة كانت ترفع وتخفض بالبكرات وتتبادل الإشارة بينها بالأعلام ـ على غرار مايفعل الكشافة بالملاحة ـ وتنقل في ساعات رسائل ربما استغرق نقلها على متن الجياد أياما.
التلغراف
هو نظام أطلقه عليه الفرنسي تشابي اسم التلغراف أي المراسلة من بعد – على نطاق واسع،لكن استخدامه لم يشع في الولايات المتحدة الناشئة حديثا.واحد من هذه الأنظمة وضع بين منطقتي مارثافين يارد وبوسطن في العام 18..،ولكن في معظم الأحوال كانت المسافات شاسعة والتمويل المتوفر محدودا جدا.كانت الحاجة إلى الاتصالات في الولايات المتحدة ملحة جدا،كما كانت عليه الحال في أوربا،ومع ذلك فقد طرقت خيارات أقل تكلفة.ففي العقد الثالث من القرن التاسع عشر كان ثمة رجل يصعد كل يوم عمل إلى قمة قبة بورصة التجارة في وول ستريت،حيث كانت تعقد مناقصات بورصة نيويورك ومجلس البورصة،وهناك كان هذا الرجل يبرق أسعار افتتاح التداول إلى رجل آخر في المدينة جيرسي عبر نهر هدسون. ويرسل ذلك الأخير إشاره مقابلة إلى رجل آخر على الهضبة أو البرج التاليين . وهكذا كانت الأسعار تصل إلى فيلادلفيا في نحو ثلاثين دقيقه . كان هذا النظام غير ناجع في أفضل صوره،ولم يؤد ما هو مقصود منه في الحالات الجوية السيئة .
كان حل مشكلة الاتصالات وشيكا. فقد كان معلوما منذ القرن الثامن عشرأن التيار الإلكتروني يمكن أن يتنقل مسافات بعيدة بالأسلاك،وإذا تسنى ابتكار وسيلة للتحكم بانتظام في شدة التيار فسيمكن نقل المعلومات عبر هذه التقنية . وجرى محاولات عدة للإفادة عن هذه الحقيقة . وفي العام 1774 ابتكر نظام في جنيف بسويسرا باستخدام سلك واحد لكل حرف من الأبجديه . وتشحن الكهرباء المارة في سلك كرة البلسان التي تجذب جرسا فتقرعه . هذه المصلصلة الأبجديه AIphabetical Carillon أدت دور وسيلة الإيضاح Demonstration Parlor لكنها كانت تعاني قصورا كبيرا في التطبيق العلمي .
ولم تبدأ رحلة ابتكار التلغراف (البراق)الكهربائي فعلا حتى أمكن زيادة فعالية المدخرات(البطاريات)والمغناطيس الكهربائي (الكهرطيس)في مطلع القرن التاسع عشر وانخفضت تكاليف الأسلاك بفضل الآلات الجديدة المصنعة للأسلاك.
صمويل مورس
خرج مورس بنظام لاقى قبولا عاما على مستوى العالم وهوابن جيديديا مورس،وزير وكاتب من نيوإنغلاند ـ في مجال الفن. لكنه بموهبته المحدودة في رسم الوجوه (البورتريهات)،صب جل اهتمامه على رسم اللوحات الكبيرة و(الفارقة)التي لم تكن موهبته فيها-مع ذلك-إلاموهبة عابرة في أفضل الحالات.
ولأنه لم يكن ثمة من يقصده طالبا فنه،بأنه بات يعاني طوال وقت الفراغ،فانكب على التفكير في الكهرباء بعد أنالتقى،على متن إحدى السفن،تشارلزجاكسون الذي كان يجري أبحاثا في هذا الحقل في أوربا. وسريعا ثارت في مخيلة مورس فكرة التلغراف. إذ قال حينها : إذا أمكن إظهار أثر الكهرباء في أي جزء من الدارة فأنا لا أرى مايمنع نقل المعلومات آنيا باستخدام الكهرباء.
لقد بدا أن مورس – الذي كان يجهل التقنية أللازمة لتنفيذ تلك الفكرة وحتى خلفيتها العلمية – اعتقد أنه صاحب الفضل في الابتكار ولم أن هذه الفكرة إنما ظهرت قبل ثمانين عاما. إن الفضل الوحيد الذي يمكن أن يعزى لمورس في نظام التلغراف هو شيفرته عالية الكفاءة التي تعطي النقاط والقاطعات (*)وفق تواتر الحروف باللغه الإنجليزية(إذ كان يرمز للحروف E بنقطة واحدة .أما الحرف X فقد أعطى الرمز(-..-).
وبمساعدة من واحد من العلماء الأمريكيين البارزين – جوزيف هنري،وكان أستاذا في جامعة برنستون (ومن ثم أول مدير لؤسسة سميثسونيان Smithsonia) صنع مورس أول نموذج عملي للتلغراف في قاعة في جامعة نيويورك.كان هذا النموذج مكونا من مدخرات وألف وسبعمائة قدم من الأسلاك الملفوفة في وشيعة حول القاعة،موصلة بكهرطيسات ومفاتيح في نهايتيها. وعند الظغط على المفتاح عند أحدالطرفين،تغلق الدارة ما يسمح للكهرباء بالانتقال عبر السلك وتفعيل المغناطيس في الناحية المقابلة فينضغط ذلك المفتاح نتيجة لذلك.
جي سميث
جي سميث (الذي عرف بين أصدقائه باسم فوغ )، وكان ذلك لأن سميث ماكان فقط عضوا في الكونجرس وإنما رئيس لجنة الأبيض لشؤون التجارة أيضا.
وفي العام1843 نجح في الحصول على 3. ألف دولار خصصها له الكونجرس بعد أن أدرجه في مشروع قانون قبل أن ترفع جلسة كثر فيها اللغط والتجاذبات الكلامية.ومن ثم منحح نفسه عقد إنشاء خط التلغراف الذي يصل واشنطن ببالتيمور، وأنفق معظم المال في شراء أسلاك رديئة الصنعة وأعمال دفن الأسلاك. واستهل العمل بالمشروع مجددا،فمدت الأسلاك على أعمدة، وفي 24 مايو 1844 بعث صموئيل مورس من ميني الكابيتول رسالة مشفرة نصها ذلك صنع الله !(What hath god wrought).وكررألفريد فيل في بالتيمور الرسالة نفسها بحذافيرها.
وحالما تأكدت الفائدة العلمية للتلغراف شاع استخدامه بسرعة باهرة. ومع نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر كانت كل المدن الأمريكية تقريبا متصلة بعضها ببعض بوساطة التلغراف.ووصل خط التلغراف سان فرانسيسكو في العام 1861.وعم التلغراف في القارة في أقل من عقدين من الزمن من رسالة مورس الشهيرة.وفي العام 1866 نجح سيرس فيلد أخيرا في مد كيبل عبر المحيط الأطلسي يربط أوربا وأمريكا باتصال فوري مباشر.وانقضى زمن عزلة أمريكا عن قلب العالم الغربي بعد ماينوف على 25. عاما.
وعندما توفي مورس في العام 1872- وقد ذاعت شهرته وحقق ثروة كبيرة – كان يمكن بعث رسالة تلغراف من سان فرانسيسكو إلى الهند في بضع ساعات. وقد كان إيصال هذه الرسالة يستغرق،في العام 1844ستة أشهر.
ويعود أحد أسباب انتشار التلغراف السريع جدا إلى إمكان استخدام خطوط السكك الحديد التي شهدت انتشار سريعا أيضا. وساهم التلغراف بدوره كثيرا في زيادة كفاءة السكك الحديد. لقد كانت أكثر خطوط التلغراف الأولى وحيدة الاتجاه.
بينيت
ولد في العام 1795 لإحدى العائلات الكاثوليكية القلائل في إسكتلندا-شخصا مميزا يتمتع بموهبة العمل الصحافي.وكان أيضا رجلا دميما جدا ذا عينين حولاوين. وعندما أجرى معه أحد الصحفيين لقاء في خمسينيات القرن التاسع عشر في مكتبه،المقابل لستي هول في نيويورك،ذكر أن بينيت:نظر إلي بعين واحدة ونظر بالأخرى إلى ستي هول.
لقد دارت أولى مقالاته الصحفية حول معركة واترلو، وكان حينها في سن العشرين،وقد حصل على قسط جيد من التعليم في أبردين- وبعد أربع سنوات هاجر إلى الولايات المتحدة بعد أن تبينت له الفرص الكبيرة المتاحة هناك. وعمل في عدد من الصحف بين بوسطن وتشارلستون قبل أن يستقر به المطاف في نيويورك حيث بذل ثلاث محاولات لتأسيس صحيفة تدافع عن مبادىء جاكسون. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل.
وكان البخار في هذه الأثناء يغير أيضا وجه قطاع الصحافة كغيره من كل نواحي الحياة الأخرى التي أصابتها يد التغيير في العقد الثالث من القرن التاسع عشر. فلقد استطاعت المطابع الدوارة الجديدة- وقد عملت بقوة البخار- أن تنتج آلاف النسخ من الصحيفة في الليلة الواحدة وبسعر أقل كثيرا من قبل. وارتأى بينيت أن يجرب شيئا جديدا. فشرع في 6مايو 1835- وكان لا يملك سوى رأسمال من 5.. دولار وقبو رطب وقوة عمله فقط- بنشر صحيفة نيويورك هيرالد New York Herald.
ونأى بهذه الصحيفة عن التحيز إلى أي حزب من الأحزاب في مقالاتها، وسعى إلى جعلها صحيفة رائدة في تقديم الخبر، وقد نجح في تسويقها إلى أعداد غفيرة من القراء وذلك بالمناداة عليها في الشوارع بثمن قدره سنت واحد للنسخة،وذلك على يد جيش من باعة الصحف المتجولين Newsbys،وسيصبح ذلك خاصة مميزة لحياة المدن الأمريكية في الأعوام المائة المقبلة. ولم يكن بينيت هو من أبدع هذه الأفكار في الأصل. لكنه كان أول من حشدها معا وأفاد منها.
الكريسماس
عيد الميلاد عطلة تتجاوز طابعها الديني في هذا البلد.ذلك أن أكثر البروتستانت الأمريكيين (من غير الأنغليكا نيين)لم يعرفوا الاحتفال بعيد الميلاد أيام المستعمرات. ولكن مع الحراك الجديد الذي أدى إلى احتكاك العائلات البرو تستانتية مع العائلات التي دأبت على الاحتفال بعيد الميلاد فقد بدأت كثير من الأسر الاحتفال بهذا اليوم بدافع من رغبة أطفالهم بذلك. وشرع الكتاب- من أمثال النيويوركي كلمنت كلارك مور(صاحب كتاب زيارة القديس نيقولا،واتفق أن كان القديس الرعائي لمدينة نيويورك، وقد نشره أول مرة في العام 1823)وتشارلز ديكنز بالاحتفال بالجوانب غير الدينية لعيد الميلاد(كشجرة الميلاد،وقد جلبها إلى العالم الناطق بالإنجليزية الأمير ألبرت، ولاقت شيوعا منذ ذلك الحين)، كما ركز التجار- وهذا ديدنهم- جل اهتمامهم على العادة القديمة التي تمثلت في تبادل الهدايا في ذلك الوقت من السنة.
وفي منتصف القرن بدأ عيد الميلاد يتحول إلى أهم العطلات غير الدينية- كحاله اليوم- ليكون أعظم محفزات تجارة التجزئة ونموها.
المدخنة
في أوج القرون الوسطى. كانت المواقد وسيلة التدفئة المستخدمة في المنازل حتى عشرينيات القرن التاسع عشر، وكانت الشموع تستخدم في الإنارة ليلا. وكانت المياه تنضح بالدلاء من الآبار أو الينابيع أو الأحواض، أما الطهو فكان يتم على مواقد مفتوحة.
وفي العقد العاشر من القرن الثامن عشر وجد بريطاني يدعى ويليام مردوك أن الفحم بعد أن يسخن يعطي غازا يطلق باحتراقه لهبا أصفر فاقعا. وظهر مصباح الغاز في فيلادلفيا في العام 1796. وأصدرت بالتيمور تعميما في العام 1816 يشجع على استخدام مصباح الغاز في إنارة الشوارع، وعمت الفكرة سريعا المدن الأمريكية الأخرى. وفي العقد الرابع من القرن التاسع عشر أنيرت الشوارع والطرقات الرئيسة في المدن الأمريكية بفضل شبكة من الأنابيب الممدودة تحت الأرض، والتي وفرت الغاز من محطات الغاز المحلية. ومع بدء انقشاع الظلام الدامس الذي غرقت فيه المدن، شرعت النشاطات الليلية في الانتشار كثيرا في المدن.
نهركروتون
كانت فيلالفيا أول مدينة تنشئ خزانا حديثا للمياه أمكن توصيله عبر أنابيب إلى المنازل وتصريف المياه القذرة عبر قنوات الصرف الصحي.وفي العام 1832 زودت بهذا النظام أول أنواع المنازل المزودة بحمامات.أما نيويورك-وهي محاطة بمياه البحر-فكانت تعاني مشكلة تكنولوجية أشد.ومع ذلك فقد دشنت نظام كروتون في4يوليو1842بعد إنشاء قناطر مائية بطول خمسة وأربعين ميلا لجر المياه من نهر كروتون في إقليم ويستشستر.
كان فيليب هون مشدوها.فكتب بعد شهور عدة في مذكراته أن"ليس من حديث يشغل التفكير في نيويورك إلانهر كروتون.فالنوافير والقناطر المائية والصنابير وخراطيم المياه تشد انتباهنا وتعيق سيرنا في الشورارع.الماء!الماء!هو الكلمة الشائعة التي تتردد في كل أنحاء المدينة.وتطلق في الحشود شعورا من السعادة والابتهاج".
وقد اعترى جورج تيمبلون شرونغ شعور بالحماس عندما أوصل والده مياه نهر كروتون إلى منزله في شارع غرينتش في عام 1843.ولم يعد الاستحمام يتطلب تسخين الماء على موقد وصبه في حوض الحمام الذي يبلغ الخصر طولا,والذي كان يوضع في المطبخ لهذا الغرض.فكتب تغمره السعادة في مفكرته:"لقد عشت حياة كائن برمائي في الاسبوع المنصرم"..
"فكنت أخفق في حوض الاستحمام كل الليلة وأخرج باكتشافات جديدة في فن الاستحمام وأسراره".وكان الاستحمام"بالدش"(المشن)رأسا على عقب أحدث تلك الفنون.
أما بوسطن، التي كانت تحرص على قطع السبيل على الناس بالانغماس في هذه المتع يوم العطلة الدينية،فقد حظرت الاستحمام في أيام الآحاد.
وقبل مطلع القرن التاسع عشر قلما كان الناس في الولايات المتحدة –وحتى أولئك الذين عرف عنهم ولعهم بالترحال-يمضون أبعد من خمسين ميلا عن مسقط رأسهم،وهم إن فعلوا فإنهم ما كانوا يعودون إلى مسقط رأسهم ثانية.
وحينذاك،وفي أقل من جيل واحد أصبح ممكنا السفر مئات الأميال في اليوم وتسلم مكالمات فورية من قوم على مبعدة ألف ميل، وقراءة أخبار مايجري من أحداث، حول العالم.لقد صار متيسرا الحصول على الماء الساخن من الصنبور، والهواء الدافئ في الليالي الباردة،وقراءة كتاب في الليل من دون ألم في العيون. هذه المعجزات تحققت في حياة البشر اليومية وبدأت تتراكم بعضها فوق بعض في العقود الأولى من القرن التاسع عشر-السكك الحديد والتلغراف والصحف والتدافئة والأنارة والماء الجاري-وأشاعت حسا من التفاؤل والإيمان بالتقدم البشري لم يشعر به أحد من قبل. إن كل شئ صار ممكنا طبع ما سيعرف في ما بعد بالعصر الفيكتوري في عموم العالم الغربي.لكن في الولايات المتحدة التي كانت لاتزال آنذاك في طور التشكل،وبفضل نموها الاقتصادي الذي فاق سرعة النمو الاقتصادي في أي من بلدان العالم المتقدم، فإن هذا الشعور كان في أسمى صوره، ولم نفقد هذا الشعور إطلاقا،حتى في أحلك الظروف التي يخبئها المستقبل.
اضف تعليق