q

يعرف التقشف بمجموعة من السياسات التي تسعى الى تخفيض العجز في الموازنات الحكومية من خلال تقليص الانفاق او جمع عائدات ضريبية اكثر او مزيج من الامرين، وبرزت تدابير في السنوات الاخيرة وبخاصة منذ بدأ ازمة الائتمان العالمية في العام 2008- والتي يقول كثيرون انها بدأت في العام 2007- في الولايات المتحدة الامريكية ثم انتشرت في مختلف انحاء العالم.

لكن اغلبية التغطيات الاعلامية والمواقف الرسمية المبررة للتقشف تنسى ان المشكلة بدأت في القطاع الخاص- تحديداً القطاع المالي الامريكي ثم القطاعات المالية في دول اخرى- وهي لم ترهق الموازنات العامة الا حين قررت حكومات كثيرة ضخ اموال في المؤسسات المالية المتعثرة بهدف انقاذها، ويمكن هنا استثناء اليونان التي اسرفت في الانفاق العام فوقعت في ازمتها التي لم تنتهي بعد، علماً ان تبنيها اليورو العملة الاوربية الموحدة ساهمة في ايقاعها في فخاخ كثيرة.

يعرض مارك بليث، الاقتصادي المولود في اسكتلندا والذي يعمل استاذاً في جامعة براون الامريكية، ابرز محطات التقشف خلال الازمة الاخيرة وينقب التاريخ النظري للعلوم الاقتصادية بحثاُ عنما يؤيد التقشف او يفنده ليخلص الى ان التقشف فكرة سيئة تفاقم الصعاب، وهي ان مكنت حكومات من ترتيب اوضاعها المالية العامة في حالات قليلة، فالثمن الاجتماعي كبير وكذلك الاثمان الاقتصادية.

ويشدد على ان الحل هو معاقبة القطاعات المالية المذنبة وترك مؤسساتها تفلس، بينما المخرج برأييه من الركود في الاقتصادات الوطنية هو في مزيد من الانفاق الحكومي ولو لقاء طبع اوراق مالية اضافية ومراكمة مزيد من الديون، واذ لايمكن فعل اي من الامرين في منطقة اليورو حيث طباعة المال بيد المصرف المركزي الاوربي والاستدانة دونها عقبات، فأنه يلمح الى وجوب فرط عقدة المنطقة بعدما اتضحت كثرة مشاكلها وقلة منافعها، وهو يقدم اراء متينة ومقنعة، مدعومة بمصادر غزيرة جلها من الادبيات السائدة في علم الاقتصاد.

الهاوية المالية

ففي ضوء شد الحبال بين الادارة الديمقراطية للرئيس الامريكي باراك اوباما والكونغرس الذي كان يملك الجمهوريون اغلبية مقاعد غرفته السفلى (مجلس النواب)، كادت البلاد تقع فيما يسمى الهاوية المالية، ففي 1 يناير 2013 وهو يوم عطلة رأس السنة الميلادية اقرة مجلس النواب قانون صادراً عن الغرفة العليا (مجلس الشيوخ) ذات الغالبية الديمقراطية، ونص القانون على منع فرض ضرائب جديدة على المدخول، كما كان الجمهوريون يرغبون لكن من دون ان ينص على تخفيضات في الانفاق العام كان يعارضها الديمقراطيون.

وما لبث الخلاف ان تجدد حول سقف الدين الى ان اصدر الرئيس الجمهوي لمجلس النواب جون بونر في 11 فبراير 2014، قانون جمد السقف حتى 15 مارس 2015، مااثار ثائرة الجمهوريين عليه، خصوصاً ان القانون لم يجمد العمل ببرنامج الضمان الصحي الشامل الاثير على قلب اوباما كما كانوا يطلبون.

رزم الانقاذ في اليونان

وفي اليونان، تتجدد الازمة مع كل رزمة انقاذ تطلبها البلاد من دائنيها، ففي العام 2009 انفجرت ازمة الديون السيادية، وثمة دور ملتبس ادته وكالات التصنيف الدولية في تسريع اتجار المشكلة، ودفع الدائنون- الترويكا المؤلفة بين المفوضية الاوربية والمصرف المركزي الاوربي وصندوق النقد الدولي- رزمتي انقاذ في مقابل شروط تقشف صعبة قبلت بها اثينا مرغمة، ولدى طلبها الرزمة الثالثة في العام 2015 كادت اليونان تخرج من منطقة اليورو اذ رفض رئيس الوزراء الكسيس تسيبراس، زعيم حزب (سيريزا) اليساري الراديكالي المنتخب حديثاُ، الخضوع لشروط تقشف جديدة وما لبث ان خضع للشروط خوفاً من تداعيات التخلي عن العملة الموحدة، وانفرط عقد حزبه ما دفعه الى الدعوة الى انتخابات عامة مبكرة، وثمة وجهة نظر قوية لدى يانيس فاروفاكيس وزير المالية اليوناني السابق الذي ضحى به تسيبراس، في دعوته الى اسقاط جزء اساسي من ديون بلاده لتسهيل خروجها من دوامة طلب ديون جديدة لتسديد ديون قديمة فور استحقاقها.

وعلى الرغم من بذل الاوربيين جهود جبارة للتوصل الى اليات تنقذ الاتحاد الاوربي (28 دولة) ومنطقة اليورو (19 من اصل الــــ 28) مرة واحدة واخيرة، او تتجنب على الاقل تكرار الازمات العميقة، لايبدو ان الاليات المتفق عليها الى الان خصوصاً الالية الاوربية للاستقرار المقرة في 27 سبتمبر 2013، قابلة للعمل بشكل مستقل عن سيادة الدول الاعضاء، الامر الذي يهدد فاعليتها.

النزاع الروسي الاوكراني وتداعياته

ومنذ العام 2012 برزت ازمات اخرى، في 21 نوفمبر 2013 بدأ النزاع الغربي- الروسي على اوكرانيا، وبعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الاوكرانيا اليها في 18 مارس 2014 ودعمها حركة انفصالية مسلحة في شرق اوكرانيا، فرض الغرب على روسيا عقوبات اقتصادية، ماهبط بالنمو الاقتصادي الروسي الى مستويات متدنية خلال الفصول الاربعة للعام 2014، وتحول النمو الى انكماش في النصف الاول من 2015، وردت روسيا بعقوبا اقتصادية على الغرب، وان لم تكن تداعياتها شديدة كما في حالة العقوبات الغربية على روسيا، فهي تنذر بمزيد من الصعوبات للدول الغربية.

وفي صيف العام 2015 انهارت سوق الاسهم الصينية بعد قرار بكين تخفيض سعر صرف عملتها الايوان في مقابل الدولار دعماً لصادراتها التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي الصيني، ويخشى من وقوع الصين وهي ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة، في ازمة تنعكس سلباً على اقتصاد العالم باسره، ويبدوا ان الصين عرفت خطورة مافعلت، فهي وقعت في 3-4 سبتمبر 2015 بياناً مشتركاً مع مجموعة العشرين هي العضو في المجموعة، يحذر من التخفيض المفتعل لأسعار صرف العملات.

وعربياً، لابد من الاشارة الى القلق الذي يعم بلدانها من تراجع الاسعار العالمية للنفط لأكثر من 60% منذ يونيو 2014 على خلفية اصرار (منظمة البلدان المصدر للنفط اوبك) على عدم تحمل تبعات تقليص الانتاج لدعم الاسعار فيما المنتجون خارج المنظمة- روسيا والولايات المتحدة غير راغبين في اجراء تقليص مماثل لآنتاجهم، مع الاشارة الى ان الازمة الصينية تساهم في رفع الاسعار نزولاً، وموقف (اوبك) مفهوم، فهي لاترغب في خسارة حصصها في السوق لمصلحة المنتجين الاخرين . البيان الختامي لمجموعة العشرين

ودعا البيان الختامي لمجموعة العشرين الى الانتهاء للانفاق الانعاشي، تحت قناع شيء اسمه (ضبط المالية العامة الصديق للنمو)، وهذا اسلوب منمق لقول (التقشف)، ويذكر الكاتب انه قال في نفسه وقت اذ (ان احتمالات الامر كأحتمال وجود الحصان الاحادي القرن مزود بكيس من الملح السحري)، لذلك حين ناله فرصة تصوير الفيديو بدا انتقاد هذا الهراء المتعلق بــــ(التقشف المفضي الى النمو) الامر الواجب فعله.

يتمثل جزء من عمل الاكاديمين في توليد الافكار وفي التعليم، ويتمثل الجزء الاخر والاهم ربما في اداء دور (شرطة الهراء)، فوظيفتنا هي ان ننظر في الافكار والخطط التي تتقدم بها الجهات المهتمة لحل مشاكلنا الجماعية والتفكير فيما اذا كانت قابلة للنجاح في امتحان السلامة، ولا ينجح التقشف بأعتباره طريقاً الى النمو والاستجابة السليمة لتداعيات الازمة المالية في امتحان السلامة، ولاتنجح الاراء المقدمة لتعليل وجوب لجوئنا جميعاً الى التقشف في امتحان السلامة.

فكل من الاسباب المقدمة لتأيد الرأي القائل بضرورة ان نتقشف جميعا(لاننا بالغنا في الانفاق.... الخ) والحجج المعروضة دفاعاً عن النتائج الايجابية المفترضة لسياسات التقشف- اي ان التخفيضات تفضي الى نمو- هي عموماً هراء لكنها تبقي الافكار المهيمنة راهنه، يعود بعض السبب وراء ذلك الى موقف ايديولوجي، لكن بعض السبب وراء القوة الكبيرة لهذه الافكار يعود الى جذور مادية جداً، فالامر يتعلق بتحول الموقف من الازمة المصرفية من القول بان المصارف المتعثرة (اكبر من ان تترك لتنهار) في الولايات المتحدة الى القول بأنها (اكبر من ان تنقذ) في اوربا، وكيف يقودنا ذلك كله الى الطريق المفضية الى التقشف، ونحن في افضل الاحوال، لانزال ننقذ المصارف التي بدأنا في 2008، خصوصاً في اوربا.

اضف تعليق