قبل الركود الكبير الذي حصل في الولايات المتحدة في أوائل الثلاثينيات، كانت النظرية الاقتصادية السائدة تؤمن بقوى الشفاء الذاتية للسوق (آلية السوق او ما تعرف اليد الخفية للسوق)، وأن أي انحرافات تحدث في الناتج المحلي الاجمالي عما هو مخطط له فأنها تستمر لفترات قصيرة فقط. اذ إن الرؤية التحليلية كانت تشمل فترات قصيرة الأمد، وهكذا نرى أن النظرية الاقتصادية لم تكن بمقدورها إعطاء تفسيرات للبطالة في الأمد الطويل. ومع الثورة الكينزية بدأت الاهتمامات التحليلية تتجه نحو تحليل الفترات الزمنية القصيرة.

ومن هنا بدأت تظهر أهمية الطلب الاقتصادي الكلي، وعلى عكس الكلاسيكية الحديثة فإن النظرية الكينزية تنطلق من فكرة إمكانية حصول التوازن في ظل وجود قدر من البطالة، أي دون مستوى العمالة الكاملة، في حين أن التوزان وفق المنظور الكلاسيكي لا يحدث الا في حالة العمالة الكاملة (التشغيل او الاستخدام الكامل او الشامل)، أي عدم وجود حالة البطالة الاجبارية، وبعبارة أخرى أن الفكرة من ذلك وفقاً للكينزيين أنه قد توجد هناك موارد اقتصادية انتاجية معطلة وهي السبب وراء حدوث البطالة القسرية.

كما يرى الكينزيون أن من أسباب البطالة هو عدم تغير مستوى الأجور الخاصة بالعمال، وكانت تسمى في وقتهم بالأجور اللزجة او ما يعرف بجمود الاجور تصاعدياً، كما أن التقلبات الاقتصادية تنتج بسبب التوقعات المتفاوته حول العائد الحدي لرأس المال (ايراد اخر وحدة مستثمرة في النشاط الاقتصادي)، وبما أن السياسة النقدية من وجهة النظر الكينزية غير ذات تأثير، فعليه يجب أن يتم تحفيز الطلب الاقتصادي الكلي من خلال الانفاق الحكومي واتساع نشاط الحكومة الاقتصادي عبر القيام بالاستثمارات وتقدين المنح والاعفاءات الضريبية وتخفيض أسعار الفائدة ..الخ، وعبر آلية (مضاعف الاستثمار) أو ما يعرف بـ (المعجل)، من أجل الاقتراب من مستوى التشغيل الكامل.

الثورة النقدية المضادة

أهتزت وجهة النظر الكينزية في منتصف السبيعينات، بسبب عجز النظرية عن تفسير مشكلة حصول الكساد والتضخم في آن واحد التي تعرف بـ (الركود التضخمي)، وهذا ما أدى الى إحياء وجهة النظر الكلاسيكية الحديثة، فقد أكد (مليتون فريدمان) وهو أحد مؤسسي النظرية النقدية او النقودية، بأن تأثير السياسة النقدية بشكل خاص أقوى من تأثير السياسة المالية، وأبرز القيمة التي يجب أن تعطى للتوقعات في مجال تطور الأسعار في المستقبل، وتعود الفكرة الأساسية في تقلبات الوضع الاقتصادي الى ما أفترضه فريدمان، من أن عدد العاملين لا يعبر بشكل دقيق عن مستوى السعر السائد، اي لا يعطي معلومات كاملة ويمكن اعتباره نموذجاً خادعاً.

بينما يعلم أرباب العمل أسعارهم بشكل دقيق، اذ وبناءاً على عدم التكافؤ في المعلومات فإن الشركات تطلب عمالاً أكثر كلما ارتفعت الأسعار، لأن الأجر الحقيقي قد انخفض، أما العمال فيفسرون الأجور النقدية المرتفعة نتيجة الزيادة في الطلب على العمل كزيادة في الأجور الحقيقية، ويزداد بذلك عرض العمل، الا انهم سرعان ما أن يلاحظوا أن تصوراتهم عن الأسعار كانت خاطئة حتى يعيدوا النظر في ارآئهم.

الاقتصاد الكلاسيكي الحديث وعدم فعالية السياسة

كما هو الحال عند فريدمان نفترض أن هناك توازناً في السوق بين العرض والطلب وأن العاملين في المجال الاقتصادي لا يملكون الا معلومات غير كاملة، كما نفترض أن العاملين في السوق يمتلكون توقعات منطقية أي أن توقعاتهم تكون الأفضل في ظل المعلومات المحدودة، وهكذا تكتسب أخطاء التوقعات أهمية حاسمة في تفسير تقلبات الوضع الاقتصادي. ومعادلة النموذج المركزية هي عبارة عن دالة العرض الاقتصادي الكلي والتي تظهر فيها ردة فعل المخرجات(الناتج)، مقاساً كانحراف عن الناتج المتوقع، اذ تقود نسبة التضخم التي تكون اعلى من المتوقع الى زيادة في الناتج الفعلي عن الناتج المتوقع.

كذلك فأن التوقعات المنطقية تظهر ان التغيرات في الكتلة النقدية وبالتالي في تقلبات الاسعار لا تؤثر بشكل منتظم على تطور الناتج، لأن التأثيرات المتوقعة سبق ودخلت في حسابات العاملين في السوق، وهكذا نرى أن السياسة النقدية لا تملك قوة التأثير بشكل فعال على تثبيت مسار الوضع الاقتصادي، وللتعبير عن هذه العلاقة التأثيرية المتبادلة وُضع مصطلح (عدم فعالية السياسة).

الاقتصاد الكينزي الحديث

ينطلق هذا الاتجاه في التفكير من أن نماذج توازن السوق لا تستطيع تفسير تقلبات الوضع الاقتصادي وتتجه عوضاً عن ذلك الى أن تكون الاسعار والاجور النقدية جامدة لفترات قصيرة من الزمن، وقد ظهرت في السنوات الماضية عدة تفسيرات اقتصادية جزئية لذلك، وتبعاً لهذه الافتراضات فأن المنحنى البياني للعرض الكلي قصير الأمد لا يسير بشكل رأسي كما هو الحال في النموذج الكلاسيكي، ولذلك فأن الطلب الاجمالي يكتسب أهمية حاسمة في تحديد الناتج المحلي الاجمالي، والدليل على عدم تكيف الاسعار والأجور بسرعة يتمثل في التكاليف التي يسببها هذا التكيف، وهكذا نجد أن الأجور والأسعار لا تتغير الا بين فترة وفترة لتتكيف مع الوضع الاقتصادي. وهناك ثلاثة عناصر لمنظور الكينزيين الجدد وكلها تؤدي إلى مدلول واحد

وهي:

- إن الحكومة يجب أن تكون مستعدة لاتخاذ دور نشط في تحقيق الاستقرار الاقتصادي .

- إن الاقتصاد الخاص لا يتوقع منه تحقيق التوظف الكامل ، ذلك لأن التغيرات في توقعات الأعمال ينتج عنها تذبذبات عدم استقرار في الاستثمارات .

- وإن قوى التصحيح الذاتي ضعيفة وبطيئة، فعدم كمال السوق يؤدي إلى تخفيض مرونة الأسعار ويضعف قوى التصحيح الذاتي ، ولو ترك الاقتصاديون فإنه قد يحقق الاستعادة مؤخرا، ولكن خطوات الاستعادة سوف تأخذ وقتا طويلا بحيث أنها تصبح غير مقبولة اجتماعيا وسياسيا.

- إن الادارة النشطة للطلب ضرورية ، فعلى الرغم من أن السياسات الحكومية لم تكن ناجحة دائما في الماضي ، فإن نماذج أفضل وإحصاءات أدق إنما تعني أن السياسات يجب ان تكون أكثر نجاحا في المستقبل حيث ينبغي أن يكون صانعو السياسات مستعدين للتدخل حينما يظهر الاقتصاد علامات الانكماش والتراجع Recession .

إن وجهات النظر السابقة هي نتاج عدد من الفروض التي وضعها الكينزيون عن العمل الداخلي للاقتصاد، وهي:

اولا : يعتقد الكينزيون الجدد أن الثقة رجال الاعمال وبين المستهلكين من الممكن أن تكون متغيرة ، وبالتالي فإن الانفاق من المنتظر أن يكون متقلبا ، وهذا مصدر أولي لعدم الاستقرار .

ثانيا : إن الكينزيين الجدد يعطون عقود العمل أهمية وعادة يفترضون التوقعات التكيفية Adaptive Expectations فالعقود والتوقعات التكيفية تؤدي إلى إبطاء سرعة مواءمة أو (تكيف) الأسعار والاجور ، فعندما تكون مواءمة الأسعار والأجور بطيئة تكون هاك استجابة من جانب الناتج والتوظف للسياسات والصدمات Shocks.

اضف تعليق