لدى القيام بعملية التحليل العلمي الدقيق للنصوص ـ والمراد بها الأعم من النص المكتوب أو الملفوظ، أو حتى الإشارة والعلامة ـ نجد أن (النص) على أقسام:
أولاً: مرآة الواقع
فقد يكون مرآة للواقع والثبوت، وعالم الخارج، بل مطلق عالم نفس الأمر الأعم من الخارج.
(1): ليشمل مثل (الترجح بلا مرجح محال) أو (شريك الباري مستحيل) مما لا وجود خارجاً، لا لموضوعه ولا لمحموله، ولا للنسبة؛ لتقومهما بالطرفين.
(2): وليشمل الحكاية عن ما موطنه الذهن اتصافاً وعروضاً كالمعقولات الثانية المنطقية.
(3): وليشمل الحكاية عما موطنه الخارج اتصافاً، والذهن عروضاً كالمعقولات الثانية الفلسفية.
(4): وليشمل ما حكى عن ما في الذهن، وإن أمكن وجوده في الخارج، كما لو حكى عما تخيله أو توهمه أو فكر فيه.
ثم إن لهذه الحكاية حيثيتين: الأولى: حكايتها عن المحكي والمدلول، وهو ذلك الذي حدث في عالم قوته المتخيلة أو المتوهمة أو المتعقلة، أو ذلك الذي حدث في عالم الخارج، الثانية: ـ وهي مورد كلام الهِرمينوطيقي: حكايتها عن حالاته النفسية الآن وهو يحكي، وحكايتها عن قبلياته الفكرية والمعرفية التي أدت لحكايته عن توهماته أو أفكاره أو الخارج والتي كانت وراء صدور النص.
وبتعبير آخر: إن (النص) قد تكون الغاية منه هي إراءة (الواقع) و(المرئي بالعرض)(1) و(الحقيقة) فقط، وقد تكون الغاية منه غير ذلك، كبعض الأقسام الآتية، والقسم الأول من (النصوص) هو (المطلوب) في (العلوم) وهو (الهدف) والمستهدف؛ إذ المحور في (العلوم) هو (الحقائق) وأما (الألفاظ) فهي جسور تلك المعاني، ولا يهم ـ عادة ـ قصد المؤلف وتصوراته؛ وإلى ذلك ترمز الحكمة الشهيرة (لا تنظر إلى مَن قال، بل انظر إلى ما قيل).
وهذا (النص) بدوره ينقسم إلى أقسام لدى ملاحظته كمرآة:
1: فقد يلاحظه المفكر أو المؤلف أو المتكلم كمرآة للواقع إلا أنه يخفق في سعيه لجعله مرآة للواقع والحقيقة، كما في معادلة (الجهل المركب).(2)
2: وقد يلاحظه المفكر أو المؤلف أو المتكلم مرآة للواقع، ويكون كذلك في نفس الأمر وصقع الخارج.
3: وقد يلاحظه مرآة للواقع، ويكون في أصله كذلك، دون خصوصياته، أو بعضها، أو يكون في جانب أو جوانب مطابقاً دون أخرى.
ثانيا: مرآة المؤلف
وقد يكون (النص) مرآة عاكسة لما يعتمل في ذهن الكاتب أو يدور في ذهن المتكلم، ولسائر مسبقاته الفكرية أو خلفياته النفسية، بأن يكون مرآة لعالمه الداخلي وحالاته وخصوصياته الفكرية والنفسية فقط، فيقطع الباحث المحلّل، النظرَ عن الواقع ومداليل النصوص ومضامينها ليسبح في محيط أفق الكاتب الداخلي لا غير، فإن المفسر أو القارئ (قد يقرأ) تلك النصوص (الشعرية والتخيلية أو حتى العلمية) بقصد أن يغوص في أعماق (المؤلف) ويستكشف دفائن نفسه، وذبذبات ضميره، وتقلبات مزاجه، وهذا هو المجال الذي تخصص فيه علم (النفس اللساني) و(علم اجتماع اللسانيات).
ثم إن هذا ينقسم ـ كسابقه ـ إلى العلم المطابق والجهل المركب اللا مطابق؛ فقد يكون (النص) المتخذ مرآة لما يدور في داخل النفس والذهن، مطابقاً لما فيه، وقد لا يكون.
ثالثا: مرآة الواقع والمؤلف
وقد يكون النص مرآة للواقع والحقيقة، وللمؤلف أو المتكلم معاً في الوقت نفسه.
ثم إن النص بعد ذلك على أقسام كثيرة: فقد يطابق الواقع والمؤلف معاً، وقد يطابق أحدهما(3)، وقد يخالفهما معاً، وقد يكون أقرب لأحدهما من الآخر(4)، على درجات القرب والبُعد.
رابعا: مرآة القارئ
وقد يكون النص مرآة لقارئه بنفسه، فيقرأ في (النص) ذاته؛ إذ قد تنعكس فيه أفكاره وروحياته ونفسياته، كما أنه قد يكون مثيراً لكوامن ذاته، فيمكن أن (يُدرَس) النص ويلاحَظ، من هذه الزاوية أيضاً، أي مدى ونوعية تأثيره في قارئيه وسامعيه، ومدى كاشفيته لذواتهم، لهم ولغيرهم. وإننا كثيراً ما نكتشف شخصية الأفراد، برصد ردود أفعالهم المباشرة، على خبر مفاجئ سمعوه، فنَخبُر بذلك بواطنهم وشجاعتهم أو جبنهم، وصلابة شخصيتهم وهشاشتها، وقوة أعصابهم أو ضعفها.
خامسا: مادة للدراسة
وقد تلاحظ (النصوص) بنحو (الموضوعية)(5) مع قطع النظر عن المضمون أي (المادة) والصدق والمطابقة للخارج أو للاعتقاد أو غير ذلك، فهي مما به يُنظر، لا مما فيه يُنظر، وذلك كما في علم النحو التطبيقي(6)، والصرف، والعروض، وبعض فروع علم (اللسانيات) كعلم تنظيم الأصوات.(7)
وعلى كل التقادير فإن ما (يهم) القارئ قد يكون (النص بذاته)، وقد يكون جنبة حكايته عن الواقع الخارجي أو الذهني، وقد تكون جهة مرآتيته للمؤلف أو المتكلم، وقد تكون جهة مرآتية لذاته، وقد تكون جهتان معاً من تلك الجهات الأربعة، أو ثلاث جهات، أو كلها بأجمعها، فهذه مجموعة الأقسام(8): أربعة منها أحادية(9)، وستة منها ثنائية، وخمسة ثلاثية، وواحدة رباعية، وهذا كله مع قطع النظر عن الدرجات والمراتب، ومع قطع النظر عن المطابقة وعدمها، وإلا تضاعفت الأقسام بشكل كبير جداً.
ثم إن ما (يهم) القارئ أياً كان، فإن (المفيد) للقارئ نفسه أو لمجتمعه، ينقسم إلى الأقسام الستة عشر السابقة أيضاً.
وقد يتطابق (ما يهم) مع (ما ينفع) مطلقاً أو في الجملة، وقد لا يتطابق. والحاصل من ضرب بعضها في بعض، صور كثيرة جداً، وليس هذا مجال تحليلها ودراستها، وإن كان من المفيد تسليط الأضواء عليها في علم النفس وعلم النفس اللساني، وفي بحث الوجود الذهني أيضاً.
سادسا: صانع الواقع
وقد يكون (النص) (صانعاً) (للواقع)، وسبباً له، بدل كونه (حاكياً) عنه، وذلك في كل أنواع الإنشاء من أوامر، ونواهي، وحضٍّ، وترجٍّ، وتمنٍّ، وغير ذلك.
والمراد من كونه صانعاً للواقع:
1: بنحو العلية، لإيجاد مداليلها(10) في عالم الاعتبار.
2: بنحو الاقتضاء، لمن أمَرَهُ أو نَهاهُ، أو حضّهُ أو ترجى لديه، لكي يوجد (المادة) في الخارج.
3: بنحو العلة المعدة لواقع آخر، فيما إذا كان محفزاً لتفكير القارئ بنفسه، أي للإنطلاق إلى عوالم جديدة، بتداعي المعاني، فيستخدم (النص) كـ(مثير) ومحفز.
رابعاً: بنحو العلية، لإيجاد مداليلها في عالم الخارج، كما في (العلم العِنائي) على رأي.(11)
سابعا: المنتج والمفيد
وقد يلاحظ (النص) على ضوء مذهب (الذرائعية)(12) فلا يرى قيمة للنص، إلا إذا كان ذا فائدة عملية. ولا يخفى أن هذا القسم الأخير، قد يعد من أقسام القسم السابق(13)، وقد أفرد بالذكر لإبتناء ذلك المذهب عليه.
وسيظهر لنا بشكل جلي، في مطاوي مباحث الكتاب، أن (الأصل) في النصوص أن تكون (مرآة للواقع) إذا كانت (إخبارات)، وأن تكون (صانعة للواقع)(14) إذا كانت (إنشاءات)، وأن غيرهما يشكل الإستثناء لا القاعدة، فقد يتحقق وقد لا يتحقق، وقد يكون مهماً وقد لا يكون، على أن (العدم)(15) هو الأكثر.
وسنشير لاحقاً إلى (التطرف) الغريب لدى علماء مذهبين من مذاهب الهِرمينوطيقا.
اضف تعليق