ماذا تعني (المعرفة)؟
لقد عرّف عدد من العلماء ومعاجم اللغة المعرفة بما يساوي (العلم)، كما اصطلح آخرون على أن للمعرفة معنى وللعلم معنى آخر، وارتأى آخرون أن العلم أعم من المعرفة، وعَكَسَ قوم فقالوا: أن المعرفة أعم من العلم نظراً لشمول المعرفة للحاصل من الوحي أو الإلهام أو الكشف والشهود، على القول به، وكذا الوجدانيات والأوليات والفطريات، من غير أن يطلق على ذلك (العلم)، حسب هذا الرأي.
فمن التعاريف: (معرفة: إدراك الشيء على ما هو عليه، علم، إطلاع)(1)، و: (معرفة: ما يتكون في الذهن من مفهوم لشيء، على ما هو عليه، علم، إطلاع)(2)، ومفاد هذين التعريفين مساواة المعرفة بالعلم، لذا عرفت به.
ورأى البعض أن (المعرفة على نوعين: بالإدراك المباشر، والمعرفة بالوصف)، وإذا ضم هذا التعريف أو التعريف اللاحق إلى تعريف (العلم) الآتي أفاد أعمية (المعرفة).
ورأى آخرون ـ وهو المنقول عن ابن حزم ـ أن (المعرفة قد تكون بشهادة الحواس وقد تكون بأول العقل ـ في الضروريات ـ وقد تكون ببرهان راجع من قرب أو بُعد لشهادة الحواس).(3)
وترى بعض أدبيات الموضوع: (تشتق كلمة C)gniti)n من اللاتينية C)gn)scer، وهي تشير إلى المعرفة الإنسانية أو الحيوانية بأشكالها المختلفة: إدراك، تعلم، ذاكرة، وعي، إنتباه، ذكاء)(4)، وظاهر هذا التعريف أن (المعرفة) أعم من (العلم).(5)
كما أن (العلوم المعرفية) تعد حسب المصطلح الحديث داخل دائرة العلم، كما يدل اسمها عليها أيضاً و(قد ظهرت هذه العلوم في الخمسينات، وهي تقوم على دراسة الفكر البشري بكل أشكاله، من القواعد العصبية البيولوجية إلى الحالات العقلية الواعية6).
وكان من العلوم المعرفية: علم النفس، علوم الأعصاب، الذكاء الاصطناعي، اللسانيات، وظاهر هذا المصطلح أن (العلم) أعم من المعرفة، ولذا كانت لنا علوم معرفية وغيرها.
ومصطلح العلم يعني (المعرفة النظرية، مثل: علم الهندسة، والفلك، والطبيعة، والكيمياء، والبيولوجيا، والعلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم النفس)(7)، وهذا التعريف يقع على العكس من سابقه.
و(المعرفة: فعل حصول الذات، عقلياً وعملياً، على شيء ما، لاكتشاف خواصه أو خصائصه... اعتبر بعض مفكري القرن التاسع عشر أن المعرفة الوضعية (تنحصر في البحث عن ظواهر وقوانين دون معرفة مبرر حدوثها ووجودها وهي التي تمدنا بها علومنا الاختبارية) هي وحدها المعرفة الصحيحة... قرر أوغست كونت: أنه كل ما لا يمكن لحظه واستنتاجه وقياسه، لا يمكن علمه ومعرفته).(8)
تقييم بعض التعريفات في العلم والمعرفة
ويلاحظ على التعريف الأخير للمعرفة ما يلي:
أولاً: إن المعرفة الصحيحة أشمل وأعم من معرفة الظواهر والقوانين، ومن معرفة العلل المعدة، والعلل التامة، ومن معرفة حقائق بعض الأشياء وبواطنها، وقد فصلنا ذلك في مبحث آخر.
ثانياً: إن العلوم الاختبارية إذا كانت لا تنال علل ومبررات الوجود، فهي لا تنال (القوانين) أيضاً؛ فإن (القوانين) ليست أمراً محسوساً، كالعلية تماماً، وعلى هذا فعليه أن يحصر العلوم في الظواهر ويخرج عن دائرتها (القوانين) وهذا ما لا يمكن لعالم أن يلتزم به.
ثالثاً: من البديهي لكل إنسان، وفي كل علم، وجود سلسلة من العلل والمعاليل، كوجود سلسلة من الظواهر والقوانين، وإن ذلك مما قد أحطنا به ـ أو ببعضه ـ خُبراً.
رابعاً: قوله (إن كل ما لا يمكن لحظه..) نقول: إن أراد (كل ما لا يمكن لحظه وقياسه)، أي بأدوات مادية حسية، فليس من الصحيح أنه (لا يمكن علمه ومعرفته) فإن أدوات المعرفة والعلم، قد تكون الحواس، وقد يكون الحدس أو الإلهام، وقد يكون العقل، وقد يكون القلب، على ما أشرنا لذلك في موضع آخر.
ويكفي نقضاً عليه أن قاعدته هذه هي قاعدة عقلية، لا يمكن لحظها وقياسها بأدوات مادية أبداً، كما هو ا لحال في جميع الكليات والقواعد؛ إذ المحسوس ليس إلا الجزئيات والمفردات فحسب.
خامساً: إن المعرفة الوضعية، كغيرها، قد لا تكون، بل كثيراً ما لا تكون؛ معرفة صحيحة، وقد فصلناه في موضع آخر.
هذا كله، مع قطع النظر عن المناقشة في قوله (فعل حصول الذات...) كما فصلناه في موضع آخر لدى البحث عن حقيقة العلم والمعرفة وأنه فعل أو انفعال أو إضافة أو غير ذلك وأيضاً أن الحاصل لدى الذهن عند المعرفة ما هو؟ هل الماهية أو الشبحٌ أو غير ذلك.
و(في مطلع القرن العشرين وضع مصطلح "اجتماعيات المعرفة" في معنى إظهار العلاقة المقامة بين الفكرويات أو المعتقدات من جهة، والمنازعات الاجتماعية منجهة ثانية، فجرى التفريق بين المعارف ومنها "المعرفة الاعتقادية، المعرفة الفكروية، المعرفة العلمية "غير الاعتقادية").(9)
و (المعرفة لها عند القدماء معان:
1: إدراك الشيء بإحدى الحواس.
2: العلم مطلقاً تصوراً كان أو تصديقاً.
3: إدراك الجزئي ـ سواء كان مفهوماً جزئياً أو حكماً جزئياً.
4: إدراك الجزئي عن دليل).(10)
وفي مجمع البحرين: (المعرفة باعتبار السبر قد يراد بها: العلم بالجزئيات المدركة بالحواس الخمسة...، وقد يراد بها إدراك الجزئي والبسيط المجرد عن الإدراك المذكور كما يقال: عرفت الله ولا يقال علمته. وقد يطلق على الإدراك المسبوق بالعدم، أو على الإدراك الأخير من الإدراكين إذا تخلل بينهما عدم، كما لو عرف الشيء ثم ذهل عنه ثم أدرك ثانياً، وعلى الحكم بالشيء إيجاباً أو سلباً).(11)
وقال البعض: (المعرفة تطلق على:
أ: الفعل العقلي الذي يدرك الظواهر ذات الصفة الموضوعية، ب: تطلق على نتيجة ذلك الفعل أي على حصول صورة الشيء لدى الذهن)، والظاهر أن الاطلاق الأول مجازي من باب تسمية السبب باسم المسبب، فإن الفعل العقلي سبب حصول المعرفة وليس هو المعرفة.
(وتطلق المعرفة عند المحدثين ـ حسب معجم لالاند ـ على أربعة معاني:
أ: الفعل العقلي الذي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن سواء كان حصولها مصحوباً بالانفعال أم غير مصحوب به، وفي هذا المعنى إشارة إلى أن في المعرفة تقابلاً واتصالاً بين الذات المدرِكة والموضوع المدرَك، ونظرية المعرفة تدرس المشكلات التي تثيرها علاقة الذات بالموضوع.
ب: الفعل العقلي الذي به يتم النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته بحيث تكون المعرفة الكاملة بالشيء خالية ذاتياً عن كل غموض وإلتباس أو محيطة موضوعياً بكل ما هو موجود للشيء في الواقع).(12)
يلاحظ على التعريف الأخير:
أ: أن تعريفه للمعرفة لا يشمل العلم الحضوري.
ب: ثم إن تعريفه لخصوص العلم الحصولي بما يتم به حصول صورة الشيء لدى الذهن، تعريف مبني على أحد الأقوال الستة(13) في حقيقة العلم الحصولي، وقد أشرنا لها في مبحث آخر.
ج: كما يلاحظ عليه أنه لم يوضح حقيقة وماهية ونوع ذلك التقابل والإتصال بين المدرِك والمدرَك، فهل هو إضافي أو انفعالي أو غيرهما، وهل التقابل بالجهة أم بالاعتبار؟ وهل الاتصال بالحلول أم بالاتصاف أم غير ذلك؟
(المعرفة) في الآيات الشريفة
ولعل الذي يستظهر من الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها مادة عرف أو مشتقاتها: أن الملاحظ في المعرفة:
أ: المصاديق والجزئيات، لا الكليات.
ب: درجة خاصة من الوضوح.
ج: المعرفة المباشرة من دون وساطة شيء.
هذا إضافة إلى أمرين آخرين ليسا بذلك الإطلاق:
د: قد تكون ظاهرة في المعرفة الحسية.(14)
هـ: قد ترمز إلى معرفة الشيء بعد الغفلة عنه.
فمثلاً قوله تعالى:
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)(15) فإن (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) مصداق جزئي والمعرفة بها هي معرفة مباشرة وحسية وواضحة جلية و(فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ)(16) فإن (ما عرفوه) مصداق جزئي، وهي واضحة جلية لديهم، ومعرفتهم به هي معرفة بعد سابق معرفة وتخلل غفلة، إذ المراد بـ(عَرَفُواْ) الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله والقرآن الكريم؛ ولذا قال تعالى: (وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ)(17)، وكانت معرفتهم بالرسول والقرآن عن طريق (التوراة) قراءة وسماعاً، فهي معرفة حسية إذن.
وكذلك قوله تعالى: (تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ)(18) و: (لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(19)، (وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا)(20)، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ)(21)، (وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ)(22)، (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)(23)، (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)(24)، (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ)(25) وهكذا سائر الآيات الشريفة، وكذلك الحال في الكثير من كلمات نهج البلاغة مما وردت فيها مادة المعرفة أو مشتقاتها وتحقيق القول في ذلك يستدعي مجالاً آخر، فراجع وتدبر وتأمل.
نعم، لا يخفى أن الاستعمال أعم من الحقيقة، إلا أنه قد يكون المستظهر من كثرة التكرار، ومناسبات الحكم والموضوع أن ما ذكر هو الحقيقة.
كما أن الظاهر عدم صحة استعمال (علم) في كل أو أغلب تلك الآيات الشريفة، اللهم إلا بعناية، فتأمل.
ماذا يعني العلم؟
وأما (العلم) فإن الحديث عنه طويل، وسنكتفي بهذه الإشارة فحسب:
فقد قيل: بأن (العلم) بحث بمنهج ولهدف، فهو معرفة الشيء على ما هو به، وهو بمعنى المعلوم:
أ: العلم بمعنى العمل فالعلم النافع لا يتخلف عن العمل.
ب: قد يراد بالعلم الجزاء.
ج: إلا أن المعنى الحقيقي للعلم هو الإدراك، ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم المعرفة، لكن العلم يقال لإدراك الكلي أو المركب، والمعرفة تقال لإدراك الجزئي أو البسيط.(26)
يلاحظ على هذا التعريف:
أ: إنه تعريف بالأخص؛ إذ ليس (كل فاقد للمنهج أو الهدف فليس بعلم).
ب: إن العلم هو نتيجة البحث، وليس البحث بنفسه بل (البحث) والدراسة والفحص، سبب العلم.
ج: العلم مرآة المعلوم وليس بمعنى المعلوم، نعم المعلوم بالذات، وهو الصورة الذهنية، هي العلم، لكنه ليس مقصوده ظاهراً.
د: العلم مقتضٍ للعمل النافع، وليس هو العمل النافع.
هـ: العلم بالجزاء مصداق للعلم لا غير.(27)
وفي مجمع البحرين: (وجاء العلم بمعنى المعرفة، كما جاءت بمعناه؛ لاشتراكهما في كون كل منهما مسبوقاً بالجهل).(28)
لكن الظاهر أن المسبوقية بالجهل هي ظرف(29) وليست مقوماً أو قيداً أو شرطاً، ولذا يصدقان (العلم والمعرفة) حتماً حتى على غير المسبوق بالجهل كالله جل جلاله، من غير تجوز، بل هو الأحق باطلاق العام عليه.
ثم إنه كان الأولى أن يعلل مجيئ التعريف بالعلم، بمعنى المعرفة، بـ(لاشتراكهما في كون كل منهما كاشفاً عن الواقع) أو ما أشبه.
ختاماً لقد جرينا في هذا الكتاب على قاعدة (الظرف والجار والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا) فكلما ذكرنا (المعرفة) وحدها أو (العلم) وحده، أردنا الآخر أيضاً، وكلما جمعناهما كان المراد من (المعرفة) ذلك الحاصل من غير الطرق العلمية، أو خصوص ما يتعلق بالميتافيزيقيا، ولعلنا نلتزم بذلك دائماً، لكنه مما لا يسبب إعضالاً بعد دلالة السياق ونوع الأدلة والشواهد على المراد.
ولقد تناولنا (المعرفة) بالبحث والدراسة في مواضع عديدة من هذا الكتاب، كما ركّزنا في مبحث آراء هِرمينوطيقية مفصلية، على آراء منوعة عن نسبية المعرفة، فلنكتف ههنا بهذا المقدار.
اضف تعليق