q

التفسير الواقعي لقوله تعالى:

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}([1]).

لو فرضنا جدلا ان الانسان قد يطلع على بعض الاسرار التي تتعلق بمستقبل حياته وبما سيجري عليه من مصدر ما فه بهذه الحال اما ان يكون على يقين من هذا المصدر ويتحسب لما سيكون بيقين، وأما ان لا يكون متيقن من المصدر فلا يعير اي اهمية لتنبؤات ذلك المصدر.

ابناء فتيات قريش تيقنوا تنبؤات النبي صلى الله عليه واله كمصدر لا يحتمل منه الخطأ فهو رسول السماء الصادق وعملوا بموجب تلك التنبؤات بكل صلف فتصديقهم بالرسول لا يتعدى دنياهم وحسب وكأنهم خلقوا لها، ولم يفكروا بان هذا النبي الصادق يمكن ان ينقذهم لو التصقوا به للنجاة وسألوه ان ينقذهم من ذلك المستقبل فهم على يقين من قدرته على الشفاعة، لكنهم رأوا انه يبشرهم فتيقنوا، ولم يروا انه ينذرهم بانهم ممن باع اخرته بدنياه فجحدوا.

لنلاحظ كيف تصرف بنو امية وبنو العاص مع تنبؤات الرسول صلى الله عليه واله لهم وكيف حفظوا تلك الوصايا وكيف يحاجون بها وكأنها يقين لا حيود فيه.

جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله قوله: (اذا بلغ آل ابي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا ودينه دخلا ([2]))([3]).

(قال معاوية لابن عباس وهو معه على السرير: انشدك الله يابن عباس اما تعلم ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذات يوم: اذا بلغ آل الحكم ثلاثين رجلا، اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباده خولا وكتابه دخلا، فاذا بلغوا سبعة وتسعين واربع([4]) مأته كان هلاكهم اسرع من لوك تمرة فقال ابن عباس: اللهم نعم، ثم ان مروان ذكر حاجته لما حصل في منزله فوجه ابنه عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها فقضاها، ثم رجع فلما ادبر عبد الملك، قال لابن عباس: انشدك الله يابن عباس، اما تعلم ان رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر هذا فقال: هذا أبو الجبابرة الاربعة؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم. فعند ذلك دعا معاوية زيادا)([5]).

وروى الطبرى في تاريخه والواقدى وعامة رواة الحديث: ان الحكم بن ابي العاص كان سبب طرده وولده مروان حين طردهما رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الحكم اطلع على رسول الله صلى الله عليه وآله يوما في داره من وراء الجدار بقوس ليرميه فهرب وفي رواية انه قال للنبي في قسمة خيبر: اتق الله يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: لعنك الله ولعن ما في صلبك، اتأمرنى بالتقوى وانا جئت به من الله لعنك الله اخرج، فلا تجاورني. فلم يرا الاطريدين حتى ملك عثمان فادخلهما)([6]).

وقال قال ابن أبي الحديد: ((وفي (أغاني أبي الفرج): قال مروان لمعاوية لمّا عزله عن الامارة:

(رويدا رويدا، فقد بلغ بنو الحكم، وبنو بنيه نيفا وعشرين، وإنّما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ. ثمّ هم للجزاء بالحسني والسوء بالمرصاد).

قال أبو الفرج في هذا التهديد من مروان لمعاوية: هذا رمز إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم: (إذا بلغ بنو أبي العاص، أربعين رجلا اتّخذوا مال اللّه دولا، وعباد اللّه خولا).

وبكل صفاقة كان بنو العاص يتفاخرون بالعار ويذكّرون انّهم سيلون أمر الامّة إذا بلغوا إلى هذه العدّة وليخذوا مال اللّه دولا، وعباد اللّه خولا.

وهكذا غضب معاوية سنخهم في نجاسة المولد وذكره بصفته الحقيرة التي اطلقها عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لمروان: (يا ابن الوزغ لست هناك، فقال مروان: هو ما قلت لك، وإنّي الآن لأبو عشرة وأخو عشرة، وعمّ عشرة، وقد كاد ولد أبي أن يكمّلوا العدّة يعني أربعين ولوقد بلغوها لعلمت أين تقع منّي).

فانخذل معاوية مثيله في الصفاقة وسكت. فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت لك سقطة مثلها ما هذا الخضوع لمروان؟ وأيّ شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وما الّذي تخشاه منهم؟

فقال معاوية: ان الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع امّ حبيبة لمّا زفت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم، وهو يتولىّ نقلها إليه، فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلم يحدّ النظر إليه. قيل له: لقد أحددت النظر إلى الحكم. فقال: «ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر من بعدي» فواللّه لقد تلقّاها مروان من عين صافية))([7]).

لاحظ عبارته الاخيرة: (تلقاها مروان من عين صافية)؛ والله العظيم انه الكفر بعينه، نعم فقد رأى بنفسه انه استولى على منبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحول الخلافة الاسلامية الى ملك عضوض لبني امية بتحذير مماثل من لدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل يصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع معاوية ولا يصدق مع مروان؟؟؟!

ثم لم يخف منه مثل ما كان يخاف من خصومه من غير ابناء فتيات قريش؟!

نعم؛ فقد استيقن معاوية تحذير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مروان سنخه في النجاسة، وعضيده في حزب ابناء الفتيات، لكنه جحد وصايا النبي في عترته واهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ استيقنها معاوية ومروان وجحدتها انفسهم.

وهذا مصداق لقوله تعالى: ({وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل: 14]).

2- تيقن عمر من ارادة الله وخيار رسوله في تنصيب علي عليه السلام للخلافة وجحوده ذلك:

اولا- قناعة عمر بعلي عليه السلام:

جاء في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي عن ابن عبّاس: (كنت عند عمر، فتنفّس نفَساً ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت، فقلت: ما أخرج هذا النفَس منك يا أمير المؤمنين إلّا همٌّ شديد!

قال: إي واللَّه يابن عبّاس! إنّي فكّرت فلم أدرِ فيمن أجعل هذا الأمر بعدي. ثمّ قال: لعلّك ترى صاحبك لها أهلاً!

قلت: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه!

قال: صدقت! ولكنّه امرؤ فيه دعابة.....

ثمّ أقبل علَيَّ بعد أن سكت هنيهةً، وقال: أجرؤهم واللَّه، إن وليها، أن يحملهم على كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لصاحبك! أما إن وليَ أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء والصراط المستقيم!([8])

وجاء في المصنّف عن عبد الرحمن القاري: (إنّ عمر بن الخطّاب ورجلاً من الأنصار كانا جالسين... ثمّ قال عمر للأنصاري: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟

فعدّد رجالاً من المهاجرين، ولم يُسمِّ عليّاً.

فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن! فواللَّه إنّه لَأحْراهم، إن كان عليهم، أن يقيمهم على طريقة من الحقّ!([9]).

ثانيا- الدعابة في علي عليه السلام مانع من توليته الخلافة:

جاء في شرح النهج للمعتزلي:

(ثم أقبل على علي عليه السلام، فقال: لله أنت، لولا دعابة فيك، أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على المحجة البيضاء والحق الواضح ([10]).

فما هذه الدعابة؟!

وفي البحار عن تاريخ بن اعثم: نزل (عمر بن الخطاب) فأخذ بيد عبد الله بن العباس وخرج من المسجد، ثم تنفس الصعداء وقال: إني لا أجزع من الموت ولكن أحزن على هذا الامر بعدي، فقال له عبد الله: ما تقول في علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد لاح لك أمره في الهجرة والقرابة والسوابق؟. فقال: صدقت ([11]) يابن عباس! وإني لأعلم منه أنه لو صار إليه لأقام الناس على المحجة البيضاء، ولكني يمنعني منه دعابة فيه وحرصه على هذا الامر..([12]).

فما هذه الدعابة التي تنقض مؤهلات سيد الوصيين عليه السلام للخلافة؟

لا يسعني الاجابة بعجالة هنا على معنى الدعابة عند عمر ليلصقها في ولي الله الأعظم ولتكون له حجة يمنع الامام المبين عليه السلام من ممارسة تكليفه المناط به من قبل الله ورسوله.. لكني ارشد طالب الحقيقة في هذا السؤال الى الجزء السادس من كتاب الغدير للعلامة الاميني (قدس الله روحه) ؛ فانه تضمن كل معالم الاثر في علم عمر، ليجد ان الرجل فارغ تماما من كل علم الا من سطوته بالدرة على من يجد، فكان الامام علي عليه السلام يرى ان خليفة سيد المرسلين كثيرا ما يغرق في طست من الماء فينقذه، وهو عليه السلام ينظر اليه في كل مرة بعد الانقاذ نظرة يفهم عمر معناها فيظن انه يسخر منه بدعابة، ولكي يكون عمر مصداقا للعارف بما يأتي من حلول على يد الامام علي عليه السلام كان في كل مرة يقول قولته المشهورة: (لولا علي لهلك عمر) او يقول: (اللهم لا تبق لمعضلة ليس لها ابوالحسن).

3- عمر بن الخطاب يرى ان الرسول يزيغ في امر علي عليه السلام:

يزيغ او يربع كما في بعض ألمصادر. والأولى تعني انه يميل لعلي والثانية تعني انه يترفق بعلي، وهوما يعتبره عمر عيب في رسول الله صلى الله عليه واله صححه هو حزبه في انقلاب السقيفة.

جاء في شرح النهج: ((ومما يدل على ذلك (علم عمر بنص الرسول على خلافة علي عليه السلام) ؛ ما رواه ابن أبي الحديد في الجزء الثاني عشر من شرحه على النهج في سلك الاخبار التي رواها عن عمر، قال: روى ابن عباس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام ([13])، فانفرد يوما يسير على بعيره، فاتبعته، فقال لي: يا بن عباس! أشكوا إليك ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولم ازل أراه واجدا، فيما تظن موجدته؟

قلت: يا أمير المؤمنين! إنك لتعلم.

قال: أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة؟ قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله (ص) أراد الامر له.

فقال: يا بن عباس! وأراد رسول الله صلى الله عليه [وآله] الامر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك، إن رسول الله (ص) أراد أمرا وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسول الله، أو كلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله كان إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله تعالى فلم يسلم!))([14]).

لاحظ ان عمر يظن ان الله اصطفاه ولم يختر عليا لان ارادة الرسول وارادة الله متعارضتان فالله اراد ابا بكر وعمر والرسول اراد عليا، فمضت ارادة الله ولم تمض ارادة الرسول، وهو قول يدل على ان عمر يشعر بالفوقية التي يعاني منها المنجرفون، وقوله هذا محض كذب على الله، ثم هو طعن بالله ورسوله، فوفقا لهذا الراي يكون كل الجبابرة الذين استولوا على السلطة بالقوة والغدر والحيلة جاءوا بإرادة الله وهذا فيه نسبة الظلم لله تعالى علوا كبيرا.

وقد تأكد هذا الزعم من قبل عمر، فقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قول عمر في اشارة الى رزية الخميس: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله أراد أن يذكره للامر في مرضه (اي يؤكد امر خلافة علي عليه السلام)، فصددته عنه خوفا من الفتنة وانتشار أمر الاسلام، فعلم رسول الله (ص) ما في نفسي وأمسك، وأبي الله إلا إمضاء ما حتم ([15]).

اي حسب رأي عمر؛ ان خلافته (اي عمر) هي حتم الله الذي مضى رغم هنة الرسول في حبه لعلي عليه السلام؟! وبهذا فان عمر يطعن برسول الله ويعطي لنفسه مكانة من الله افضل مما هي لرسول الله صلى الله عليه واله من الحرص على الاسلام وسلامة الامة وان الرسول يزيغ او يربع – كما يقول عمر- عن الحق في امر علي عليه السلام!!!

فقد روي أيضا في الموضوع المذكور، عن ابن عباس، قال: (دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة، فدعاني إلى الاكل، فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه، ثم شرب من جرة كانت عنده، واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله.. يكرر ذلك، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟. قلت: من المسجد. قال: كيف خلفت ابن عمك؟. فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع أترابه. قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان ويقرأ القرآن. قال: يا عبد الله! عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟. قلت: نعم. قال: أيزعم أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] نص عليه؟.

قلت نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه [وآله] في أمره ذرؤ من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يزيغ([16]) في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام، لا ورب هذا البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لا انتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه [وآله] أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم.

هكذا كان عمر يتصور نفسه انه حتم الله وانه يعلم اكثر مما يعلم الله والرسول وانه احرص من الله ورسوله على الامة. ولما علم الله ورسوله دخيلة عمر وانه بهذه الدرجة من العلم غيرا رأيهما وامضيا ما انطوت عليه نفس عمر.

هكذا الشيطان يزين لإتباعه ليضلهم وليضل بهم، وهكذا بلغنا داعش عن عقيدة عمر يظن انه الوحيد في الكون القابض على الحقيقة وان كل ما عداه كفار يجب ان يموتوا.. وهكذا صار وكان والامة تدفع ثمن سكوتها على الانقلابيين الى ما شاء الله تعالى.

ايضا قال ابن أبي الحديد ([17]): ذكر هذا الخبر احمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا([18]).

4- عمر يتهم الرسول صلى الله عليه واله بانه يهجر:

تعتبر واقعة رزية الخميس التي تؤكدها كل كتب الصحاح عندهم والتي تصرح بعزيمة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على كتابة كتاب لهم لن يضلوا بعده، ومنع عمر بن الخطاب إيّاه من كتابته، وهي واقعة غريبة ومثيرة. فرسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الذى مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، قد قرّر في آخر لحظات حياته بيان بعض الاُمور للاُمّة الإسلاميّة. وحتى لو كان الرسول شخصاً عاديّاً كان ينبغي تلبية طلبه ذاك، ناهيك عن أنّه أعلن بأنّ هدفه من كتابة تلك الوصيّة هو أن لا تضلّ بعده الاُمّة أبداً، وهذا هدف يطمح إليه كلّ إنسان حريص على الاسلام ووحدة الامة.

المثير للدهشة في هذا المجال هو أنّ عمر بن الخطاب عارض ذلك الطلب البسيط الذي ينطوي على نتيجة كبرى. وأسباب تلك المعارضة واضحة مع ما برر به عمر من قوله بانه منع الرسول صلى الله عليه واله حرصا منه على الاسلام والامة بقوله: (ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه(يقصد عليا) فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام، لا ورب هذا البنية لا تجتمع عليه قريش (يقصد عليا) أبدا، ولو وليها لا انتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه [وآله] أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم).

ويستفاد من واقع ما جرى مباشرة في حضرة الرسول صلى الله عليه واله وما اكدته المصادر التاريخيّة بأنّ هناك فئة كانت تعاضد عمر وتؤازره في موقفه في رزية الخميس لحاجة مخطط لها، بوجود جماعة ضغط كان لها حضور حتى في المجالس الخاصّة للرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بحيث إنّ الجدل واللغط اشتدّ، وأصبحت كتابة الوصيّة غير ذات جدوى.

5- اورث عمر الصفاقة لتابعيه:

وبصفاقة –مع الاسف- حاول مدعي العلم إثبات صحّة عمل الخليفة بالانتقاص من الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لانه يهجر بمعنى يهذي كما يهذي المريض من شدة مرضه، فقالوا:

«إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ لأنّه خشي أن يكتب (صلى اللّه عليه وآله وسلم) اُموراً ربّما عجزوا عنها واستحقّوا العقوبة عليها؛ لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها»([19]).

وصفاقة مثلها ما برر القاضي عيّاض رزية الخميس بتحريفها عن صورتها الأصليّة، لتجميل صورة عمر القبيحة في الانتقاص من الرسول صلى الله عليه واله وأوردها على نحو مقلوب، بقوله:

(أهَجَر رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ هكذا هو في صحيح مسلم وغيره: أهَجَر؟ على نحو الاستفهام، وهو أصحّ من رواية من روى: هجر أو يهجر؛ لأنّ هذا كلّه لا يصحّ منه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّ معنى هجر: هذى. وإنّما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنكار على من قال: لا تكتبوا؛ أي لا تتركوا أمر رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه؛ لأنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يهجر، وقول عمر: حسبنا كتاب اللَّه، ردٌّ على من نازعه، لا على أمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) »([20]).

فهل ثمّة تحريف أوضح من هذا؟ فلو لم يكن ما قاله عمر بالنص موجوداً في صحيحي البخاري ومسلم، لوصل إلينا بهذا الشكل المحرّف الصفيق للقاضي عيّاض.

.............................................
هوامش البحث:
1) النمل – 14.
2) الدول جمع دولة بالضم وهوما يتداول من المال فيكون لقوم دون قوم: الخول: الخدم والعبيد. الدخل بالتحريك: العيب والغش والفساد. والمراد منه هنا: ان يدخلوا في الدين امورا لم تجربها السنة النهاية لابن الاثير
3) مسند ابن حنبل: 4/160/11758، المستدرك على الصحيحين: 4/527/8480-8478، مسند أبي يعلى: 2/52/1147، المعجم الصغير: 2/135، المعجم الأوسط: 8/6/7785؛ روضة الواعظين: 311.، [كنز العمال 31738]، أخرجه أبو يعلى (11/402، رقم6523)، وابن عساكر (57/254). المستدرك بتعليق الذهبي (4/ 526)؛ هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وشاهده حديث أبي سعيد الخدري تعليق الذهبي قي التلخيص: على شرط مسلم
4) تسعة وتسعين وأربع مئة وكذا في كنز العمال ج 11 ص 361
5) كتاب العمدة (1/ 484-485): ((عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب امام الابرار تأليف الحافظ يحيى بن الحسن الاسدي الحلي المعروف بابن البطريق (533 - 600) مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة)).
6) الاصابة ج 1 ص: 345، 344، والاستيعاب لابن عبد البر: ج 1 ص: 317-316
7) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة - (ج 238/ص 16)ز
8) شرح نهج البلاغة: 12/51 وج 6/326.، عنه موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ (4/ 83)
9) المصنّف لعبدالرزّاق: 5/446/9761، الأدب المفرد: 176/582 وراجع أنساب الأشراف: 3/14 والعقد الفريد: 3/284 وتاريخ الطبري: 4/228 والكامل في التاريخ: 2/220. عنه موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ (4/ 83)
10) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/186. بحار الأنوار - العلامة المجلسي (31/ 389)، والمسعودي في مروج الذهب 3/253، والفائق للزمخشري 3/275 - 276 دار المعرفة - بيروت [2/ 425 - 426]..
11) في تاريخ ابن أعثم: والله - يا بن عباس - وإنه لكما تقول، ولوأنه ولي هذا الامر من بعدي لحملكم - والله - على طريقة من الحق تعرفونها.
12) تاريخ ابن أعثم 1/326/عنه: بحار الأنوار/جزء 31/صفحة[395]
13) في المصدر: في إحدى خرجاته.
14) شرح النهج لابن أبي الحديد 12/78 – 79، عنه بحار الأنوار - العلامة المجلسي (30/ 554)
15) ابن ابي الحديد في في شرحه على النهج 12/20؛ كشف اليقين: 462/562، كشف الغمّة: 2/46، بحارالأنوار: 38/156.
16) الزيغ هو الحيود عن الحق الى الجور والظلم.
17) شرح النهج لابن أبي الحديد 12/21
18) ذكره في الصحاح 4/1350، وانظر: النهاية 2/37، ومجمع البحرين 5/46. وعليك دماء البدن: قسم بوجوب نحر البدن لو كتم ما سأله من أمر الخلافة. وذرؤ من قول.. أي طرف منه ولم يتكامل،. والزيغ - بالزاي والياء المثناة من تحت والغين المعجمة -: الجور والميل عن الحق، والضمير في يزيغ أمره راجع إلى علي عليه السلام، أي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخرج عن الحق في أمر علي عليه السلام لحبه إياه أوإليه صلى الله عليه وآله، والمراد الاعتذار عن صرفه عما أراد بأنه كان يقع في الباطل أحيانا.
19) شرح صحيح مسلم للنووي: 11/99 هامش الحديث 1637.
20) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: 2/194.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق