الأسباب الظاهرية: فهي أمور تجري ضمن القوانين الطبيعية والتي قد تكون بيد الإنسان، وعليه أن يسير فيها لكي يصل إلى النتيجة، فمن أراد أن يسافر فمن الطبيعي أن يقطع المسافة إمّا بالمشي أو السيارة أو الطائرة أو أي وسيلة أخرى، وبدون ذلك فلا يمكنه أن يقطع...

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا}(1).

هناك أسباب قدّرها اللّه سبحانه وتعالى في هذا العالم، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ونحن»(2). فلا يمكن للإنسان أن يصل إلى النتيجة إذا هيّأ تلك الأسباب.

إن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الأشياء من غير مقدمات، كما خلق آدم (عليه السلام) من غير أبوين، وخلق عيسى (عليه السلام) من غير أب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(3)، إلّا أن حكمته اقتضت أن تجري الأمور عبر أسبابها، فيكون كل شيء عن طريق الأسباب إلّا ما استثني، فاللّه قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة: {إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(4)، ولكن الحكمة اقتضت أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، أي: ست مراحل، قال تعالى: {قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ}(5). وقال تعالى: {وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ}(6).

ثم إن الأسباب على قسمين: ظاهرية وواقعية.

أمّا الأسباب الظاهرية: فهي أمور تجري ضمن القوانين الطبيعية والتي قد تكون بيد الإنسان، وعليه أن يسير فيها لكي يصل إلى النتيجة، فمن أراد أن يسافر فمن الطبيعي أن يقطع المسافة إمّا بالمشي أو السيارة أو الطائرة أو أي وسيلة أخرى، وبدون ذلك فلا يمكنه أن يقطع المسافة ويصل إلى المكان الذي يريده.

وأمّا الأسباب الواقعية: فهي الأمور التي لا تجري ضمن القوانين الطبيعية بل هي غيبيّة وهي خارجة عن اختيار الإنسان، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل طريقاً للإنسان لتحصيل بعض تلك الأسباب.

ولنذكر مجموعة من الأمثلة:

المثال الأوّل: الموت

السبب الواقعي لموت الإنسان هو العامل الغيبي، فمرّة يقبض اللّه روح الإنسان بصورة مباشرة، وهناك أناس يقبض أرواحهم عزرائيل ملك الموت، وآخرون يقبض أرواحهم أعوان ملك الموت، قال سبحانه: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا}(7)، وقال: {قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ}(8)، وقال: {حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا}(9)، إلّا أن السبب الظاهري للموت هو الأسباب الطبية المعروفة أو الأعراض كحادث سير مثلاً، أو غير ذلك، فهناك سبب واقعي وظاهري.

واللّه سبحانه وتعالى جعل السبب الواقعي متزامناً مع السبب الظاهري؛ ولذا فمع شدة نار جهنم لا يموت فيها أهلها، قال تعالى: {وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ}(10)، وقال عزّ وجلّ: {كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ}(11)، فسبب الموت الظاهري هناك لا يؤثر، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يريد موته.

إذا كان كذلك، فما هو تكليفنا؟

والجواب: إن الإنسان إذا عمل بالسبب الظاهري فاللّه سبحانه وتعالى قد يرتب السبب الواقعي، إلّا أننا ليس لنا طريق للأسباب الواقعية، إلّا أن ندعو اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا، بأن يجعل الأسباب الواقعية وفق ما نريده بما فيه المصلحة، وأن نتوكل على اللّه سبحانه وتعالى، والتوكل يعني أن نعمل بما علينا ونترك الأسباب التي ليست بيدنا إلى اللّه سبحانه وتعالى.

المثال الثاني: رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بين العمل والتوكل

رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أفضل مخلوق خلقه اللّه، ومع ذلك كان يسير وفق الأسباب الطبيعية، فعندما أراد المشركون أن يقتلوه خرج من مكة، وهكذا خرج موسى (عليه السلام): {فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُۖ}(12)، ثم في الحروب التي شنت ضدّه راعى جميع الأسباب الظاهرية.

ينقل أن ضابطاً في إحدى الجيوش العربية درس غزوات الرسول (صلى الله عليه وآله) بمنظار حربي فقال: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أتخذ أفضل الخطط العسكرية الحربية، والهزيمة التي حدثت في أحد كانت بسبب مخالفة المسلمين، فالرماة الذين كانوا على ثغر الجبل تخلّوا عنه، وخالفوا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) ولذا حصلت الهزيمة.

إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لا يحتاج إلى رأي المسلمين؛ لأنه معصوم مسدّد من قبل اللّه سبحانه وتعالى، لأن العصمة تعني أنه لا يخطأ ولا يسهو ولا يغلط في قوله وفعله وفكره، سواء كان في ما يرتبط بالتبليغ أم في القضايا العادية، ومع ذلك يقول له اللّه سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ}(13) وهذه صيغة أمر، والأمر يدل على الوجوب، وهذا يعني أنه يجب على الرسول أن يشاورهم، لا لحاجة له إلى آرائهم، وإنّما تحبيباً لقلوبهم وهذا من الأسباب الظاهرية.

نعم، نحن نحتاج للمشورة لأنه توجد عندنا أخطاء وجهل فلنحاول اكتشاف ذلك من خلال المشورة، ولذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(14).

ثم قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ}(15)، أي: إذا رتبت كل المقدمات، فتوكل على اللّه. لأن هناك أسباب خارجة عن إرادتك وهي التي ترتبط بمشيئة اللّه تعالى بأن تترتب النتائج على المقدمات أم لا.

المثال الثالث: الرزق والعلم

إن السبب الواقعي للرزق هو تقدير اللّه تعالى له، لكن قرن هذا السبب الواقعي بالسبب الظاهري، فمن ذهب للعمل فسوف يرزقه اللّه، وأمّا لو أصبح الإنسان كسولاً متكلاً على غيره ولم يعمل بالأسباب الظاهرية، فاللّه سبحانه وتعالى لا يرتب السبب الواقعي، حتى وإن دعا اللّه ليل نهار.

وهكذا بالنسبة إلى العلم هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء لكن بعد أن يدرس ويجد لكي يحصل على العلم. إن علماءنا الكبار قضوا عمرهم الشريف في الجد والاجتهاد والسهر لطلب العلم، فإنّ من طلب العلى سهر الليالي.

المثال الرابع: علم الدين

إن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يدخل هذا الدين في قلب كل إنسان، كما أوحى إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وإلى أم موسى، وإلى النحل، فكان يمكنه أن يوحي هذا الدين لكل فرد منّا، لكنه جعل لذلك طريقاً ظاهراً وهم الرسل ومن بعدهم الأوصياء (عليهم السلام)، فقد أرسل الرسل وأنزل الكتب، والرسول واسطة بين اللّه وبين الناس، وجعل بعد الرسل أوصياء، فقد اختار رسول اللّه محمّداً (صلى الله عليه وآله) واصطفاه لرسالته، وجعل بعده الأئمة (عليهم السلام)، فحجة اللّه موجودة في الأرض من يوم أن خلق اللّه آدم إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، فآدم (عليه السلام) أوّل حجة للّه، فبدأ اللّه بالخليفة قبل الخليقة، فخليفة اللّه على الأرض موجود، وإذا مات سابق يأتي لاحق، ولذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ}(16): «ما نميت من إمام أو نُنسه ذكره نأت بخير منه من صلبه مثله»(17)، لأنه إذا لم يكن هناك إمام فالأرض سوف تبقى خالية من الحجة، بينما ورد عنهم (عليهم السلام): «لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها»(18).

فالأنبياء (عليهم السلام) هم الطريق الظاهر لتبليغ الرسالات، وبعدهم الأوصياء (عليهم السلام).

وأمّا في زمن الغيبة فالعلماء الربّانيون، وهذا ما أشار له قوله (عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(19)، أي: يرجعون إليه في مسائل الدين.

والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يعمل بالأسباب الظاهرية، ويوكل الأسباب الواقعية إلى اللّه سبحانه وتعالى، فإذا فعل هذا فسوف يوفقه اللّه سبحانه وتعالى، لأنه يقول: {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ}(20).

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

..................................... 

(1) سورة الطلاق، الآية: 3.

(2) الكافي 1: 183.

(3) سورة آل عمران، الآية: 59.

(4) سورة يس، الآية: 82.

(5) سورة فصلت، الآية: 9-12.

(6) سورة ق، الآية: 38.

(7) سورة الزمر، الآية: 42.

(8) سورة السجدة، الآية: 11.

(9) سورة الأنعام، الآية: 61.

(10) سورة إبراهيم، الآية: 17.

(11) سورة النساء، الآية: 56.

(12) سورة القصص، الآية: 21.

(13) سورة آل عمران، الآية: 159.

(14) نهج البلاغة 4: 41.

(15) سورة آل عمران، الآية: 159.

(16) سورة البقرة، الآية: 106.

(17) تفسير العياشي 1: 56؛ بحار الأنوار 4: 116.

(18) بصائر الدرجات: 509.

(19) وسائل الشيعة 27: 131؛ الاحتجاج 2: 263.

(20) سورة الطلاق، الآية: 3.

اضف تعليق