إن فكرة الجبر تسرّبت إلى أفكار كثير من منتحلي الإسلام، ومنشؤها بعض الحكام الظلمة؛ لأنهم أرادوا أن يوهموا الناس بأن كل الجرائم التي ارتكبوها إنّما هي من اللّه، لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد هكذا، وإرادة اللّه لا تتغير ولا تتخلّف عن المراد. وهذه مغالطة، إذ إنه...

قال اللّه تعالي في كتابه الكريم: {وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ * ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ}(1).

إن الإنسان مركّب من جسم ونفس وروح، والجسم مركّب من الأعضاء، والنفس والروح أجسام لطيفة مركبة، وحينما أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يخلق الخلق كان يعلم مصير كل مخلوق؛ لأنه تعالى عالم بكل شيء، بما كان وما يكون وما هو كائن، وما لم يكن، ولكن علمه سبحانه وتعالى ليس هو السبب لأفعال العباد.

ولتقريب الفكرة إلى الأذهان نذكر المثال التالي: إننا نعلم يقيناً لا شك فيه أنه في يوم غد ستشرق الشمس، إلّا أن علمنا هذا ليس علة وسبباً لشروق الشمس، واللّه سبحانه وتعالى من الأزل يعلم بمصير كل مخلوق، فقبل أن يخلق الخلق يعلم بأهل الجنة، وبأهل النار، لكن علمه ليس سبباً لدخول أهل الجنة في الجنة، ودخول أهل النار في النار.

إن فكرة الجبر تسرّبت إلى أفكار كثير من منتحلي الإسلام، ومنشؤها بعض الحكام الظلمة؛ لأنهم أرادوا أن يوهموا الناس بأن كل الجرائم التي ارتكبوها إنّما هي من اللّه، لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد هكذا، وإرادة اللّه لا تتغير ولا تتخلّف عن المراد. وهذه مغالطة، إذ إنه من الصحيح أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى لا تتخلف عن المراد، لكنه تعالى لم يُرِد إجبار الناس، وإنّما أراد اختيارهم، فخلقهم مختارين.

واختيارنا هو سبب لأعمالنا، فمن يصلّي يكون مختاراً، وهو الذي اختار الصلاة، وذاك الذي لا يصلّي خلقه اللّه سبحانه وتعالى مختاراً، وهو باختياره لا يصلّي، قال تعالى:

 {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(2)، يعني بيّن لها ما هو الفجور، وما هي التقوى، ثم قال: {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(3).

 فلا جبر في الأمر، مع أن اللّه سبحانه وتعالى منذ الأزل يعلم أن هؤلاء سيختارون الإيمان ويدخلون الجنة، وأولئك سيختارون الكفر ويدخلون النار.

وقد يتساءل إنه وردت روايات كثيرة في أن اللّه خلق المؤمنين من طينة عليين وخلق الكفار من طينة سجين، أليس ذلك من الجبر؟

والجواب: كلّا ذلك لا يؤدّي إلى الجبر، وبيان ذلك:

إن اللّه سبحانه وتعالى خلق فرعون ـ مثلاً ـ وكان يعلم بأنه سيختار الكفر فكان من مقتضى الحكمة أن يكون خَلْقه من عنصر يتناسب مع النار التي سوف يدخلها، وعندما خلق اللّه سبحانه وتعالى مؤمن آل فرعون ـ مثلاً ـ كان يعلم بأنه سيختار الإيمان فكان مقتضى الحكمة أن يكون خَلْقه من عنصر مناسب للجنة يوم يدخلها. ولأن اللّه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، فلا يفعل شيئاً خلاف الحكمة؛ لذا ففي اليوم الذي أراد أن يخلق فرعون لم يخلقه من مادة رفيعة؛ لأن المادة الرفيعة لا تناسب جهنم، وحينما خلق مؤمن آل فرعون لم يخلقه من مادة وضيعة؛ لأن تلك المادة لا تناسب الجنة، فعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن اللّه خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم مما دون ذلك، فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ * يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ}(4) وخلق عدونا من سجين، وخلق شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية: {كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٞ * كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ}(5)»(6).

وهذا لا يعني أنهم مجبرون على فعل الخير، وإنّما يكون ذلك باختيارهم، فاللّه سبحانه وتعالى يعلم منذ الأزل أن هذا الإنسان إذا خلقه فهو يختار الإيمان، ولذا خلقه من طينة عليين، وكذلك يعلم أن ذاك سيختار الكفر لذا خلقه من طينة سجين، وسجين مأخوذ من السجن(7)، وهي طبقة من طبقات جهنم(8).

والحاصل: إن علم اللّه سبحانه وتعالى لا يكون سبباً لأعمالنا، لكن حكمته اقتضت أن يخلق الإنسان من طينه تناسب ما سيختاره من عمل.

إن الطينة التي خلق اللّه منها أرواح النبي وأهل بيته (عليهم السلام) لها تركيبة خاصة، فعن عن أبي الحجاج قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «يا أبا الحجاج، إن اللّه خلق محمّداً وآل محمّد من طينة عليين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينة دون عليين وخلق قلوبهم من طينة عليين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمّد، وان اللّه خلق عدو آل محمّد من طين سجين، وخلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين فقلوبهم من أبدان أولئك وكل قلب يحن إلى بدنه»(9).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين، وخلق أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا»(10).

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

............................................ 

(1) سورة البقرة، الآية: 45-46.

(2) سورة الشمس، الآية: 7-8.

(3) سورة الشمس، الآية: 9-10.

(4) سورة المطففين، الآية: 18-21.

(5) سورة المطففين، الآية: 7-9.

(6) بصائر الدرجات: 35.

(7) انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 10: 290، وفيه: «والسجين: فعيل من السجن... وقيل: السجين هو السجن على التخليد فيه، لأن هذا الوزن للمبالغة».

(8) انظر: التبيان في تفسير القرآن 10: 298، وروي في الخبر «أن سجين جب في جهنم».

(9) بصائر الدرجات: 34.

(10) بصائر الدرجات: 39.

اضف تعليق