إن الزيغ القلبي قد يتسبب في أن ينحرف الإنسان أكثر وأكثر، حتى يأتي يوم لا يتمكن من فعل شيء إزاء هذا الانحراف الكبير، مع أنه كان في بدايته بسيطاً، وفي يوم ما سيمتحنه اللّه تعالى امتحاناً كبيراً، ومن المحتمل أن يفشل في هذا الامتحان الكبير...

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ}(1).

إن اللّه سبحانه وتعالى أراد هداية الناس بإرادة تشريعية، لا بمعنى إكراههم على الهداية؛ لأنه لو شاء فعل، كما قال: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ}(2)، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لم يشأ مشيئة تكوينية بأن يكره الناس كلهم على الإيمان، وإنّما شاء مشيئة تشريعية بأن يهتدوا كما قال: {وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ}(3)، فالمشيئة التشريعية تعني أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل الهداية مع جعل الإنسان مختاراً في قبولها أو رفضها، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا}(4)، وقال عزّ وجلّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ}(5)، فاللّه سبحانه وتعالى أنزل هدايته ولكن أراد اختيار الناس فلم يكرههم على قبولها، لكي يتم الامتحان؛ لأنه لا معنى لامتحان المجبور، وأمّا المختار فهو الذي يتحقق الامتحان فيه؛ لأن المكره لا يتمكن من الترقّي والصعود إلى درجات الكمال، كالحيوانات التي تسير باتجاه معين، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى ألقى الغريزة في روعها، قال تعالى: {وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ}(6)، لذا فالحيوانات لا تتطور ولا تتغير، فهي منذ آلاف السنين على حالتها، وأمّا الإنسان فقد أراد اللّه سبحانه وتعالى منه أن يرتقي إلى الكمالات، إلّا أن هذا الرقي يحتاج إلى أن يعمل باختياره لكي يصل إلى المقامات العالية.

إذن، فاللّه سبحانه وتعالى أراد هداية الناس جميعاً بإرادة تشريعية دون إكراههم على قبولها؛ ولذا هيّأ أسبابها ومقدماتها. وقد تحقق ما أراده اللّه تعالى بصدور الأحكام والتشريعات وباختيار الناس في قبولها أو رفضها.


حكمة التدريج

إن اللّه قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحد، بل في أقل من لحظة، لكن حكمته شاءت أن يكون الخلق في ستة أيام، أي: ستة مراحل مختلفة، واللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق بشراً من طين من دون مقدمات، كما خلق آدم (عليه السلام)، لكن حكمته شاءت استثناء آدم وحواء وعيسى (عليهم السلام) فقط دون سائر البشر.

إن الإنسان يتكون من عناصر الأرض، ثم تجتمع هذه العناصر في المأكولات، ثم تتحوّل إلى صلب الرجل ورحم المرأة، فالجنين أوّل ما يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً، قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ}(7)، وعندما يولد الطفل لا يعلم شيئاً، قال تعالى: {وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا}(8)، ثم يتكامل جسمه وعقله، فيحتاج إلى زمان طويل لذلك.

إن الإنسان يحتاج إلى زمان لكي يصل إلى درجة البلوغ والنضج، وهذه من حكمة اللّه سبحانه وتعالى، حيث اقتضت التدريج بالأمور، وجعل نظام الأسباب والمسبّبات؛ لذا نلاحظ حينما يذكر اللّه سبحانه وتعالى قصة ذي القرنين يكرر قوله تعالى: {فَأَتۡبَعَ سَبَبًا}(9)، {ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا}(10).

فاللّه سبحانه وتعالى أراد أن تكون الهداية عبر أسبابها، فجعل للإنسان فطرة وركبها عليه في عالم الذر، وجعل له عقلاً لكي يدرك حسن الأشياء وقبحها بفطرته وعقله، ويدرك صحة الكلمات عن فسادها؛ لذا فالحجة على الناس تامة يوم القيامة: {فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ}(11)، فلا يحق لأيّ أحد أن يعترض على اللّه سبحانه وتعالى، ويقول: لماذا تعذّبني؟ ولو قال ذلك لقيل له: لأن الحجة كملت عليك، فقد كان عندك عقل وفطرة فلماذا خالفت عقلك وفطرتك؟!

ثم إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل الرسل للناس؛ لأن الإنسان قد يغفل عن عقله، كما أن بعض الأمور لا يدركها العقل أو الفطرة، وخاصة في تفاصيل المسائل، فالرسل (عليهم السلام) يبينون للإنسان هذه التفاصيل، وقد ورد ذلك في نهج البلاغة: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول»(12)، فالإنسان عنده عقل لكن في بعض الأحيان يكون هذا العقل مُسيطراً عليه بسبب سوء التربية وسوء العادات الاجتماعية، فيكون عليه غطاء، والإنسان لا يلتفت لذلك، فالأنبياء (عليهم السلام) يأتون ويزيلون هذا الركام الموجود على العقل.

إن الآيات التي وردت في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة هي ـ عادة ـ إرشاد إلى ما في فطرة الإنسان وعقله؛ لذا فكلام الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كلام متطابق مع العقل والفطرة، فاللّه سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء (عليهم السلام) لأجل الهداية، وبعدهم يأتي دور الأوصياء، وهؤلاء لهم أتباع يحملون هذه الرسالة ويوصلونها للناس، وهم العلماء، قال تعالى: {ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ}(13).

فالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) يؤدون دورهم، لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل للآخرين أدواراً، فالعلماء لهم دور مهم، حيث يتلقون الأحكام من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ويوصلونها إلى الناس، بل كل فرد له دور؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(14)، لذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة عامّة، وليس هي وظيفة العلماء فقط.

نماذج من الهداية والضلال

النموذج الأوّل: الآباء والأبناء

إن رب الأسرة مسؤول تجاه أولاده، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا}(15)، صحيح أن النبي (صلى الله عليه وآله) مسؤول وكذلك الوصي والفقيه والمجتمع، لكن رب الأسرة مسؤول أيضاً عن تربية أولاده؛ لأن: {قُوٓاْ} من الوقاية والحفظ، فلا يحق لرب الأسرة أن يقول: هذا ليس تكليفي! بل كما أوجب اللّه سبحانه وتعالى على رب الأسرة أن ينفق على أسرته، كذلك أوجب عليه أن يهديهم ويمنع الضلالة عنهم.

إننا مع الأسف، نرى أن هناك حالة منتشرة، وهي أن الأب يفكر في طعام ابنه وملابسه ومدرسته، والأمور التي ترتبط به، فيهيئ له وسائل الراحة ويوفر له التقنية الحديثة، وهذا أمر جيد، بل قسم منه واجب، لكن هناك تكليف آخر وهو أن يهتم الأب بهداية ابنه، لا أن يتوقع من الآخرين أن يهدوه.

روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه نظر إلى بعض الأطفال فقال: «ويل لأطفال آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول اللّه، من آبائهم المشركين؟ فقال: لا من آبائهم المؤمنين، لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلموا أولادهم منعوهم، ورضوا عنهم بعرض يسير من الدنيا، فأنا منهم برئ وهم مني براء»(16). فبعض الآباء يفكر في دنيا أولاده ـ في ملبسهم ومأكلهم وتزويجهم، وتهيئة وسائل الراحة والدراسة ـ لكن لا يفكر في دينهم.

فهناك بعض الشباب لهم انطلاق ذاتي في التّدين، وهذا صحيح، وبعضهم يسافرون إلى بلاد الكفر، ويرجع أكثر تديناً، ولكن ليس الكل هكذا، فوجود الأجواء الدينية يفيد الشباب، وأمّا إذا لم توجد أجواء دينية فقد ينحرف الإنسان، وإذا كان صغيراً فسوف تكون المشكلة أكبر؛ لأن الطفل كلما يكون سِنّه أقل تكون قابليته للتعلم والتلقّي أكثر؛ لذا يلزم على الإنسان أن يهتم بالطفل. فقد ورد في الأحاديث: إنه ينبغي تعليم الطفل الصلاة وهو في سن سبع سنين: فعن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: «إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش والغرث(17) أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا»(18). فينبغي على الأب أن يوقظ ابنه لصلاة الفجر، لكي يتعلم على ذلك، لأن (من شبّ على شيء شاب عليه).

إن الأجانب يحاولون نشر ثقافتهم عن طريق فكرة العولمة، وهي تعني توحيد ثقافة العالم على نمط ثقافتهم، فهم يحاولون غزو العالم بهذه الطريقة؛ لأن الغزو العسكري عن طريق السلاح قد فشل، فحاولوا غزو عقول المسلمين؛ وذلك من خلال الوسائل التقنية الحديثة. لذا يجب علينا أن نربي أولادنا تربية صحيحة، فإذا ربيناهم تربية صحيحة فسوف تكون جذورهم جذوراً صحيحة وسوف لا يكون للثقافة الأجنبيّة أي تأثير عليهم.

وهكذا الحال بالنسبة للأمر الثقافي، فإذا كانت التربية صحيحة فسوف يكون أثرها على الإنسان جيداً، فهناك وسائل مناعة يمكن أن نستعملها لتجنب الوقوع في ما يريده أعداء الإسلام. ويجب علينا أن نختار الأسلوب المناسب لهم، فإذا فعلنا ذلك فسوف ينطبق علينا قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ}(19)، ففي يوم القيامة نكون مع ذريتنا على سرر متقابلين، ولا نكون من الذين قال عنهم اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ}(20).

النموذج الثاني: النبي موسى (عليه السلام) وبنو إسرائيل

إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل موسى (عليه السلام) لإنقاذ بني إسرائيل، فبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب (عليه السلام)، وقد كان عنده اثنا عشر ولداً، ومن كل ولد له ذرية، فبنو إسرائيل من ذرية الأنبياء.

إن موسى (عليه السلام) هو المتفضل على بني إسرائيل؛ لأنه أنقذهم من فرعون وقومه، وقد شاهدوا المعاجز بأمّ أعينهم. من عصا موسى واليد البيضاء، ورأوا الآيات التسع، وفلق البحر، وشاهدوا عقاب آل فرعون قال تعالى: {وَلَقَدۡ أَخَذۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ}(21)، وقال سبحانه: {وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ}(22).

وبعد أن فلق موسى (عليه السلام) البحر بالعصا، وعبر بنو إسرائيل البحر قالوا له: {ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ}(23)، وقد ورد في الحديث الشريف: «وأنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لموسى {ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ}»(24)، فما هو السبب في ذلك؟

والسبب واضح، وهو أنهم قبل مجيء موسى كانوا قد تربوا في مجتمع وثني كافر يؤلّه فرعون، صحيح أنهم ليسوا من ذلك المجتمع، لكن تلك الحضارة كانت حاكمة، والحضارة الحاكمة تؤثر على المحكومين، كالحضارة الغربية الآن؛ لذا قد يتأثر أولادنا وبناتنا ومجتمعنا بها.

ولأن بني إسرائيل كانوا في مجتمع يعبدون الأصنام ويعتبرون فرعون من الآلهة حيث كان يقول: {مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي}(25)، ويقول: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ}(26)، لذا عندما عبروا البحر وكانت جذورهم الدينية ضعيفة، فبمجرّد أن رأوا جماعة يعبدون صنماً قالوا لموسى: {ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ}، إلّا أن موسى (عليه السلام) عاتبهم وذمّهم ولكن لا فائدة، فقد ارتدوا بمجرد أن غاب عنهم قال تعالى: {وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ}(27).

فهؤلاء كانوا يتصوّرون أن موسى (عليه السلام) ذهب للطور لمدة ثلاثين ليلة، وعندما مضت الثلاثون ولم يرجع تصوّروا أنه مات، فانقلبوا على هارون (عليه السلام)، وصنع السامري لهم العجل فعبدوه، ثم إنهم أرادوا قتل هارون (عليه السلام): {قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ}(28)، والحال أن موسى (عليه السلام) قد تفضّل عليهم وأنقذهم من فرعون وقومه.

النموذج الثالث: أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)

وهكذا الحال بالنسبة للمجتمع الذي بُعث فيه الرسول محمّداً (صلى الله عليه وآله)، فقد آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) مجموعة من الناس، وكان إيمان كثير منهم صحيحاً وحقيقياً، لكنهم هربوا في غزوة أحد بمجرّد أن دارت الدائرة على المسلمين، وسبب دوران الدائرة مخالفتهم لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) وعصيانهم، كما أشار اللّه لذلك بقوله: {وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ}(29)، ففي البداية أراهم اللّه ما يحبون من النصر، لكنهم عصوا وبعد العصيان انهزموا، مع أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان موجوداً يقول تعالى: {إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ}(30)، والمنادي يناديهم: يا فلان يا فلان يا فلان فلم يفد، بل هربوا إلّا القليل(31).

وهكذا الحال في يوم خيبر، كما يروي ذلك الحاكم في مستدركه، والسند صحيح عندهم، فقال عن جابر: «أن النبي (صلى الله عليه وآله) دفع الراية يوم خيبر إلى عمر فانطلق فرجع يجبن أصحابه ويجبنونه»(32).

وقال الهيثمي وغيره: وعن ابن عباس قال: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم إلى خيبر أحسبه قال أبا بكر فرجع منهزماً ومن معه، فلما كان من الغد بعث عمر فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح اللّه عليه، فثار الناس، فقال: أين علي؟ فإذا هو يشتكي عينيه فتفل في عينيه ثم دفع إليه الراية فهزها ففتح اللّه عليه»(33).

وكذلك يوم حنين، حيث يقول تعالى: {وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(34)، فقد انهزم المسلمون في يوم حنين إلّا القليل، مع أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان موجوداً بينهم؛ لذا كان يناديهم ليرجعوا؛ لأن الفرار من الزحف من الكبائر، قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ}(35).

إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي»(36)، وقد قال هارون (عليه السلام): {إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ}(37)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام)، فإذا كان أصحاب موسى (عليه السلام) ينقلبون وهم من ذرية الأنبياء، ويعبدون العجل بدل أن يعبدوا اللّه سبحانه وتعالى، فليس بمستغرب أن ينقلب أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله)، فهم ليسوا ذرية الأنبياء، وإنّما كانوا من المشركين، فهداهم اللّه سبحانه وتعالى ببركة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعندما التحق الرسول (صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى قاموا بانقلاب وقد رووا: أن عمر بن الخطاب كان يقول: إن بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللّه شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه(38).

ومن هنا نطرح هذا السؤال: لماذا حصل هذا الانقلاب؟

والجواب هو: إن أكثر الناس كانوا مشركين، حيث قضوا معظم حياتهم في عبادة الأصنام، وكانت تربيتهم تربية جاهلية، صحيح أن الرسول (صلى الله عليه وآله) جاء وهداهم، ولكن جذور أكثرهم لم تتغير؛ لذا ظهرت هذه الجذور في الأزمات وفي المواقع الحساسة، فقد ذكر في كتب التواريخ والسيرة: أن مجموعة من المسلمين عندما حصلت الهزيمة في معركة أحد أرادوا أن يأخذوا الأمان من المشركين ويرتدّوا(39)، بعد أن انتشر بينهم أن الرسول قُتل، فقال اللّه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ}(40).

مقدمات الضلالة والهداية بيد الإنسان

في القرآن الكريم: {رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ}(41).

إن الهداية والضلال من اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ}(42)، ولكن بما أن اللّه سبحانه وتعالى عادل فإن إفاضته الهداية لبعض الناس، وإضلال بعضهم ليس عبثاً وليس قسراً؛ لأنه ليس من العدل أن يُضل اللّه إنساناً بالجبر ثم يلقيه في جهنم من دون أن يكون هذا الإنسان هو السبب في الضلال؛ لذا فإن إضلاله سبحانه لبعض الناس وهدايته لبعضهم الآخر ليس عبثاً، وإنّما الإنسان هو الذي يهيّئ المقدمات، وبسبب تلك المقدمات فإن اللّه سبحانه وتعالى يرتب النتيجة.

مثلاً: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الجاذبية للأرض، فأي شيء نلقي به من الأعلى سيسقط إلى الأسفل، وقد جعل اللّه عظام الإنسان تتكسر إذا ارتطمت بالأرض، فإذا ألقى الإنسان بنفسه من شاهق، فسوف يسقط إلى الأرض وتتهشم عظامه ويموت، والذي هشّم عظامه وأماته هو اللّه سبحانه وتعالى، ولكن هذا الإنسان لم يكن مجبراً على ذلك؛ لكنه هو الذي هيّأ مقدمة الموت باختياره، فهو أقدم على الانتحار بإرادة تامة من نفسه عندما ألقى بنفسه من ذلك الارتفاع الشاهق.

هكذا تكون الهداية والضلال، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يهدي وهو الذي يضل، لكن مقدمة ذلك تبدأ من الإنسان، فاللّه تعالى سيهديه إذا هيّأ مقدمة الهداية، ويضله إذا هيّأ مقدمة الضلال.

إن منطقة الهداية والضلال هي قلب الإنسان، فكل ما هو موجود في قلبه يظهر في عمله؛ وفي القرآن: {رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا}، فاللّه تعالى هدانا، ويَمُنُّ علينا بالهداية والإيمان: {بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ}(43)، فقد هدانا بلطفه ورحمته، ولكن يمكن لقلوبنا أن تزيغ، والزيغ هو الانحراف عن الطريق(44)، و(زاغ بصره): بمعنى انحرف عن المكان الذي يريد أن يراه.

إن الزيغ القلبي قد يتسبب في أن ينحرف الإنسان أكثر وأكثر، حتى يأتي يوم لا يتمكن من فعل شيء إزاء هذا الانحراف الكبير، مع أنه كان في بدايته بسيطاً، وفي يوم ما سيمتحنه اللّه تعالى امتحاناً كبيراً، ومن المحتمل أن يفشل في هذا الامتحان الكبير؛ فإن المقدمات الصغيرة يمكن القضاء عليها بسهولة، ولا يصح للإنسان أن يقول: هذه معصية عادية، وسوف استغفر اللّه منها، واللّه كريم سوف يغفرها لي، كلا، لأن الآية الكريمة تقول: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ}(45)، ولأن الانحراف الصغير يجر إلى انحراف أكبر، فخطوات الشيطان مثل السلاسل، إذا تحركت حلقة واحدة فسوف تتحرك باقي الحلقات، كذلك الذنب الصغير يجر ذنباً ثانياً وثالثاً ورابعاً، حتى يصل الإنسان إلى أن يكون كعمر بن سعد حين يقول:

يقولون إن اللّه خالق جنة --- ونار وتعذيب وغل يدين

فإن صدقوا في ما يقولون إنني --- أتوب إلى الرحمن من سنتين(46)

لكنه لم يتب؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى سلب منه التوفيق للتوبة، فقد زاغ قلبه، وعندما يزيغ القلب فإن اللّه سوف يضله حتى يصل إلى نار جهنم.

لذا علينا أن نهيّئ المقدمات الاختيارية الصحيحة للهداية، حتى لو كانت صغيرة، وأن نتجنب مقدمات الضلال حتى وإن كانت حقيرة، لأننا يمكن أن نتجنبها في بداية الأمر، لكن إذا استمرت فسوف يستفحل المرض. ولنحاول أن نحافظ على طهارة قلوبنا، فإذا وجدنا انحرافاً في يوم من الأيام فلا بدّ أن نرجع لجادة الصواب، ونصحح ما صدر منّا.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

................................................ 

(1) سورة التحريم، الآية: 6.

(2) سورة يونس، الآية: 99.

(3) سورة الزمر، الآية: 7.

(4) سورة الإنسان، الآية: 3.

(5) سورة فصلت، الآية: 17.

(6) سورة النحل، الآية: 68.

(7) سورة المؤمنون، الآية: 14.

(8) سورة النحل، الآية: 78.

(9) سورة الكهف، الآية: 85.

(10) سورة الكهف، الآية: 89 و92.

(11) سورة الأنعام، الآية: 149.

(12) نهج البلاغة 1: 23.

(13) سورة الأحزاب، الآية: 39.

(14) عوالي اللئالي 1: 129.

(15) سورة التحريم، الآية: 6.

(16) مستدرك الوسائل 15: 164؛ جامع أحاديث الشيعة 21: 408.

(17) الغرث: الجوع.

(18) الكافي 3: 409.

(19) سورة الطور، الآية: 21.

(20) سورة التغابن، الآية: 14.

(21) سورة الأعراف، الآية: 130.

(22) سورة النمل، الآية: 12.

(23) سورة الأعراف، الآية: 138.

(24) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 324؛ بحار الأنوار 40: 160.

(25) سورة القصص، الآية: 38.

(26) سورة النازعات، الآية: 24.

(27) سورة البقرة، الآية: 51.

(28) سورة الأعراف، الآية: 150.

(29) سورة آل عمران، الآية: 152.

(30) سورة آل عمران، الآية: 153.

(31) بحار الأنوار 20: 113، وفيه: «في قوله: {إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ} قال: فلم يبق معه من الناس يوم أحد غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورجل من الأنصار، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي، قد صنع الناس ما ترى، فقال: لا واللّه يا رسول اللّه لا أسأل عنك الخبر من وراء، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أما لا فاحمل على هذه الكتيبة، فحمل عليها ففضها، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا رسول اللّه، إن هذه لهي المواساة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إني منه وهو مني. فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا منكما».

(32) المستدرك على الصحيحين 3: 38.

(33) مجمع الزوائد 9: 124؛ المصنف 8: 521؛ كنز العمال 10: 463؛ تاريخ مدينة دمشق 42: 96.

(34) سورة التوبة، الآية: 25-26.

(35) سورة الأنفال، الآية: 16.

(36) الكافي 8: 106؛ مسند أحمد بن حنبل 1: 175؛ كتاب البخاري 4: 208؛ كتاب مسلم 7: 120؛ سنن ابن ماجة 1: 42؛ سنن الترمذي 5: 302؛ فضائل الصحابة: 13.

(37) سورة الأعراف، الآية: 150.

(38) وانظر: مجمع الزوائد 6: 5؛ فتح الباري 12: 129؛ المصنف 5: 441؛ المعيار والموازنة: 321؛ وانظر: البخاري 8: 26، وفيه عن عمر بن الخطاب قال: «إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن اللّه وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا...».

(39) انظر: بحار الأنوار 20: 27، وفيه: «وفشا في الناس أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: فالحقوا بدينكم الأوّل...».

(40) سورة آل عمران، الآية: 144.

(41) سورة آل عمران، الآية: 8.

(42) سورة القصص، الآية: 56.

(43) سورة الحجرات، الآية: 17.

(44) انظر: لسان العرب 8: 432، مادة (زيغ).

(45) سورة الروم، الآية: 10.

(46) اللهوف على قتلى الطفوف: 193.

اضف تعليق